جميعنا مشدودون إلى ما كان يُسمّيه الأولّون (عربة الدهر) منذ الولادة إلى الممات، وتُنير طريقنا كوكبة الحظّ إلى جادّة الحياة الهادئة والسليمة. لكن أحداثا تجري في حياة البعض، وتترك في نفوسهم أثرا مفجعا، فينطفئ بريق هذه الكوكبة، ويقوموا عند ذاك بخبط عشواء تؤدي بالعربة إلى أن ترتطم بالصخور وتتحطم، ليذوقوا عندها مرارة التعاسة والذلّ، بعد أن كانوا يرفلون في السعادة والعزّ.
ونحن ندخل حانة (مِزيان) في شارع الحمرا، انتبهت إلى أن في خنصر السيدة مضيّفتي خاتما ذهبيّا فخما. استقبلها مدير الحانة بالترحاب، ودلّنا على الطاولة المحجوزة. جلسنا، وقدّمتني إليه قائلة:
– أريدك أن تعتني بصديقي العراقيّ، وتقدّم لنا أفضل ما عندك.
هي (م. العمري) فنانة تشكيلية فرنسيّة الجنسيّة، أبوها عراقيّ وأمها لبنانيّة، قضت أكثر سنينها في الدنمارك، وتقيم الآن، بعد انفصالها عن زوجها، بين طنجة وبيروت، شوقا لحياة طليقة. لكنها ركضت في الحقيقة بحياتها إلى الخلف مسافة بعيدة، إلى أن غابت في دوامة من الهموم والمحن، تعيشها كلّ يوم. وقف على خدمتنا مدير الحانة نفسه، واختارت السيدة كأس نبيذ، وطلبتُ زجاجة بيرة (تيبورك).
– بيرة دنماركية. أينما ذهبت تلاحقني الدنمارك!
قالت السيّدة بنصف صوت، ثم راحت تشكو من الثلوج في الشوارع هناك وعلى سقوف المباني، ومن أكوام الملابس التي تُثقل على ظهرها لاتّقاء البرد القارس، فتصير عجوزا بسبب تقوّس قامتها. إنها تحاول أن تبعد عنها الشيخوخة لا بالظنّ وحده، لكن بالاعتقاد والإيمان الأكيد. طريقة تجمّلها اليوم لطيفة، أعطتها حيوية مع شيء من روح الشباب. كنتُ أفكّر بزجاجة البيرة، وقلت:
– لكنها تركيّة الصنع.
أخذ النادل يصبّ البيرة في كأسي، ورفعت السيدة الزجاجة في الضوء، وكان في وجهها نباهة وآثار حُسن. قالت:
– اقرأ ما مكتوب هنا: «صنع في الدنمارك».
– صحيح! صار لي عمر أشرب هذه البيرة، ولم أنتبه.
قلتُ، وراحت مضيّفتي تتحدث عن معرض للرسم تقيمه هذا الشهر لكنني لا أستطيع حضور افتتاحه، لأن موعد عودتي إلى بلدي قريب. اللهجة اللبنانية لها إيقاع منغّم، ترتعش الحروف بحلاوة وطلاوة وتحفر في النفس أكثر، وبلسان امرأة تكون عزفا على قيثارة أو نقرا على دف. أنهيتُ زجاجة التيبورك، وسألت المدير عن أنواع العرق لديه، وكانت السيدة تحتسي كأسها متمهّلة، وتتكلم، وتضحك.
إنها تجاهد كي تُزيل أو تخفّف من وطأة العناء والألم عن ملامح وجهها، لكن دون فائدة. قبل سنين، وعندما كانت تقيم مع زوجها في الدنمارك، كانت ترسم بالألوان المائيّة مشاهد مضيئة من الطبيعة والحياة التي تعيشها: وجوه وأزهار واشجار… ما يُطلق عليه في عالم التشكيل (حياة صامتة) وفي السنين الأخيرة صارت تهتمّ بالتجريد بواسطة الزيت على الكانفاس. في كل جلسة تضمّ اثنين، وإن كانا رجل وامرأة، يجب أن يعمي الأعين دخان السياسة، وهكذا رحنا نتحاور عن الأحداث الأخيرة في بيروت وغزّة، ولا بدّ في الختام من تلاوة شيء من الشعر. (م. العمري) هي المرأة الوحيدة التي تنادم جليسها بشعر أدونيس، بعد أن تطلب من النادل أن يأتيها بالأزهار والشمع الطويل. راحت تقرأ لي وتشرب النبيذ وتدخّن، ولم يبقَ في بالي غير هذين البيتين:
«الليلُ مركبةٌ تحملُ خطوي
وتحملُ الصحراء».
