بيروت – «القدس العربي»: «وداد: النملة يلي عم تحفر بالصخر» عنوان لمسرحية عن سيرة امرأة لبنانية جمعت في شخصها آلاف النساء. تصدّت لسلطة متجذّرة في طي الصفحات، والترويج للنسيان، لتنقذ نفسها من الحساب. وكأن الـ17 ألف مفقود ومخطوف في لبنان جُرح خاص بذويهم، يُفترض أن يُختم على دُمّلِه المؤلم وبأمر الدولة. تمّ الاعتراف بمقابر جماعية وتحديد أماكنها، وحسب حكّام ما بعد اتفاق الطائف – وهم ذاتهم مسؤولي المليشيات- «كشفها بيعمل حرب أهلية». إنه الجواب الرسمي للأهالي.
«وداد النملة» مسرحية صاغتها لينا أبيض بالتواصل مع وداد حلواني وهي المرأة الرمز للنساء اللواتي تميزن بالتصميم والصبر. سيرة امرأة بدأت رحلة البحث عن زوجها عدنان منذ 24 أيلول 1982. خُطف على مرأى منها وطفليهما من منزلهما في رأس النبع. تأتي المسرحية في سياق نشاط متواصل بدأ في 13 نيسان/أبريل ذكرى 50 سنة للحرب، مع «احكيلي» المعرض المتعدد الوسائط في بيت بيروت ـ السوديكو.
في «وداد: النملة يلي عم تحفر بالصخر» نسق مسرحي جديد قدّمته لينا أبيض، وتواصل تقديمه لتؤكد بأن المسرح مرآة المجتمع. مخرجة مجيدة فيما تُقدمه من اعمال تقع في خانة المرأة ليس فقط كحقوق، بل في الطليعة كنضال، ومثابرة ومسؤوليات وقدوة.
اختيار الممثلة كريستين شويري، أتى بإشارة من وداد حلواني، فهي أدّت شخصيتها في فيلم «طيف المدينة» للسينمائي الراحل جان شمعون. كريستين شويري على المسرح، تحاكي عدنان الغائب.. تسرد له يومياتها.. يوميات طفليهما وأسئلتهما الفلسفية أحياناً.. يتبادلان الاشتياق.. ويتشاكيان. شخصية عدنان المجسّدة بصوت الممثل ابراهيم خليل طبيعية في كلماتها، وفي إحساسها. وصلنا مرهفاً ومسؤولاً حتى كدنا نتخيله امامنا. وحدها كريستين ـ وداد تحرّكت على المسرح. حركتها واختلاؤها بذاتها بعد يوم طويل ومرهق من الزحف «على القزاز». عدنان حاضر في يوميات وداد، منذ لحظة خطفه، حيث ذكّرها «شديتني بالقشاط» لانتزاعه من الخاطفين، وحتى لحظة انتزاع قانون سنة 2018 الذي ينص على حق معرفة مصير المفقودين والمخفيين قسراً. سنوات من الألم والنزف الداخلي البطيء لأهالي المخطوفين. بدأ التجمع الأول في تشرين الثاني 1982 أمام جامع عبد الناصر ـ كورنيش المزرعة. ومن هناك انطلقت رحلة النملات (الأمهات. الزوجات. الأخوات. الجدات).
المشوار الأول إلى السراي الحكومي لمقابلة الرئيس شفيق الوزان. الجواب: الميليشيات اقوى من الدولة. وتوالت ردود الفعل الرسمية المستهينة بمشاعر النملات. تشكلت لجنة «أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان». عقدت اجتماعاتها في دار الفتوى، واكتسبت المجتمعات لقب «مجنونات دار الفتوى». وصارت لجنة وطنية.. عبرت الطوائف والحواجز.. ووصلت إلى المنتديات الدولية. أما حكاية لينا أبيض مع «وداد» فاكتسبت شفافية فنية فائقة، وإنسانية بالغة التقدير. ونجحت الممثلة كريستين شويري بعجن ذاتها كلياً بوداد. صارت وداد التي تعود ليلاً مع طفليها إلى بيتها، خاتمة يوم تعليم، يتبعه النضال مع لجنة الأهالي. تعود منهكة، تختلي بعدنان. تخبره بكلّ شاردة وواردة.
يسألها.. ويُعلّق.. يتناجيان ويتذكّران.. حوار من لحم ودم ومشاعر، وذكريات وحب وغرام.. تستأذنه للنوم. متعبة من افعال الدولة اللبنانية العظيمة، وبخاصة تقرير للجنة التحقيق الرسمية الذي قال بوقاحة: «لا أحد على قيد الحياة من المخطوفين والمخفيين قسراً».
في سينوغرافيا المسرح، هو منزل اضاءته خجولة. مقاعد طاولة الطعام معلقة تنتظر. ارض مفروشة بأوراق الخريف.. هو خريف الخطف.. وخريف عمر وداد وعدنان الذي داهمهما سريعاً مع طفليهما زياد وغسان. وداد كانت تلقى دعماً اسطورياً من عدنان.. كانت تسمع ثناءه. تشجيعه. حبه. حاورها بكل ثقة وموضوعية. اطمأن إلى قوتها وصبرها هي التي اكتسبت صفة «امرأة الانتظار». وصارت ضمن مجموعة عالمية تعمل لكشف مصير المخطوفين والمخفيين قسراً، وما أكثرهم في وطننا العربي.
كريستين شويري ـ وداد النملة لم تخطر في البال مقارنات بين المُجسِّدة للشخصية وبين الشخصية الحقيقية. كريستين الممثلة صارت وداد.. ذابت بقضيتها التي صارت وطنية وعابرة لطوائف لبنان. لبست ثوب حدادها. سردت ذكريات مرّة يعرفها جمهور عاصر وداد والأهالي منذ اعتلت حجراً أمام جامع عبد الناصر، لتُكسب قامتها الصغيرة بعض طولٍ يسمح لـ200 من المجتمعات رؤيتها وسماعها. سردت.. سمّت.. اعادت لذاكرتنا صوراً طحنت الضمير الحي. امهات فقدن الحياة ولم ترين ابناءهن. زوجات تآخين مع الصبر لكن المرض ابعدهن. وجوه رحلت كنا نعرف حزنها ونشعره. ألم ما بعده ألم. بكت وداد الممثلة وبكينا معها… والجرح لم يختم.