■ من فورها عرفت السيدة نصف اللبنانية نصف الفرنسية المكان الذي ظهر فيه الرجلان المعرّضان جسميهما للشمس. «هيدي المنارة» قالت، مع أن لا تفاصيل في الصورة تشير إلى ذلك، «عرفتوا وين؟» سألت المجموعة الصغيرة التي ترافقها. ثم، لتدفعهم إلى التذكّر، قالت إنهم لرجال البرونز الذين يقضون أوقاتهم في الشمس. في الصورة، وهي غلاف الكتيّب الذي أُعد للتعريف ببرنامج المعرض، كان أحد الرجلين في وضع ابتهالي، معرّضا للشمس جسمه القويّ المشدود. الرجل الثاني ظهر منشغلا بمسح جسمه بالزيت، ليضاعف من لمعان اللون البرونزي المتساقط عليه. أما في داخل قاعات «مركز ثقافات الإسلام» فسنشاهد صورا أخرى لهؤلاء الرجال المنشغلين بأجسامهم، كما بعرضها. وإذ اهتدي أحد من مرافقي تلك السيدة، أو تذكّر، قال إنه كان يراهم في بيروت، عارضين بَطالتهم طالما أن لا شاغل لهم إلا الاعتناء بأجسامهم. إحدى الصور في داخل قاعات المعرض تُظهر رجلا رافعا يديه إلى الأعلى بالترافق مع ارتفاع زبد الموج خلفه، لكن لتُرى تقاطيع جسمه الرياضي. في صورة أخرى رجال برونز عديدون يتفرجون على اثنين منهم يتلاكمان، للتسلية وتزجية الوقت.
في صور المعرض بدا ذلك أشبه بهوس يمارسه رجال بدوا كما لو أنهم على هامش المدينة، بالمعنى المكاني، إذ كانوا خارج الكورنيش الذي يرسم حدّها، لكنهم مع ذلك مرئيون أكثر مما ينبغي، إنهم واحد من مظاهر بيروت التي ينقلها المعرض. مظهر آخر تنقله صور عريضة المساحة، هي أول ما يستقبل الزائرين في المبنى الأول (هناك مبنى ثان على مقربة استكملت فيه العروض والأنشطة المختلفة) لرجال شرطة لبنانيين واقفين أمام دراجاتهم الضخمة من نوع «هارلي دايفدسون». ذلك استعراض آخر طالما أن تلك الدراجات لن تجد ما يماثلها نظافة وجِدّة في الحياة الواقعية. كأنها لوحات رسمت بتماثل وعناية فائقتين. وقد أضفى أحد رجال الشرطة، بنظارته الشمسية، بعدا كيتشيا على دراجته الموصوفة فخامتها أعلاه.
في باب الأقليات شريط صور لعملية تجميل، أو إبدال، لشاب سيظهر في الصورة الأخيرة امرأة كاملة الغواية. أما من يقوم بعملية الإبدال تلك فوالدة الشاب، بحسب ما قرأتْ إحدى الزائرات متعجّبة.
هنا، في صور سيبيل غصوب مشاهد أخرى، وإن متماثلة، للاستعراض، بل مشاهد للهوس بالمنظر وقد بلغت الأشياء فيه حدودها القصوى: الأجسام البرونزية التي بلغت كمالها، و»الدرّاجون» الذين تفوّقوا على وجودهم الواقعي… وذلك في مدينة، بل في بلد، بات منهارا ومتراجعا بخطى سريعة إلى هاويته.
المعرض الذي يحمل عنوان «هذه هي بيروت» لن يقدم بيروت، كما يعرفها المقيمون فيها. ما سيحاول التركيز عليه هو أن يقول لساكنيها، حتى لساكنيها، إنكم لا تعرفون مدينتكم. أنا، وقد صادف وجودي في باريس بعد يوم من افتتاحه، شاهدت فعلا ما لم أكن أعرفه عن بيروت، في الجانب الديني من المعروضات، الذي صنّفه المعرض في باب الحميمي، صور للوشوم على الأجسام فكّرتُ أنني أستطيع، حين أعود إلى بيروت، أن أفاجئ أصدقائي، وهم هناك، بوجودها بينهم. هي وشوم كان ينبغي لها، أو ينبغي لبعضها، أن يكون محجوبا عن الأنظار، إلا أنها، هنا في الصور، انكشفت لتظهر عن التزام ذهب بعيدا في شعائريته. وشوم للإمام علي وللسيد حسن نصرالله. وهناك، في المقابل، وعلى طريقة التوازن الذي يحرص اللبنانيون على إبرازه، صور تمثّل الصليب، موشوما على الجلد ومعلّقا، في الجسد نفسه، على الصدر.
ثم هناك صورة النصب الأبيض الضخم للقديس شربل ممدّدا على العربة التي تحمله والتي تعبر به الحي الشعبي المكتظ. وهناك صور عن العشاء الرمضاني قبل قليل من موعد لإفطار… إلخ.
صور للبنان، ذاك الذي يعرفه أهله، كما ذاك الذي لا يعرفونه. في باب الأقليات شريط صور لعملية تجميل، أو إبدال، لشاب سيظهر في الصورة الأخيرة امرأة كاملة الغواية. أما من يقوم بعملية الإبدال تلك فوالدة الشاب، بحسب ما قرأتْ إحدى الزائرات متعجّبة. لم ينقل شريط الصور ذاك إلا شخصية واحدة، لكن هذه الصورة، مع ذلك، كافية لتكون وجها من الوجوه المتعدّدة للبنان.
المعرض سعى إلى أن يُظهر الغرابة مبتعدا كليا عن الصور النمطية التي تبدي لبنان غارقا في تلوثّه وفساده وفوضاه. ذلك على الرغم من إشارة منظميه إلى أن الداعي إلى إقامته هو استعصاء الخروج من الحرب، ذاكرين أن حرب 2006 هي محطة من محطات ذلك الاستعصاء. هي بيروت مختلفة إذن، تقدّمَ فيها أولئك الذين سمّوا بالأقليين إلى الواجهة. من ذلك، إضافة إلى من ذكروا أعلاه، المقيمون بالصدفة، والخدم الذين صار لهم حيّز اجتماعي جامع، والمثليون…إلخ. قال لي صديقي المقيم في فرنسا إن افتتاح المعرض شهد إقبالا واسعا من الزائرين. ما يقرب من 1400 منهـــــم حضروا إلى «مركز ثقافات الإسلام» بمبنييه، وهو سيستمر ثلاثــــة أشهر كاملة تقدم فيها ندوات وتعرض أفلام وأنشطة أخرى عن بيروت الآن.
٭ روائي لبناني