لماذا يذكر شعراؤنا الصحراء في قصائدهم كثيرا. والسؤال الأصحّ هو لماذا رسخ هذان البيتان عندي من بين الشعر الكثير الذي قرأته السيّدة. يقول سعدي يوسف:
«نحن لن ننجو من الصحراء / حتى لو نزعنا جلدنا / حتى ولو نمنا، طويلا، تحت أطباق الجليد»
رحتُ أردّد هذا الشعر في طريق عودتي إلى الفندق، وقد صار الاتّفاق أن أزورها في بيتها في الأشرفيّة، وأشاهد أعمالها الجديدة.
الطبّ القديم والشِّعر القديم
تعيش السيّدة وحيدة في المنزل الذي يعود إلى جدّها لأمها، لجأت إليه أخيرا لأنها خسرت كلّ مالها في مغامرات عبثيّة وصبيانيّة. رغم أنها تجاوزت السبعين، كانت تبدو ممتلئة وهي ترتدي معطف القندس الأبيض اللون، ثم خلعته لمّا استقرّ بنا الحال في الصالة، وبانت رشاقة عودها التي نجحت في الاحتفاظ بها، بثوبها القصير بلون الزعفران وشرائطه الحمراء. كانت تلوح على وجهها علائم ليلة مؤرقة، وتكتم في أعماقها شيئا من القلق، وعندما ضيّقت عينيها لاحظتُ أنها تعرف كلّ ما كنت أفكّر به.
كان أبو جدّها يعمل طبيبا، وصورته المعلّقة في صدر الصالة، راكبا على حصانه مرتحلا بين القرى ليعود مرضاه، يعود تاريخها إلى عام 1840. نظرته ناريّة وسمته مهيب، بالإضافة إلى الشعور بالتفوّق المتعجرف الذي هو صفة الأطباء الشرقيّين في كلّ زمان. كلّ شيء في البيت نظيف ومنظّم، وأرواح الأسلاف ما تزال تعيش عبر تذكارات محنّطة على الجدران. عصا وقبعة وحقيبة يدوية كان يحملها النطاسيّ العتيد، بالإضافة إلى صور ورسوم وعملات نقديّة، وغير ذلك مما تعدّه السيّدة ذخائر مقدّسة، لم يكن لها أثر في تنبيهها إلى مهابة الاسم العائلي عندما تركت زوجها وأولادها في الدنمارك، واتجّهت إلى حياة اللهو. هناك وصفة طبيّة مؤطّرة بخطّ الجدّ وإمضائه، فيها ذكر لأعشاب الكزبرة والحلبة والدارسين، يُغلى الخليط الذائب في الماء، ثم يُعامل بمحّ بيضة ويُخفق الناتج لمدة ربع ساعة.
وهذه رسالة يشرح فيها مريض يقطن قرية عند أعلى الجبل أوصاف دملة ظهرت أعلى ظهره، ولأن الثلوج الكثيفة أغلقت الطرقات، فلا يستطيع الطبيب الانتقال إلى المريض، وبعث له برسالة فيها تعاليم تشرح تسخين البصل والثوم وربطهما إلى مكان الدملة على ظهره، على أن تبقى هناك طوال الليل، مع تناول حساء سميك من السمك والدجاج والبقر ودزينة بيض، ويخلط الكل مع عصيدة فول وشراب الدارسين والحليب المحلّى بالعسل… هل يستطيع أحد المضيّ في قراءة هذا الهُراء؟ لو كان المريض مصابا بداء السكّري وتناول هذا الغذاء، فإن التسمّم الجرثومي في عروقه حاصل لا محالة. وهذه وصفة لمعالجة داء النقرس: سلطة الأناناس وطيور السمّان مطبوخة مع التمر واللوز وقرون الفلفل. وصفة أخرى: «فراريج بالمشمش مع سفائن تُدُرّج بمعجون التمر». نحتاج إلى قاموس لنعرف معنى سفائن. لا أدري لمَ تذكّرتُ شعرنا القديم وأنا أمضي في قراءة ما حفظه لنا بيت السيّدة العمري من بدائع وعجائب في الطبّ القديم. كأن الروح ذاتها أبدعت الاثنين، الشعر والطبّ، في الماضي. كما أن قصيدة واحدة من القريض تشبه جميع ما في دواوين الشعراء، مثلما تتماثل خطوات علاج الأطباء القدامى لجميع الأمراض. كم اختلف الأمر في زماننا عن تلك العهود، ومن يدري بماذا يحلم أطبّاؤنا وشعراؤنا في المستقبل في إنجاز أعمالهم؟ هذا لا يعني أن طبّنا في الماضي كان فاشلا مئة في المئة. هنالك نسبة منه صحيحة، وبإمكانها شفاء عدد محدود من الأمراض، بالطبع. لو فتّشنا طبّنا القديم لوجدنا ما يستحقّ منه العيش في الوقت الحاضر، يساوي ما نقرأه الآن ونعجب به من شعرنا القديم. واتتني هذه الفكرة بعد أن شربتُ القهوة التي قدّمتها لي وللسيّدة خادمة المنزل الفلبينيّة، وكان الوقتُ ضحى، أي أن موعد كأس خمري الأولى ما يزال بعيدا للغاية.
كان المنزل ساكنا، مغمورا بالنور والزينة. قادتني السيّدة بعد فنجان القهوة عبر ممرّ طويل شبابيكه عالية، وتطلّ على حديقة يأتي النسيم منها مضوّع بالتين والياسمين. في الجانب الآخر من البيت يقع المشغل، وعلى الجدران لوحات تجريديّة مع بدلات للأطفال أخبرتني السيّدة أنها حاكتها من شعر الكلاب السلوقيّة، تقليعة لا أدري من أين أتت بها من إحدى جهات الدنيا. لكن من يكسي أولاده بهذا النوع من الملابس، كما أني لا أفهم كثيرا فيما يدعونه بالتجريد في الفنّ التشكيلي، ألوان عديدة تلطّخ قماشة الرسم دون ترتيب أو نيّة في إبداع شيء محدّد. أدعوه بالرسم الآليّ، لا لأن الآلة تستطيع إنجازه، فالذكاء الصناعيّ جهّزنا بأدوات بإمكانها رسم الموناليزا ولوحات روبنز في ثوانٍ قليلة، لكن لأن على الفنّان أن يتصوّر نفسه آلة لا ترى ولا تسمع ولا تتكلّم، وبالتالي يقوم بأعمال التجريد، أي التلطيخ اللوني على اللوحة. يُقال إن فيه تفلسفا صوفيّا، وأنا لا أفهمه، وهذا كلّ ما في الأمر، وينطبق الكلام على لوحات السيّدة العمري في معرضها الجديد.
كم يعبث الزمن في مصائرنا دون أن يكون لنا الحقّ حتى في الاحتجاج، يدوسنا ويجعلنا مكدومي الروح! كانت السيّدة العمري حديديّة لمّا عرفتها قبل حوالي عقدين، وأحلامها تتحقّق في الحال. قد يتعرّض الفنّان إلى أسوأ محنة ممكنة تقوّيه عندما تحطّمه لكن لا تقتله، وتحدث أحيانا طفرة إبداعيّة لديه من جرّاء ذلك. عندما غادرتُ المنزل عصرا كان يغمرني شعورٌ من العطف على مضيّفتي. هل توجد طريقة لإعلان الخواء كاملا في داخل الإنسان، من تلك التي يدلّ عليها صنع لوحات باهتة، وحياكة ثياب الأطفال من شعر الكلاب؟
كاتب عراقي
بعض الناس يجذبهم الفن لأنه يقدم لهم فرصًا للتعبير عن أنفسهم، والعمل بمرونة، والشعور بالشغف والإلهام، وهو ما قد يفتقر إليه العمل الروتيني من 8 إلى 5، بل قد يفضلون الفن على ممارسة مهن قارة ومجزية، وهذا أكبر دليل على الفن والتعبير به وعنه جزء من طبيعة الانسان، وأولئك الذين يدعون للانغلاق والجمود، إنما يعاكسون طبيعة البشر، وحتى أولئك الذين يرون في إقامة التظاهرات الفنية عموما إهدارا للأموال ( وهذا فيه شيء من الصحة من مكان لآخر ومن تظاهرة لأخرى ) لا يعرفون إلى أي مدى هناك حاجة لمنصات عدة لتقديم مختلف التعبيرات الفنية والثقافية، خاصة في منطقة كالمنطقة العربية، غالباً ما تكون عرضة للصور النمطية السلبية التي تركز على قضايا مثل النزاعات، التطرف، وقمع الحريات. لكن لحسن الحظ، هناك بعض الدول العربية التي تسعى لامتلاك سمعة طيبة في أوساط صناعة الثقافة والترفيه المحلية و العالمية، لأنها تعلم أنها تربح عندما يرفع فنان علمها على منصاته في السوشيال ميديا، بدل معالجة الأضرار عند تبنيه لقضايا تضرها أو تروج صورة سلبية عنها.
راجع شكرا لكاتبنا العراقي و سلام لكل من هو عراقي