أصبح الانهيار المالي والاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة وغلاء الأسعار، عنوانا لتطورات الحياة المعيشية لدى اللبنانيين واللاجئين والنازحين على امتداد الأراضي اللبنانية، وفي ظاهرة أصبحت معلما للفقر والعوز، تنام عائلات من اللبنانيين والنازحين السوريين في العراء تحت جسر مستديرة الكولا في بيروت.
هذه العائلة تنام هنا، وذاك الطفل تحتضنه أمه وتنام قرب عامود ضخم من أعمدة جسر الكولا، معالم البؤس والعوز برزت للمارة تحت الجسر وقرب الطريق العام والظاهرة أصبحت مقلقة للغاية.
تقع مستديرة الكولا في بيروت، عند المدخل الغربي لمنطقة الطريق الجديدة، حيث أنشئ في الخمسينات مصنع للمشروبات الغازية كوكا كولا، ومنذ ذلك الحين أطلق على تلك المنطقة اسم الكولا.
قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 شيّد جسر يربط بين المدينة الرياضية وبين منطقة برج أبي حيدر ونفق سليم سلام فأطلق عليه حينها اسم جسر الكولا تيمنا بمصنع كوكا كولا والمنطقة التي عرفت باسمه.
ومنذ إقفال مصنع أو مستودع الكولا أواخر الثمانينات من القرن الماضي تحوّلت المستديرة إلى موقف للسيارات والحافلات العمومية التي تنقل الركّاب من بيروت باتجاه المناطق اللبنانية كافة. وبعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000 اتخّذت بلدية بيروت قراراً بإطلاق اسم ساحة المقاومة والتحرير على منطقة أو مستديرة الكولا، غير أن اسم الكولا لا يزال هو الشائع والمستخدم بين أوساط اللبنانيين والبيروتيين بشكل خاص.
وإلى جانب مواقف سيارات وباصات النقل العام وعند أطراف مستديرة الكولا، هناك جامعة بيروت العربية، ومحلات ومؤسسات تجارية ومحطات للوقود، وصيدليات وبائعو الخضار والفواكه، ما جعل من مستديرة الكولا منطقة حيوية تزدحم فيها الحياة حتى منتصف الليل.
يشير الدكتور حسّان حلاق إلى أن منطقة الكولا الواقعة بين وطى المصيطبة غرباً والطريق الجديدة شرقاً كانت حتى أربعينات القرن الماضي ممتلئة بالكثبان الرملية وكانت منطقة قليلة السكان والعمران. ويلفت إلى أن إنشاء معمل شركة كوكا كولا في تلك المنطقة ولاحقاً جامعة بيروت العربية (1960) كان لهما كبير الأثر في اجتذاب الناس للإقامة هناك.
ويقول الأستاذ الجامعي المتخصص بتاريخ بيروت إن «وجود بعض المؤسسات الصناعية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والصحية المحيطة بمنطقة الكولا أدّى إلى تطوّر المنطقة تباعاً من دون إغفال تأثير كورنيش المزرعة القريب الذي كان، ولا يزال، يشكل أحد الروافد المهمّة لضخ الحركة السكانية بشكل يومي».
عائلات من جنسيات مختلفة
على امتداد المساحة تحت جسر الكولا، افترشت عائلات من اللبنانيين والنازحين السوريين الأرض يمضون عليها ليلتهم، ينامون تحت الجسر بالعراء في الصيف والشتاء.
وما هو ملفت للانتباه أن من ينام تحت جسر الكولا، أطفال ورجال ونساء وعائلات من جنسيات مختلفة، ضاقت بهم سبل العيش ولم يجدوا أمامهم مكانا آخر للنوم.
هل حقا لا تجدون مكانا للنوم غير هذا المكان البائس؟ سألت «القدس العربي» أحد نزلاء هذا المكان.
أسرعت زوجته لتغطية وجهها والالتفات بعيدا عن عدسة الكاميرا قائلة: إن زوجي مريض، ولا نجد مكانا ننام فيه إلا تحت الجسر.
هل أنت لبنانية أم غير لبنانية؟ رفضت الإجابة وطلبت منا المغادرة وعدم التصوير. حياة البؤس والعوز برزت من خلال ما يحيط بالعائلة من فرشات وأغطية وأواني طعام.
كيف تمضون ليلتكم في البرد أو خلال فصل الصيف، قال زوجها، نحن فقراء لا نملك المال، وليس في مقدورنا دفع إيجارات السكن، نحن لا نملك ثمن لقمة العيش فكيف لدنا القدرة على استئجار منزل؟
ماذا تعمل؟
أنا مريض ومصاب بكليتي، لذلك لا أستطيع العمل بالأشغال المتعبة، فأمسح زجاج السيارات، وزوجتي بائعة متجولة للدخان وعلب المحارم الورقية.
يفترشون الكرتون وأوراق النايلون، ينامون عليها ويتخذون منها أغطية لأجسادهم.
في البرد أيام الشتاء يشعلون الأوراق والقطع الخشبية للتدفئة، وفي الصيف الحار ينامون دون غطاء سوى أيضا لوح من الكرتون.
انتقلنا إلى زاوية أخرى من مستديرة الكولا، وأمام المسجد المؤلف من عدة طبقات، ينام رجل على ألواح من الكرتون تجاوز عمره 70 عاما، يضع فوق جسده النحيف عدة ألواح أخرى، وصرخ بأعلى صوته رافضا التصوير.
