بين حماسته لميشيل فوكو ومراجعته لترانزستالية هيغل… أحمد الطريبق: الشاعر المرهف وفيلسوف المواجهة

حجم الخط
3

في الخامس عشر من يناير/كانون الثاني الماضي، تلقت الثقافة العربية خبراً حزيناً برحيل الشاعر والباحث المغربي أحمد الطريبق أحمد (1945-2023) الذي مثّلَ صوتاً شعرياً متفرداً، ذا منزعٍ ريادي في القصيدة الصوفية في الشعر المغربي الحديث، وباحثاً وناقداً وأكاديمياً، له من الإسهامات الفكرية والثقافية والإبداعية ما يضعه في المصاف الأولى للمفكرين العرب، في جمعه بين ولعه بالمكان، واستقرائه جمالياً وشعرياً على نحو مغاير، وولعه بالتصوف، ومقاماته وأحواله، ما حفزه لتقديم رؤيته المحلقة في عوالم الكون، والمتبتلة في محراب الجمال والحق، كما أنه أحد أهم نقاد الحداثة الغربية، ومحللي أزمة الحداثة العربية، ومعضلاتها الراهنة في ظل عدم تحققها، وهو ما شغله في دراساته الأكاديمية أستاذاً للتعليم العالي للفلسفة.
لأحمد الطريبق، أفكار عظيمة، ومؤلفات مهمة، تدل على باعه الكبير في تتبع أفكار الفلسفة الغربية والإحاطة بها، وفي النظر إليها من منظور نقدي جدلي، يتفهم الثقافتين العربية والغربية، بمنظور المساواة لا منظور الانبهار، ومن هذه المؤلفات ثلاثيته في نقد ميشيل فوكو: « فوكو ونقد فلسفة التاريخ، فوكو ونقد النزعة التاريخية، فوكو ومفهوم السلطة».
امتازَ أحمد الطريبق بقدرته على تبسيط أعقد المفاهيم، مع إلمام جذري بالمعطيات، يقول مثلاً في مقاله: «فوكو ناقداً لهيغل»: «بعبارة موجزة، فإن ما أراد هيغل أن يقصده بالتاريخ، هو الانتقال من الفكرة الفارغة التي استلبت عبر التاريخ في الطبيعة، لكي تعود وهي فكرة شاملة ومطلقة، من خلال وعي الإنسان، الذي تشكل الفلسفة أقصى حدوده مع هيغل، وعلى مستوى السياسة عادت الفكرة وهي في شكل الدولة، ثم عادت على مستوى الدين وهي في شكل المسيحية. هذا التاريخ، كما نرى، تاريخ عضوي يمتزج فيه الفكر بالطبيعة عبر الدياليكتيك. وهو تاريخ خطي وتصاعدي وشامل، قوامه النظر والتأمل والفكر، ثم إنه تاريخ يقوم على الصيرورة والاتصال والهوية والمطلق».

