في حديث تليفوني مع كاتب المسرح ومخرجه، وكاتب الرواية والقصة القصيرة والمسلسلات التلفزيونية، الصديق السيد حافظ، الذي كتبت عنه هنا من قبل، قال لي «هل كان هناك معنى لما أنجزت. أشعر بأنه لا فائدة في هذا العالم، ولا معنى لشيء، وليتني وافقت بعد أن تخرجت من الجامعة، أن أعمل مدرسا. لقد رفضت ذلك من أجل الفن، وبدا أنني كنت أرسم في الفضاء، فالعالم تحكمه أشياء أخرى يأتي الفن في آخرها، وقد لا يأتي».
قلت له ضاحكا ذكرتني بيوم كتبت فيه، ليتني ظللت أعمل فني كهربا، وفتحت محلا لبيع الأدوات الكهربائية. كان أقصى ما أقابل، هو غيرة من واحد أو اثنين من أصحاب المحلات. لقد دفعتنا الموهبة إلى حقل ألغام. وقلت له في البداية دائما يحدونا الأمل، وفي السنوات الأخيرة مع تقدم العمر، تسكن الفلسفة الوجودية أرواحنا، ونرى أنه لا فائدة ولا معنى لهذا العالم، الذي أقل ما فيه هو جحيم الآخرين. هذه حالة لا تدركنا، نحن المثقفين والمبدعين فقط، لكنها تدرك الناس العاديين الذين لم يقرأوا في الفلسفة، والذين مع آلام الجسد التي يعانونها، مع تقدم العمر مثلنا، يريدون للروح أن تسرع بالصعود إلى السماء، وينظرون إلى من حولهم كأنهم أشباح لا معنى لها، حتى عائلاتهم. لقد رأيت ذلك مع كثير ممن عرفتهم من كبار السن، وأنا بعد شاب صغير، وحتى الآن.
أعادني الحديث إلى زمن بعيد أراه أمامي رغم مرور السنين، وهو كيف في وقت مبكر، عرفت عن نجيب محفوظ أنه اختار دراسة الفلسفة ليفهم ما وراء العالم، فيما يكتب، كان ممكنا له دخول كلية الحقوق الأكثر شهرة في النصف الأول من القرن العشرين، التي خرج منها زعماء وسياسيون عظماء. عرفت أيضا أنه كان بارعا في الرياضيات والعلوم في المرحلة الثانوية، لكنه اختار كلية الآداب ودراسة الفلسفة.
قررت أن أفعل مثله أنا التلميذ الذي كان موهوبا في الرياضيات أيضا، والمولود في برج القوس مثله. لم ألتحق بالثانوي العام حين حصلت على الاعدادية عام 1961 لأن والدي كان سيحال في العام التالي إلى التقاعد، ولن يستطيع دفع مصروفات الجامعة التي كانت ثمانية عشر جنيها، ولم يكن جمال عبد الناصر قد ألغاها بعد. اخترت مدرسة الصنائع لأعمل بدبلوم الصنائع، واستأنف دراسة الثانوي بنظام المنازل، والتحق بكلية الآداب. كانت مواد الدراسة في الرياضيات في الثانوي الصناعي هي مواد الثانوي العام نفسها، حساب المثلثات والتفاضل والتكامل والميكانيك، وكنت بارعا جدا إلى حد أن درجاتي في الامتحان النهائي في كل عام، كانت تقريبا نهائية. لا أنسى يوما كانت مقررة علينا مادة تسمي «المقايسات» وهي الحسابات الرياضية للكهرباء، وكيف يتم تطبيقها في الأعمال الكهربائية، وجاءنا مدرس من القاهرة قال لنا إنه لم يكن يحب أن يكون مدرسا، لكن هكذا فعلت به إدارة القوى العاملة، التي كانت موجودة ذلك الوقت، وكانت مهمتها تعيين الخريجين في ما يناسب مؤهلاتهم. قال إنه لن يقوم بالتدريس، سيحضركل حصة ويجلس صامتا، ولا يسأله أحد في المادة، ولن يحدد لنا ما نقرأ فيها أو يشرحه.
