شكلت القصيدة الشعرية الغنائية أحد الظواهر الفارقية في الثقافة العربية الحديثة، فهي وإن كانت تتميز بالسيولة والكم، فإنها من حيث خصوبة مادتها الغنائية تتنوع بين الرديء والجيد، نتيجة عوامل عدة تتصل بثقافة كل قطر على حدة، ولخصوصيات التنوع في المعجم وفي المضامين التي تحكم كل منطقة. لذلك تتشعب هذه القصيدة وتتشعب معها المادة الغنائية وتتقاطع معها في أحايين قليلة.
ويشكل عدم الارتشاف من الفنون الأخرى لدى عدد من نجوم الغناء في الوطن العربي، كالمسرح والفنون البصرية والأدبية، كالشعر والنقد، عثرة قوية تؤثر على مسلك الأغنية العربية وتضعها في مفارقة كبيرة مع القصيدة العربية، فتغيب عنها الأبعاد الثقافية التي يمكن أن تضمن لها الامتداد في الزمن والانتشار العالمي المستمر.
وإذا كانت القصيدة العربية تعتبر إثراء وتتابعا لأفكار ما، لنقل عددا من التجارب والحالات الشعورية، وتحقيق التواصل مع التراث العربي، وتحقيق التأثير الأكبر؛ فإنه على مستوى الغناء وتأدية القصيدة بالشكل الملائم والمنسجم مع تلك الأهداف، لا يتم في غياب ثقافة غنائية عربية لها خزانها المعرفي والثقافي، ولها نجوم مثقفون، ما جعل البعض ينتفضون ضد هذه الأغنية ويعبرون بفكرهم عن سخطهم على هذه الأغنية، ومعارضتهم لها ويعتبرونها تجارية سوقية لا تراعي لا معايير الذوق ولا الثقافة ولا المرجعيات الشعرية القويمة.
وإن غياب هذه المرجعيات الثقافية والفنية التي تقوم على توجيه الغناء والتحكم في مساره العام، وفرض القيم التي تضمن استمرار سيطرتها، جعلها تعرف انحطاطا على كل المستويات، في الوقت الذي لم يسمح لأصحاب الشأن الثقافي والمعرفي بالتدخل لتغيير هذه المفاهيم السائدة، وبذلك يظلون يعبرون عن معاناتهم تجاه هذا الواقع الغنائي الراهن، لذلك لم يستطع أحد إلى حد الآن المواءمة بين القصيدة والغناء العربيين، وإن كان بعضهم قد قدم رؤية جديدة لهذا الجدل القائم بين القصيدة والغناء، ودعا لتغيير هذا الواقع، وصناعة نجوم من الأصوات الغنائية المثقفة، بدل صناعة نجوم وهمية ذات طاقات محدودة ليس لها حس ثقافي، بل كل طموحاتها تصب في الشهرة.
فرق البعض بين القصيدة الشعرية والكلمات الغنائية الحالية التي تستهدف السرعة وما يرغبه الشباب، لكن نسوا الافتراق حول طبيعة الخواص العربية للقصيدة الشعرية وحول ما تفقده هذه القصيدة، وما يفقده الغناء العربي عموما.
وهو ما أوجد في الساحة العربية كمّا هائلا من النجوم الفارغة تكتسح القنوات الفضائية، فأضحت هذه الموجة ظاهرة فنية غير واعية، وسوسيوثقافية صاعدة في المشهد الغنائي العربي.
ولتأكيد أحقية وجودها كموجة غنائية تحديدا، تتمثل كثافة الإنتاج مصحوبة بصخب دعائي في القنوات الفضائية، وهي نتاج صياغة ذاتية ستكون لها تداعيات غير محمودة، سواء على شكل القصيدة ومضامينها أو على مستوى الغناء. وحتى الآن فالشعراء الجدد وكتاب الكلمات ظلوا مهتمين بكتابة هذه القصيدة بدون تبرير لوضعها، لأن الاهتمام بالوضع الآني صرفهم عن القصيدة الشعرية ذات المضامين والأسس الفنية والجمالية الخالدة، وهم مهتمون أساسا بنجاح هذه التجربة الجديدة بدون مراعاة أي أسس تراعي المجال الجمالي للقصيدة وملاءمتها للغناء. وحسب العديد من الآراء، فإن الهوة بين القصيدة العربية والغناء العربي بحاجة ماسة إلى نظرية، أو بحاجة إلى السؤال عن ضياع القصيدة الشعرية ذات المضامين المتنوعة، وضياع النجوم المثقفون، وضياع خصوصيات القصائد الشعرية، وبالتالي ضياع صناعة ضخمة تلائم بين القصيدة الشعرية والغناء الأمثل.
وقد فرق البعض بين القصيدة الشعرية والكلمات الغنائية الحالية التي تستهدف السرعة وما يرغبه الشباب، لكن نسوا الافتراق حول طبيعة الخواص العربية للقصيدة الشعرية وحول ما تفقده هذه القصيدة، وما يفقده الغناء العربي عموما. ونسوا أنهم أتلفوا للقصيدة العربية موسيقاها الخاضعة للإيقاعات العربية الجميلة، وأفقدوها هويتها، وأفقدوها معناها، لذلك لم تعد تستطع الاستجابة لإيقاع تجاربنا وحياتنا العربية الجديدة التي تلائم كل الأجيال أو كل الفئات العمرية.
٭ كاتب مغربي