نقل الفكر الفرنسي

ونلاحظ من النص السابق نقطتينِ مُهمتين، الأولى: الإلمام العميق بالفكر الغربي، خاصة الفكر الفرنسي، وهي سمة منتشرة لدى المفكرين المغاربة، لإتقانهم اللغة الفرنسية، والإلمام بالفكر في لغته الأصلية أمرٌ فارق، ومن الأمور المفتقدة في ثقافتنا العربية، حيثُ ما كان يميز جيل الرواد في توجهاته الثقافية هو قدرته على التواصل الفكري مع الآخر بلغته الأصلية، والثانية: القدرة على إيصال هذا الفكر باللغة العربية، دون معاناة «عجمة التوصيل» وهي سمة كان البعض يشكو منها في بعض الترجمات المغربية، لكن عند أحمد الطريبق يختلف الأمر، فقدرته على المحاورة بالعربية قوية، ربما لهذا علاقة بكونه شاعراً أيضاً فشاعريته، وقدرته على استخدام اللغة بشكل مكثف، ساهمت في صقل قدرته العالية على تقديم الأفكار الغربية، والفلسفات العالمية، مهما كانت معقدة أو مركبة، بشكل مبسط، وبلغة يفهمها الجميع، وعند ترجمته المباشرة للأفكار، فإنها تخلو من الغموض.
وعودة إلى أفكاره الراحل الطريبق، فقوام الأمر عنده هو الرؤية الفلسفية، لكنها رؤية تقوم على الاستيعاب والتجاوز إلى النقد، سواء النقد من الداخل، أي تحليل نقد الغرب نفسه لأفكاره ومساراته الفلسفية، وللتدليل على ذلك نتأمل مقولته: «نصل هنا إلى ثلاث خلاصات: 1- لقد هدم ميشيل فوكو «فلسفة التاريخ» عند هيغل، لكنه في المقابل وضع محلها «التاريخ» من منظور جديد، أقرب إلى الإبستيمولوجيا وأبعد عن الأنطولوجيا وهواجس الميتافيزيقا. 2- طرد ميشيل فوكو الميتافيزيقا من التاريخ، واستبدلها بالعقلانية. 3- أسس فوكو لتاريخ إبستيمولوجي محايث، بدل التاريخ المتعالي. وبهذا فإن فوكو في اعتقادنا نجح في تقوية منزلة التاريخ، وليس العكس كما ذهب إلى ذلك، العديد ممن ظلوا مرتبطين بالهيغيلية مثل كارل ماركس وريمون أرون وغيرهما». وانحياز أحمد الطريبق لميشيل فوكو انحياز واضح وبيّن، فهو يرغب في أن يخرج بالفلسفة من إطار الإنطولوجيا إلى دائرة الإبستمولوجيا، ولا شك في أن لهذا أثره على التفكير العربي عامةً، وإذا ما كان هيغل ممن يقدسون تعالي التاريخ في نزعة ترانزستالية، فإننا كأمة عربية أيضاً بقدر ما سقطنا في هذا الفخ، فصار التاريخ بالنسبة لنا هو الحاضر، أو لا يمكن للحاضر أن يكون أحسن مما كان التاريخ، ومن ثم فبنسبة كبيرة ابتعدنا عن المعرفة، وغرقنا في الأنطولوجيا، حتى أصبحنا نعيش فعلياً على هامش الحياة، وهو ما يرفضه الطريبق في رؤيته الفكرية والفلسفية، لكنه ينطلق من الفلسفة الغربية، ناقداً لها لا منبهراً بها، ويضيف لانتقادات ميشيل فوكو المزيد من الرؤى، التي تعمق وتقوي موقفه، وهو بذلك يتميز عن دارسي الفلسفة التقليديين، ففي بلادنا العربية يتم تبني الفكرة الغربية بنزعة إيديولوجية، فنجد الماركسيين مثلاً لا يقبلون انتقاد ماركس أبداً، أو نجد الهيغيليين لا يقبلون مراجعة أفكار هيغل، وهكذا، بينما تتحول الفلسفة دون نقد للأيديولوجيا، وتصبح غير قادرة على أن تقدم جديداً، وهو الموقف المتفرد من أحمد الطريبق في تبنيه للفلسفة من منظور نقدي.

يتشبع ذلك عنده بمنظور غائي يرتبط بتحقيق المصلحة العامة للعالم العربي والإسلامي، وهذا المنحى يؤثر في دائرة الكتابة عنده، ويجعلها منذ البداية كتابةً ذات هدف محدد، ورؤية مطروحة في الواقع، يقول: «وباختصار، الكتابة عندي، هي أضعف الإيمان في تغيير المنكر، ويا ما أبشع وأفظع المنكر على أرضنا.