لا أنسى أني قمت بوضع مادة «المقايسات» من خلال كتب قرأتها عنها، وشَغَلت كراسا أعطيته لزملائي، فصاروا ينقلونه من بعضهم، ما عدا اثنين اعتبراني مجنونا لم يفعلا ذلك. في نهاية العام نجح كل من نقل الكراس، أو الكتاب الذي ألفته، في مادة المقايسات ما عدا هذين الاثنين وصرت أضحك. عملت بدبلوم الصنائع في مركز تدريب الترسانة البحرية في الإسكندرية، وكان عملي يشمل تدريب الطلاب على أعمال الكهرباء وتدريس الرياضيات لهم واللغة العربية أيضا. كان كل من يعرفني يندهش من عدم إكمال تعليمي في كلية الهندسة، أو المعهد الصناعي العالي، وكنت أقول لهم سأدخل كلية الآداب فستفيدني الفلسفة في ما أكتب، وحدث. حصلت على الثانوية العامة، ومشيت على خطى نجيب محفوظ واخترت قسم الفلسفة. أخذني الفلاسفة إلى شاطئ آخر كنت أفكر فيه، لكن ليس لديّ معرفة فكرية كافية به. كنا شبابا ننتمي إلى اليسار، ويتم القبض علينا أو استدعاؤنا للتحقيق في أمن الدولة باعتبارنا شيوعيين، لأننا نعارض سياسة الرئيس السادات، لكني كنت أميل إلى الفلسفة المثالية غير المادية بتجلياتها المختلفة. ساعدتني كتب عظيمة قرأتها عن الفلسفة، وكتب أصلية لفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون وكانط ونيتشة وجان بول سارتر، وكارل ماركس على الناحية الأخرى، وغيرهم كثير. لكني كنت أتوقف عند فلاسفة يجعلونني أرى العالم لا معنى له أكثر من غيرهم. أولهم زينون الإيلي الذي كانت له ثلاثة براهين، أحدها عدم وجود الحركة، والثاني عدم وجود الزمان، والثالث عدم وجود المكان. لم يكن فيلسوفا كبيرا، كان من فلاسفة ما قبل سقراط مثل اللاأدريين الذين قالوا باستحالة اليقين في أي شيء، والسفسطائيين الذين دائما يُساء فهمهم باعتبارهم أهل الجدل العقيم، لكنهم من ناحية أخرى، أو كما فهمتهم، أهل المساواة بين البشر، حتى لو بالأحاديث والخطب.
فالمدرس عظيم لأنه يعلمك، وأنت عظيم لأنك تدفع له ثمن ما يعلمك. هؤلاء الذين كانت من مهام سقراط القضاء على أفكارهم، واستخدام العقل والجدل في فهم القضايا الكبرى والفضائل، وأقام مدرسة حوله للحوار، من حاضريها أفلاطون الذي أعجبني تفكيره في عالم المُثُل، التي نحاول إلوصول إليها. أدهشني كيف انتهى سقراط إلى المحكمة، بتهمة إفساد الشباب، والحكم عليه بالإعدام، بعد أن قضى على أفكار السفسطائيين، التي رأى فيها كما رأت السلطة فيها أيضا، نوعا من الفوضى، وصار مثالا لي على كل من يساعد السلطة، حتى لو بغير قصد. وقفت عند براهين زينون الثلاثة على عدم وجود الزمان والمكان والحركة، ومشت معي في الحياة، وكانت أحد أسباب إعجابي بالفلسفة الوجودية التي ظهرت بعده بقرون طويلة، بدءا من شوبنهاور حتى جان بول سارتر، التي ترى العالم لا معنى له، وترى الآخرين هم الجحيم. عشت في حالة شيزوفرينيا بين سلوكي الاجتماعي ومقالاتي، من أجل عالم أفضل، وبين رواياتي وقصصي القصيرة بنت الروح، وتسربت المعاني الوجودية لها.
ساهمت ما استطعت في كل حركات المعارضة للنظام الحاكم التي عشتها، والتي انتهت بالكتابة فقط لتعثر الصحة، وظلت رواياتي وقصصي على الشاطئ الآخر، لكن في النهاية يقفز سؤال صديقي ما معنى ما فعلناه وما جدواه. قلت له الحل الذي أعيش عليه الآن لأنسى أن كل ما حولنا لا يتحرك إلى الأمام، هو أني أقرأ كثيرا في كتب فكرية، ورغم أنها تعيدني إلى ما حولي، خاصة أنها في معظمها سياسية واقتصادية وتاريخية، وتذكرني بالمنحدر الذي نزلنا فيه نحن الذين أردنا الصعود ببلادنا إلى السما، وأن سلمنا الذي صعدناه، لن يصل إليها أبدا، لكنها أيضا تعطيني الأمل. فهناك من يكتب في المحظور، وهناك قراء لا نعرفهم أصغر سنا، لا بد سيغيرون ما حولنا يوما. يجب أن لا نستسلم لمتاعبنا الصحية أبدا، التي تجعلنا كثيرا ننظر إلى السماء راغبين في الصعود إليها، فهذا ليس بيدنا حتى لو تمنيناه. قال لي إن لديه الكثير من الكتب الفكرية. قلت له أجمل ما في الأمر أني وأنا أتحمس لها وأكتب عنها أنساها، وأنسى ما كتبت عنها، لكني أتحايل على الحياة بكتاب آخر. إعلاء شان الروح هو الحل أمام وهن الجسد، ولتظل اللاأدرية وعدم وجود الزمان والمكان والحركة والوجودية في أعمالنا الفنية، من روايات أو مسرحيات أو غيره. ليست لدينا القدرة على الانتحار، لأننا نشأنا نعرف أنه خروج على إرادة الله، والعالم دائما يتسع، وتذكر يا صديقي شعاري الذي تعلمته من والدي « تبات نار تصبح رماد» و»يحلها من لا يغفل ولا ينام» نحن مهما كتبنا فلسنا نهاية العالم. العالم يمضي إلى الأمام بنا أو بغيرنا.