منذ متى أنت هنا وهل أنت وحدك أم معك عائلة؟ أجاب بصوت خافت: أنا هنا منذ آذار/مارس الماضي أعمل في التنظيفات وزوجتي تعمل في تنظيف البيوت والمحلات، عندي طفل واحد موجود في بيت أختي في المصيطبة، بيتها مؤلف من غرفة واحدة، إبني يعيش معها ومع أولادها.
خرجت من بيتي بعد انهياره في منطقة الخندق الغميق قرب شارع بشارة الخوري، ومع ارتفاع تكاليف السكن لم أستطع استئجار بيت جديد، فاستئجار البيت المتواضع يزيد عن 500 دولار، هذا عدا تكاليف الحياة، ومرتبي لا يتجاوز 400 دولار، متسائلا، فكيف أعيش مع عائلتي؟
هل وجدك قانوني هنا، وهل تعرضت أنت وأسرتك لمضايقات من الشرطة؟
أجاب، نعم تعرضنا للمطاردة وللملاحقة وكثيرا ما طردنا من هناك ولكن كنت أسأل الشرطة إلى أين أذهب مع طفلي وزوجتي. الحياة قاسية وصعبة تكاليف الحياة عالية ولا مكان للفقراء في هذا العالم.
استمر بالحديث معنا ورأسه تحت غطاء ألواح الكرتون، ورفض الخروج.
تركنا هذا الرجل البائس يعاني الفقر والبرد وحرارة الصيف.
جسر الكولا ليس استثناء
وفي مكتب بلدية صيدا قدم لنا أحد الموظفين بيانا بعد أن أكد أن وجود هذه العائلات والأفراد ومعظمهم من الجنسية السورية ويعملون متسولين في شوارع بيروت ثم يفترشون الأرض تحت جسر الكولا للنوم بشكل بائس غير شرعي.
واستنادا لبيان بلدية بيروت، أفادت دائرة العلاقات العامة في بلدية بيروت في بيان ما يلي:
«على إثر شكاوى عديدة وردت من أهالي وسكان منطقة الكولا ومحيطها إلى محافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبود تفيد عن وجود مخالفات تحت جسر الكولا وعن قيام بعض الأشخاص الذين يفترشون مساحة كبيرة تحت الجسر بترهيب وابتزاز المواطنين والمارة، أعطى المحافظ عبود توجيهاته إلى قائد فوج حرس بيروت العقيد الركن علي صبرا بإنهاء هذه الحالة الشاذة وإزالة كافة أنواع المخالفات الموجودة وتوقيف المخالفين».
وبناءً عليه، توجهت دورية من فوج الحرس إلى المكان المذكور، حيث تبين وجود عدة غرف منشأة حديثاً من الخشب والكرتون على طول مساحة الجسر يقطنها أشخاص من تابعيات غير لبنانية ومكتومي القيد ومنهم دون أوراق ثبوتية، على الفور عمل رجال فوج الحرس على تفتيشها بدقة ليتبين أنها عبارة عن أوكار لتعاطي المخدرات وغيرها من المخالفات، وتم العثور بداخلها على كمية من المخدرات وعدد من الأسلحة البيضاء (سكاكين، سواطير، شفرات) كانت تستعمل في ترهيب وتهديد المارة وعمليات السطو والسلب.
بعد بيان بلدية بيروت، من الواضح ومن خلال جولتنا على امتداد الأرض تحت جسر الكولا، أن الشرطة وبلدية بيروت فشلتا في إزالة المخالفات تحت الجسر، كما فشلتا في إزالة الأماكن التي تنام عليها هذه العائلات وأطفالها ونسائها، فالعائلات ما زالت موجودة تفترش الأرض وتنام تحت جسر الكولا، وأماكن النوم والإقامة ما زالت موجودة حتى في وضح النهار.
برأي الدكتور المتخصص بعلم الاجتماع فايز النويري، أن العائلات التي تفترش الأرض للنوم تحت جسر الكولا هي معلم بارز لمستوى البؤس والفقر الذي يعيشه ليس اللاجئ والنازح في لبنان فحسب، بل لمستوى الفقر والعوز وعدم قدرة اللبناني على تأمين تكاليف الحياة بعد انهيار العملة الوطنية وارتفاع نسبة الغلاء والبطالة، كل ذلك تبرز مؤشراته اليوم من خلال ظاهرة النوم بالعراء لعدم القدرة على تأمين تكاليف السكن وتكاليف الحياة عامة.
وأضاف الدكتور النويري لـ«القدس العربي»: «أنا أستاذ جامعي في بيروت وأسكن في مدينة صيدا وكل يوم أرى ازديادا ملحوظا بعدد المشردين والبائسين والنائمين في الشوارع، الدولة بحالة انهيار حقيقي، ويمكن القول أنها لا تستطيع تأمين حياة كريمة للاجئ الفلسطيني أو النازح السوري مثلا، والسلطات اللبنانية المعنية لم يعد باستطاعتها تأمين الحياة الكريمة للمواطن اللبناني».
وتابع الدكتور النويري «مواطنون لبنانيون يتسولون وينامون في العراء ولا يستطيعون تأمين ثمن لقمة العيش أو الدواء أو أقساط المدارس، لذلك هناك تسرب خطير للأطفال من المدارس وهذه أيضا ظاهرة خطيرة على الدولة اللبنانية الانتباه لها».
كلام الدكتور النويري كان عبارة عن تحذير مبطن، وهذا ما يؤكد أن منطقة جسر الكولا ليست استثناء ولكّنها لا تشبه سوى ذاتها، لا هي مجرّد نقطة عبور ولا هي منطقة سكنية راقية وبائسة، بل تشكل الاثنتين معاً.