يتشبع ذلك عنده بمنظور غائي يرتبط بتحقيق المصلحة العامة للعالم العربي والإسلامي، وهذا المنحى يؤثر في دائرة الكتابة عنده، ويجعلها منذ البداية كتابةً ذات هدف محدد، ورؤية مطروحة في الواقع، يقول: «وباختصار، الكتابة عندي، هي أضعف الإيمان في تغيير المنكر، ويا ما أبشع وأفظع المنكر على أرضنا. المنكر كما أفهمه، كل ما يعوق مسيرة التقدم، كل ظاهرة مصنوعة تستبعد الإنسان أو ترميه في مهاوي التخلف بأبعد أبعاده.. وبلغة معاصرة، أن تغيير المنكر يعني نقل الرفض الواعي من الأرض إلى بنية الكلمة، ومنها إلى مرآة الآخرين، وقد ينشق عن الرفض حلم أو نبوءة. أما عن الخلفية الإستيطيقية، في رحلتي القصيرة المتواضعة – في عالم الكلمة، فقد تكونت لدي مقولة – أطروحة، عن البناء الشعري، فعلي هديها أسير: لا أؤمن بالانفصام المزعوم بين لحمة القصيدة وسداها، علينا أن نحاسب الشاعر هو يصرخ، ويرفض، ويحتج. لإن إيماني لا يتزعزع، بأن الرفض والصراع – على حساب الجمالية الفنية – بعيد كل البعد عن الشعر الحق». هذه الجملة توثق الرؤية الشعرية والغائية للكتابة عنده، فالرؤية الفلسفية، أضفت على الذائقة الشعرية، هما وطنياً بحجمِ العالم العربي كله، ليضيق صدره بكل المآسي التي حولت حياة الإنسان العربي المعاصر إلى إنسان مهزوم، مهزوم حتى في هويته التي يتم التلاعب بها، ما جعله صاحب رسالة، فلا مجال هنا للرومانسية، والحلم بلقاء الحبيبة والشغف بالحب والعشق والتمني، وإنما المواجهة، إذ يمكن اعتبار أشعاره من أشعار المواجهة ذات الدرجة الأولى مع «المنكر» وحتى المنكر هنا يسبغ عليه مفهوماً فلسفياً، ليصبح ليس ذلك الفعل الذي يقاس بمقاييس الحسنات والسيئات، وإنما في عالمنا العربي، وواقعنا المنهار، المنكر هو كل ما يمنعنا من التقدم، وكل ما يحول دون أن يصبح لنا رأي ورؤية تمكننا من الوصول إلى أفق نثبّت فيه أقدامنا، ونتخلص فيه من التخلف.