كاتب مصري
لا أدري إن كان بإمكاني أن أدعو بالصحة وطول العمر، فدعوتي مستجابة وسري باتع.
شكراً أخي إبراهيم عبد المجيد. لا أعرف بالضبط مدى تأثير التقدم بالعمر على تفكير ونفسية الإنسان لكن بدأت أفكر قليلاً بهذا الأمر. أما عن الفلسفة والزمان والمكان، والجدل مازال مستمراً في أحدث النظريات الفيزيائية. الجدل كبير حول سؤال: هل هناك وجود للزمان؟ مع أن جميع علماء الفيزياء يقرون بوجود المكان. أنا شخصياً وحسبما توصلت في بعض أبحاثي، لاأشك لحظة واحدة بوجود الزمان كما المكان! وكلاهما مرتبطان بشكل مباشر بوجد الطاقة والمادة. أما لماذا أعمل في البحث فأعلب الظن يعود الأمر لأمي رحمها الله. وتخرجت من الحامعة وتم تعييني مدرساً في إحدى الثانويات، لكن! كانت الدنيا أمامي عبارة عن وعاء مليء بالملل لاقيمة فيه! فرفضت ولم أكن أريد إلا السفر للخارج للدراسات العليا والعمل كباحث، ومازلت كذلك ورغم أنتي لست ناجحاً أو لنقل شهيراً لكنني راضٍ عن نفسي والبحث العلمي هو حياتي ولست نادماً على شيء والحمد لله. الواقع المؤلم الذي نعيشه يدعو أحياناً إلى نوع من اليأس أو المرارة التي تنهك روحنا، لكن من ناحية الفرد أعتقد أن الرضى عن الذات يتعلق باختيار المرء حياته، لكن مازال أمامي بعض العمر ولاأعرف كيف ستسير الأمور بعد التقدم بالعمر.
عزيزي إبراهيم عبد المجيد، أظن أن هناك شيئا من الالتباس حول معنى الفلسفة الوجودية بالذات (وقد حصرتَها أنت بين شوبنهاور وسارتر، وهذا ليس صحيحا ولا دقيقا كذلك).. فالقول، كما ذكرتَ أنت أعلاه، بأن هذه الفلسفة ترى العالم لا معنى له، وترى الآخرين هم الجحيم، لقولٌ قاسٍ جدا وإلى حد الإجحاف غير المنصف في حقها.. فمن المحاور الرئيسية الهامة التي ترتكز عليها أنساق الفلسفة الوجودية هو الاعتقاد بحرية الاختيار ومسؤولية الفرد عن هذا الاختيار.. فإذا أُخذ بعين الاعتبار بأن معنى الحياة منعدمٌ في الإطار الفلسفي الوجودي كما تزعم، فإن على الفرد من خلال حرية الاختيار تلك أن يتوخى معناه الخاص للحياة عن طريق التسآل والتساؤل في وجود الله مثلا لعله يفيد في تحديد معنى هذا الفرد لحياته الخاصة ذاتها.. هناك الكثير من التفاصيل حول هذه المسألة ولكن نكتفي بهذا القدر الآن. مع التحيات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بين الفلسفة والعمر. أستاذ إبراهيم من أجمل الأشياء التقدم في العمر وإذا أكرم الله الإنسان ب ذاكرة في سن الشيخوخة 81 عاما وزوجة صالحة وأبناء صالحين وأحفادا ماذا يريد أكثر من هذا ومن ناحية المستقبل أنا كنت أرغب أن أكون وكيل نيابة لعشقي القانون أو اعمل في التمثيل لعشقي التمثل ولكن القدر اختار لي أن أكون صاحب مطبعة في مصر وفي اليونان ماذا يفعل الإنسان عندما يعمل فيما يحب- بإذن الله- التوفيق حليفه أحببت الطباعة بجنون لدرجة تفوقت فيه على نفسي أسف أن كنت تكلمت عن نفسي ولكن ما أريد قوله حضرتك كنت تتمنى أن تكون صاحب محل كهرباء وتبعد عن الكتابة في الكهرباء الذين سيحسدونك أصحابا كأم محل من المهنة أسف أنت مش قد حسد أصحاب جميع المهن مش الكهرباء فقط أنا عانيت من حسد والحسد تحول إلى حرب مع الزملاء في مهنة الطباعة في مصر لصغر سني 21 عاما وفي اليونان كوني أجنبي أستاذ إبراهيم عندما تختلف مع إنسان مثقف الاختلاف جميل وسيتحول إلى سهرة جميلة وممتعة عندما تختلف مع المهن الذي حضرتك كنت تتمناها كنت ستكره نفسك ولا أتمنى لأحد أن يكره نفسه.