استغرقت رواية «غريزة الطير» للشاعر عبد الزهرة زكي بأجمعها في السياق الروائي ذي الأسلوب الواقعي التقليدي بدءاً من العرض المشهدي للشخصيات وتناوب السرد المتدفق عن بعضها بضمير المتكلم ومروراً في استخدام الزمن والمكان الحقيقيين، وتبويب وتسمية الأجزاء والمقاطع وانتهاءً بتسلسل الوقائع في مضمارها المتسارع التسجيلي والإخباري، بعكس عنوان الرواية إذ كان يتخذ صيغته وتسميته خارج السياق الروائي التقليدي تماماً، إنه عنوان ينضوي على حزمة شديدة من الأفكار الوامضة في أن تهتدي غريزة الطير بطبيعتها الى مكانها الحر، تهتدي رغم الخراب مثل فضاء لغوي وبلاغي مستعاد لترتيب فوضى المكان العارمة، مثل عود أبدي محتوم تفرضه الطبيعة المتجددة في مسارها الدائري وليس في المضمار الخطي المتصاعد.
ولكن شيئا ما يجعل اللغة تعقيباً وتمريناً خطياً متصاعداً على توجيه معنى غريزة الطير داخل العمل الروائي، كل شيء مجهول بصدد ان يُكتشف في لغة ما.
بين الرواية والشعر
من المهم القول، إن استخدام هذه الطريقة التقليدية في السرد الروائي، لا تعدو خللاً فنياً لن يستطيع معه العمل الروائي أن يصل بغيته الفنية والروائية، على نحو مواز بين الفن والواقع، ولكنها مفارقة تقنية بالنسبة للروائي الشاعر زكي نفسه، الذي درّب المران الشعري المتجدد شكلاً ولغة لما بعد الحقبة الستينية في الشعر العراقي، أن يغدو لديه العالم (واقعا ـ تاريخا ـ وصفا) مبكراً في كتابته للرواية، يكتب في سياق الشكل المستغرق بالواقعية، وكأنه في مرحلة كلاسيكية مبكرة، أي ان الكتابة الروائية بوصفها فناً تطورياً قابلاً للتجدد والتخطي ربما يجب ان تتوازى في هذا المجال مع الكتابة الشعرية ولو كان كتاباً شعرياً للكاتب نفسه، فإن عوالم التجديد والابتكار تتخطى وتتجاوز الواقع المبكر لغة ورؤية، دون ان تنفيه أو تحل مكانه.
وهنا المفارقة التقنية، كيف يغدو الواقع المبكر والناشئ في الرواية والواقع متراكماً وناضجاً للتجريد في الشعر؟
مسار مفارق ورواية جديدة
ومع ذلك، فإن رواية الشاعر عبد الزهرة زكي «غريزة الطير» الصادرة عن دار الرافدين في بغداد مؤخراَ، وعلى الرغم من الواقعية المستغرقة لا تخلو من البراعة الإنشائية الشعرية والجمالية المركبة التي تخص الفن الروائي، فلم يمض الاستغراق الواقعي بعيداَ في صورته الانعكاسية البسيطة، مقرونة بلغة فائقة الوصف والاستعارة حتى حلَ مسار آخر جديد، مفارق، بما يشبه مناورة فنية وتقنية، تنعطف بالمحمول الواقعي الى قرينه الرمزي والتعبيري الشائك، وجاءت هذه المناورة الجمالية مثل مشروع رواية ثان، أو نسخة ضمنية، تنشأ على القاعدة (الطريقة) التقليدية للسرد التي قامت عليها.
