بيداغوجيا التعلم بالشعر

عندما نتحدث عن مناهج التدريس الحديثة، نجد أن هناك تطورات كبيرة حدثت في مجال التعليم، على مرِّ العقود الأخيرة. والأكيد أن النقلة التي بدأ يحققها التعليم في العالم، بولوجه عالم الرقمنة، أصبحت هذه المناهج تسارع الزمن في استثمار وتوظيف هذه الوسائط الإلكترونية، من خلال تعزيز تفاعل التلاميذ والطلاب معها. وهنا أتساءل عن مصير بعض المواد، التي تعودنا على تدريسها بطرق تقليدية حتى أصبحت مملة بالنسبة للمتعلمين، كتدريس الشعر مثلا. هل الشعر ما يزال ضروريا في مناهجنا التربوية المغربية؟ وإذا كان الجواب بنعم، ما هي فوائد تدريسه؟ وما هي السبل التي في إمكانها أن تحيي الشعر مرة أخرى، في زمن جف فيه الحس الإبداعي التخييلي؟ وما هو نوع الشعر الذي نحتاجه في عصرنا الحالي؟ ليس من شك في أن الشعر كان، وما زال، سبيل التربية الحقة منذ الأزل.. أي منذ أن عبّر الإنسان عن كينونته الأنطولوجية بالشعر أول مرة. الشيء الذي يجعل جل المنشغلين بالشعر وعلوم التربية، يقرون، دونما تردد، أن الشعر والتربية صنوان لا يفترقان، أحدهما يلج في الآخر مثلما يلج الليل في النهار والنهار في الليل، تواصلا وتفاصلا، تواصلا بالتأثير إيجابا على النشء، وتفاصلا بالزج به في أتون القبح والعنف بشتى مظاهرهما.
إن الشعر إبداع.. والإبداع هو السبيل الأوحد إلى تنشئة سوية قادرة على الخلق والابتكار والاختراع، بل إن الشعر هو سمو بالنفس وتهذيب للذوق، وتخليق للعقل المبدع، ودعوة للتسامح والاعتراف بالآخر في غيريته، بعيدا عن الأحقاد عدوة الفكر والإبداع والتحرر. حاجتنا اليوم إلى الشعر حاجة ماسة، أكثر من أي وقت آخر، كحاجتنا إلى الخبز، كما قال المناضل الثوري الشيوعي تروتسكي في إحدى المناسبات. فالشعر، الذي أقصده، هو الشعر الذي يخترق المعايير باعتبارها الحارس الوفي للتقليد، نقيض الإبداع. إذ لا أتصور شعرا يربي على الإبداع والابتداع وهو يتحصن بقلاع المعايير التقليدية الرافضة لكل اختلاف أو مغايرة، والداعية للتكرار والإتباع وجوارهما، معايير تجعل الزمن يتوقف في ماض مضى. ثمة أدلة عديدة يمكن الاعتماد عليها للتأكد من مدى أهمية الشعر في مجال التربية وصناعة المستقبل. يكفي أن أشير إلى بعض منها، كالإبداعية، وترسيخ قيم الجمال، والاختلاف، والتسامح، والمحبة، إلخ لدى المتعلمين. إنني أتصور أن الشعر، يمنح المتعلمين قدرة كبيرة على استيعاب طاقة الخيال وحيويته، فالشعر خيال، والخيال دعوة صريحة للإبداع، إذا ما تحرر من قيود العقل وصرامته، من الخيال ما هو اختراعي، وما هو استرجاعي/ اتباعي. والشعر الذي يروم الابتداع ويراهن على الخيال كطاقة خلاقة، هو وحده القادر على تنشئة جيل قادر على العطاء والابتكار والإضافة، إن المراهنة على الشعر (الخيال) في تربية النشء، سيساهم، لا محالة في تنمية قدرات وكفايات المتعلمين على إنضاج الوعي بالموضوع لديهم وتعميقه، بما يجعلهم قادرين على حل الوضعيات/المشكلات بسهولة وإيجابية. والوضع هذا من شأنه أن يخلق لدى الأجيال الصاعدة قدرة على المشاركة في الحداثة ومستلزماتها، فعلا ووعيا بها.