الكتابة الشعرية

ورغم هذا الهم الفلسفي القومي الذي يتبناه، ويتخذه لنفسه كرؤية يلزم نفسه بالكتابة فيها، ورغم تلميحه إلى أنه لا يولي الاستطيقيا -أي التعبير الجمالي- المساحة التي يتصورها البعض، إلا أنني أعتقد أن هذا التعبير مبني على ما لدى النقاد من مفاهيم تقليدية للجمالية التعبيرية، وهو ما خشي الطريبق أن يقاس به شعره، فنجده في هذه الحالة قد خسر أمام المدارس الفنية المختلفة التي ظهرت في أقطار العالم العربي، لكن من وجهة نظري فإن ما يجب أن يتم قياس الاستيطيقا الجمالية الخاصة بأشعار أحمد الطريبق وفقه، هي قدرته على التعبير بشفافية وجمالية ورهافة وحس وعذوبة مفرطة في توظيف واستخدام الكلمات، للتعبير عن موضوعات بطبيعتها في غاية الصعوبة والتعقيد، موضوعات لهما ملمحها الفلسفي، وقل في زمننا المعاصر من يستطيع أن يعبر شعرياً عما هو فلسفي، بمثل هذا القدرة والطلاقة، مثل هذا المقطع من قصيدته: «حديث القيامة في مسند الفقراء»:
«يصلب بالجوع (شعار الهوية) – كان أبوه فقيراً
وفي السيف كان الغنى / يدرع الأطلسين:
جبال كتامة بالزمن الدموي؟
ليجزي العطاش
ليفدى الجياع،
خماصاً يعودون من ضنك في الدهاليز، يسحقهم
عبث المترفين
يمنون بالوطن المستباح عليهم/ أنا يومها
كنت طفلاً، وذاكرتي تتحفز: هل وطني
– هو ـ جلد يباع
ببخس دراهم، أضحية وكفاء
ليوم البشارة/ هل …
وتنضب ذاكرتي، فيجيب المعين»
نرى هنا القدرة على طرح الموضوعات الفلسفية العميقة، والهم القومي الذي يؤرق صدر المؤلف، في كلمات منسابة، وتعبيرات تمتح من شاعرية مفرطة، تجعل للقصيدة رغم صعوبة الموضوعات التي تتناولها، ذات ملمح جمالي خاص. وربما نستطيع فهم الشخصية الإبداعية لأحمد الطريبق بشكل أكثر عمقاً إذا طبقنا عليه المعايير ذاتها التي طبقها على التستاوي عندما قام بدراسته الشهيرة عنه: «الكتابة الصوفية في أدب التستاوي (1127-1045هـ) خاصة المفهوم الذي يرى أن الشعر في النهاية صدى المحنة الخاصة للمبدع والمؤلف، صدى الرؤية للذاتي والموضوعي وقراءة الأحداث المعاصرة من حول الإنسان، فتأثيرات العصر على المبدع، خاصة التأثيرات الفكرية والفلسفية ـ وهنا نجد نزوحاً من الاجتماعي إلى الفكري هو أمر قليل الحدوث عند المعاصرين العرب الذين اهتموا بالاجتماعي أكثر مما اهتموا بالفكري ـ هي التي تغلب على البحث والتحليل، وفي هذه الصدد يعلو نجم المكاني أيضاً، والموقع.
إن الإبداع عند أحمد الطريبق بمختلف صوره من كتابة شعرية أو مقالات أو أطروحات جامعية، يشبه أن يكون حفريات معرفية في الذات العربية، تولي وجهها شطر الفلسفة والفكر والمكان، ولا تستريح أبداً لما هو جاهز وشائع عن التاريخي، بل تضع التاريخ ذاته موضع التشكك، وموضع الفحص والمعاينة، كأننا نشاهده أمام عدسة ميكروسكوب يتعامل بكل دقة مع مختلف العناصر التي تعيد تركيب التاريخ من جديد، وفي هذه الإعادة، يتم اكتشاف الذات المعاصرة، ويتم تقديم الإطروحات التي تناسب الخروج من الوضع السيئ الذي نعيشه، إلى أفق الرحابة والسعة التي نرغب في تحقيقها لنا ولمستقبلنا، إن مقالاً مثل هذا لا يمكنه استقصاء كل فكر وإبداع أحمد الطريبق، لكنني أحاول على الأقل لفت الأنظار إلى الزوايا الأهم في فكره، وإلى العمق الذي لم يأخذ حقه في الطرح بعد، ولم ينتبه له الكثيرون لما لدى هذا الشاعر المفكر الفيلسوف الراحل من رؤية تستحق أن نحتفي بها، وأن نتابعها بالبحث والتحليل والتصور، لأنها فعلاً رؤية مفارقة، ورؤية مغايرة عن التقليدية العربية التي نعيشها منذ نهضة الإبداع العربي مع القرن التاسع عشر حتى الآن، فهو صوتٌ نادرٌ له تميزه، وفكرٌ له استحقاقه في ضرورة تذكره ومتابعته في أسئلته الجمالية المثقلة بهم واقعنا الحضاري المتراجع وكيفية تغييره من خلال وعي الذات.

شاعر وناقد مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد المنعم الشنتوف:

    الاستاذ حمزة المحترم ثمة خلط فادح وقع فيه الكاتب بين الدكتور احمد الطريبق استاذ الفلسفة الراحل والمتخصص في ميشيل فوكو والذي اشتغل استاذا للفلسفة بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان والشاعر الراحل احمد الطريبق احمد المزداد بطنجة عام ١٩٤٥ والذي اشتغل بدوره استاذا للاداب في الجامعة نفسها والذي لا تربطه اية صلة بميشيل فوكو وهيغل ولهذا وجب التنويه. مع الشكر

  2. يقول نديم:

    ترانسندنتالية هيغل وليس ترانزستالية

  3. يقول أ. د. محمد الحيرش:

    تحياتي
    هناك خلط بين الباحث في الفلسفة الدكتور أحمد الطريبق الذي وافته المنية في مارس 2020 والشاعر الدكتور أحمد الطريبق (اليدري) أستاذ الأدب الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان الذي رحل إلى دار البقاء في يناير 2023…
    الأول جمعتني به صداقة منذ أواخر الثمانينيات
    https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0q5MkZBJFcsD9BAp8wt1PF5KfSyj5ionj5N19BmzSbKR9oXsQ2WBjfxWrPhvnSHmAl&id=100005722986916&mibextid=Nif5oz
    والثاني جمعتني به زمالة في قسم اللغة العربية بكلية إداب تطوان….
    لروحهما معا رحمة الله وسكينته…

اشترك في قائمتنا البريدية