لقد عبرت «غريزة الطير» على مستوى اجتماعي وتاريخي عن تآكل ومعاناة الطبقة الغنية في مدينة البصرة، في أعقاب العهد الملكي وما تعرضت له من عسف ومعاناة في ظل طغيان الأنظمة الثورية، على الرغم من عدم مناهضتها السياسية المباشرة، كما كشفت الرواية عن موقع العائلة الأرستقراطية «المكونة من الطبيبة الإنكليزية إيما هيرلي والتاجر زيني سليمان وآخرين»، كشفت عن موقع العائلة المزدوج، ليس في موقف السلطات المتعاقبة المستريب منها فقط، وإنما في نظرة المجتمع وقواه المتطرفة بعد 2003 إلى تركيبتها الثقافية الليبرالية، التي وسمت تحديث البلاد قبل إعلان الجمهورية في عام 1958، فيما أفضت الرواية الضمنية الثانية إلى أن قراءة الضائع من الرؤية والوقائع هو ما تبقيه الكتابة، وما يبلغه الخراب والتدمير من أشواط ومضامير، يستدعي حلول الرؤية مكان فناء أشياء الواقعة، مثلاً كما جاء في نهاية الرواية على لسان الشخصية المحورية فوزي، «بقيت طيلة حياتي أرجئ التفكير بالكتابة، لقد ضاع منا الكثير، لكن الأبقى هو ما يضيع. في تلك اللحظة انبثقت فكرة غامضة عن كتابة رواية».
ولعل هذه الرواية ذات الفكرة الغامضة، هي ليست «غريزة الطير» التي جاءت بها طريقة السرد الواضحة، ولا عنوان الكتاب قدر ما هي مخطوطة «أوراق التمارين» التي أودعتها شخصية آدم زيني لدى فوزي وهربّها الأخير معه في سفره خارج البلاد، أو بتعبير ثان، إن «أوراق التمارين « هي الروح والعقل اللذان تشكل وقائع «غريزة الطير» موضوعهما الأساس.
ولعل الفكرة الغامضة للكتابة التي انبثقت في ذهن الشخصية فوزي في نهاية الرواية، هي الفضاء المستعاد في أتون الأحداث الذي يعمل سراعاً على انهيار الشكل التقليدي للسرد وبناء خريطة ومواقع جديدة للأفكار، وإقامة النسخة الضمنية من الرواية.
مثال آخر كما جاء في الرواية، أن مخطوط أوراق التمارين كتاب لم يجمعه جامع سوى التمرين، الجدل مع الذات، والكتابة بموجب هذا المخطوط، تمرين آخر يفرض نفسه على الكاتب، كلما كان بصدد تدوين تجربة من التمارين اليومية.
وبذلك، يغدو التمرين بوصفه تجربة خارج «غريزة الطير» العائد أبداً، وإيقافاً مؤجلاً لأوبته، أو كما يقول فوزي هو «بحث دائم في الأعماق»، أعماق المدن والأنهار التي تقام وتجري تحت الأرض، أعماق البوابات والأسوار والمصبات والمنابع المجهولة التي لن تبلغ فيها وطناً حقيقياً، ما لم تبدأ من هناك، من الصفر الزاخر بالرؤى والبلاغة، لن تكتشف وطنك إلا في آخر على غراره تحت أرضك.
ليس هناك من شيء سوى تمرين الرؤيا واللغة إزاء تراكم مأساة الوقائع، لا شيء عدا تجريد صورة الخراب والقبح وقراءتهما من جديد في مخطوطة «أوراق التمارين» التي عليها أن تتعدى تجريبية الأفكار القائمة على ما تقرره من الوقائع، فالتجارب ليست معدة سلفاً، إنها صيغة أخرى من التمرين تفرض نفسها على المتمرّن أيضاً.
وهكذا غدت مخطوطة «أوراق التمارين» فضاء استعادياً لرواية «غريزة الطير» ونقضاً فنياً ورؤيوياً لها، كانت بحثاً في الكشف المستمر لما تضيئه اللغة في عتمة المجاهيل.
ومن خلال هذا، يمكن التأكيد هنا أن «غريزة الطير» رواية تتنافذ فيها التجربة الشعرية على نحو سري لتسهم في معطى شكلها النهائي، أي إنها رواية شاعر على غرار «مخلوقات فاضل العزاوي» و»القلعة الخامسة» ومثل هاتين الروايتين وسواهما في الأدب العراقي الحديث، تعّد تنويعاً روائياً بحق على تجربة شاعر، غير أن فاضل العزاوي كتب روايتيه مقيداً في خضم لجة وفرية البطل الإيجابي التي كانتا سائدتين آنذاك في الستينيات من القرن الماضي، ولكن عبد الزهرة زكي، دخل على درجة من الحيطة في مضمار تجذير اجتماعية الأدب قبل التعبير السياسي المباشر عنه في الغالب كما عند العزاوي.
كاتب عراقي