ولما كان الشعر، بالنظر إليه كقيمة جمالية، يتميز بكونه خبرة جمالية، حسب تعبير جون ديوي، وأنه خبرة تامة أو كاملة من ضمن الخبرات الأخرى، لأنها تتحرر من «كل المعوقات التي تعرقل تطورها» فإنه لا يمكننا أن نتصور شعرا راكدا ومسيّجا بسياج معايير التنميط، التي هي من وضع الإنسان ذاته، والتي لا تُفضي إلا إلى التحنيط، شعرا لا يتطور ولا يشاكس، لأن وضعا كهذا يربي في النشء وعيا ارتكاسيا، وميلا نكوصيا، بما يحفز على الانكماش والتحصن بالماضي مثلما القطيع الذي يخاف من أي طارئ أو جديد، وينشط ذاكرة العنف وثقافة الإقصاء والرفض، أقصد ثقافة التطرف. والحق أن الشعرية العربية الجديدة، في بعض مآلاتها، شعرية حداثية بامتياز، لذلك علينا كمربين، أو مسؤولين عن الشأن التربوي، أن نوليها اهتماما واسعا في مقرراتنا وبرامجنا التربوية، بما يخدم القدرة على استيعاب اللحظة الحداثية العربية الحقة (جماليا وفكريا) عند المتعلمين، إذ من الواجب علينا أن نضعهم أمام تاريخهم الشعري الآخر المختلف تماما عما هو سائد ورائج من تسطيح وتكرار علة الفداحة في مجتمعاتنا العربية. إن انفتاح الأجيال الصاعدة على هذا الأفق الشعري الحداثي، بعدما بينا أهمية الشعر في مجال التربية والحياة ككل، بالشكل اللائق والمطلوب، من شأنه أن يؤسس لزمن مغربي حداثي، وقد تخلص من كل شوائب الشفاهة وأضرارها. فما أحوج ناشئتنا لمثل هذه الشعريات الحداثية التي أحرجت العقليات المحافظة، تلك التي أوقفت الزمن في ماضٍ مضى لا في ماضٍ آتٍ. شعريات تتشوف إلى المستقبل باعتباره مصير المتعلمين والإنسان العربي ككل.

من المهم إذن، والحالة هذه، أن بيداغوجيا التعلم بالشعر، تتطلب من المسؤولين على الشأن التربوي/التعليمي في المغرب، وفي غيره من البلدان العربية الأخرى، الآن قبل الغد، مرونةً خاصة، في تناول النصوص الشعرية، اختيارا وإلقاء وتحليلا، من خلال استعمال كل الوسائط الإلكترونية الممكنة، بما يلبي احتياجات التلاميذ، التي أصبحت احتياجات ديجيتالية بالأساس، في أفق تنمية قدراتهم التخييلية والإبداعية، حتى يصبح تعليمنا ذا جودة وجاذبية حقيقيتين.
ولما كانت المناسبة شرطا، أجدني في خاتمة هذه المقالة مضطرا لاقتراح بعض المقترحات، على من يهمهم الأمر، التي من شأنها أن ترقى بمستوى تدريس الشعر وتلقيه في مؤسساتنا التعليمية إلى مستويات رفيعة بمكنتها أن تجعل الشعر يحظى بأدوار طلائعية في التربية والتعليم:
– ضرورة الإيمان بأهمية الشعر في مجال التربية من طرف المسؤولين وكل المتدخلين في العملية التعليمية.
– برمجة الشعر في جميع المقررات والبرامج والكتب المدرسية منذ المستويات الأساسية/ الابتدائية.
– برمجة الشعر كمادة مستقلة، مع الرفع من معاملها، مما قد يزيد من درجة الاهتمام بها.
– اعتماد وسائل جديدة في تدريسها كالوسائل السمعية والبصرية مما قد يخلق متعة لدى التلميذ والأستاذ معا.
– التركيز على الشعر الحداثي الحامل لقيم الحداثة ورهاناتها.
– تدريس الشعر عبر استخدام التكنولوجيا في الفصول الدراسية، لتعزيز التفاعل، وتقديم هذا المحتوى التعليمي، بشكل أكثر جاذبية.
– استضافة شعراء، وتنظيم أمسيات شعرية، وندوات في الشعر، ومسابقات شعرية من طـرف التـلاميذ داخل مؤسساتهم التعليمية، بشكل منتظم، مع تحفيزهم بمختلف الوسائل من أجل خلق جو مناسب للتنافس.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية