قضى جان بول سارتر حياته في الواجهة. يُثير جدلاً بكتاباته ومواقفه السّياسية، ملتزماً بخياره معاداة الكولونيالية. فقد كان المفكّر الفرنسي الأبرز في نصرة القضيّة الجزائرية، في خمسينيات القرن الماضي. انخرط في حرب التّحرير بالكتابة وكذلك بالمشاركة في مظاهرات. يُطابق فعله تعريف «المثقّف العضوي» مما حمّله عداءً من قبل مواطنيه، وتعرّض بيته، مرّتين، إلى محاولتي تفجير، كما تلقّى تهديدات بالقتل من قبل أنصار «الجزائر الفرنسية».
اختار الضّفة الأكثر خطورة وسخّر مجّلته «أزمنة مُعاصرة» لنشر مقالات له ولكتّاب آخرين في الدّفاع عن حقّ الجزائريين في الاستقلال. وهو الذي نشر مقالاً صريحاً ومُثيراً، عقب بدء الحرب، بعنوان «الجزائر ليست فرنسية» فكّك فيه الفكرة الكولونيالية وأساليبها في استغلال الأرض واستعباد البشر. انتقد حكومة بلده، مما عرّض «أزمنة معاصرة» للمنع أكثر من مرّة. هو الذي وقع توطئة لكتاب «معذّبو الأرض» لفرانز فانون، عام 1961، وهو واحد من أشهر الكتب في معاداة الكولونيالية، ليس في الجزائر وحدها، بل في العالم الثّالث.
جان بول سارتر الذي فضّح ممارسات التّعذيب، وكشف الغطاء عن الاستعمار، وقاد حملة عالمية قصد الإفراج عن جميلة بو باشا، التي انضم إليها كبار الكتّاب والفنّانين، على غرار بابلو بيكاسو، حرّض العسكريين الفرنسيين على العصيان، وسار مع الجزائريين في مظاهراتهم، لكن لم تمض سنوات قليلة على استقلال البلاد في 1962 حتّى وجد نفسه شخصاً غير مرغوب فيه في الجزائر. فعقب انقلاب هواري بومدين على أحمد بن بلّة (1965) لم يلتزم سارتر الصّمت، بل مارس حقّه في النّقد كعادته، مما أغضب «الكولونيل» بومدين، الذي محا كلّ فضائل الرّجل وأحاله إلى باب النّسيان.
وكأول خطوة من أجل محو سارتر من ذاكرة الجزائريين، صدرت طبعة محليّة من كتاب «معذّبو الأرض» وقد حذفت منها توطئة سارتر. وطوال سنوات ظلّ ذلك الكتاب يُطبع وتُعاد طباعته، في الجزائر، من غير أن ترد فيه كلمات سارتر، الذي صار اسماً منسيّاً، وهو الذي لعب دوراً حاسماً في تاريخ الجزائر المعاصر.
الخوف من المثقّف
بعدما وضع أحمد بن بلّة في الإقامة الجبرية، تكفّل هواري بومدين بمطاردة المثقّفين. جعل منهم خصمه الأوّل. محا جان بول سارتر من الذّاكرة، ولحسن حظّ هذا المفكّر أنه لم يكن يقيم في الجزائر. كان سيدخل السّجن، مثلما حصل مع مثقفين آخرين عارضوا الانقلاب، على غرار محمّد حربي أو بشير حاج علي، الذي تمكّن من تهريب مذكراته في السّجن، ونشرت بعنوان «العسف» حكى فيها المأساة التي عاشها، وتهمّته أنه مثقف نقدي، جاهر بالقول، فصار سجيناً. كذلك الحال مع جان سيناك (مؤسّس اتّحاد الكتّاب الجزائريين) الذي يحكي في دفاتره كيف جرى اعتقاله في الشّارع، ثم سجن وأفرج عنه من غير أن يعرف ما هي تهمته. بينما مثقفون آخرون حالفهم الحظّ في الفرار عبر الحدود، ونال هواري بومدين امتياز أن يكون أوّل رئيس للجزائر يتسبّب في نفي مثقّفين جزائريين.
لكن معركته مع سارتر لم تفتر. لم يسمح بأن يتداول اسمه، بل أسّس بومدين ثقافة أخرى – كانت غير معروفة في الجزائر آنذاك – بأن بادر إلى منع كتب من الدّخول أو احتجاز أخرى، صدرت في الدّاخل. ضايقه أن ينتقده مثقف في حجم سارتر، فظنّ أن المثقفين كلّهم أعداء له، وراح يوزّع عليهم تهما في تظاهرات شعبية، ويملأ عقول النّاس بمصطلحات لم يكونوا يفقهون شيئاً منها، كالقول إن بعض المثقفين «رجعيين» أو «امبرياليين». والغريب أن غامر بوصف بعضهم بمعاداة حرب التّحرير. مع العلم أن جان بول سارتر كان من أشدّ المدافعين عنها.
صار التّزييف – حينذاك – عملة سارية، ولا يزال. فبالرغم من كلّ هذه السّنوات التي تفصلنا عن زمن هواري بومدين، وبعدما حاول خلفه من رؤساء تجاوز حقبته، بقيت نقطة واحدة صعب عليهم تجاوزها: وهي محو جان بول سارتر من مخيّلة الجزائريين.
«جزأرة» حرب التّحرير
في السّنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال، ساد منطق يرجّح «جزأرة» حرب التّحرير، بمعنى حصرها في الجزائريين وحدهم، مع عدد قليل من الأجانب (على غرار فرانز فانون) واستبعاد الآخرين من حيز النّظر. لذلك انقضت سنوات طويلة من غير أن يسمع النّاس عن فرنان إيفتون مثلاً، الذي أعدم بالمقصلة نظير انخراطه في حرب التّحرير، وكاد أن يختفي اسم هنري مايو كذلك، وظلّ اسم موريس أودان كلافتة تعلو ساحة، ولا حضور له في المناهج التّربوية، وكذلك الحال مع أجانب آخرين. جرت تصفيتهم من حلبة التّاريخ. ووجد بومدين الأرضية مهيّأة قصد استبعاد جان بول سارتر كذلك.
وجاءت قضية ألبير كامو كي تعزّز من موقف السّلطة في رفض «الآخرين». ألبير كامو الذي كتب استطلاعاً مهمّاً، يدين الاستعمار، بعنوان «الشّقاء في بلاد القبائل» الذي يفضح السّياسة الاستعمارية، التي أوصلت الجزائريين إلى الجوع والفقر والموت بأمراض معدية، صار مختصراً في جملة واحدة تلفظّ بها، عقب نيله جائزة نوبل للأدب، قال فيها ما معناه إن خُيِّر بين العدالة وأمّه فسوف يختار أمّه. لا يزال ألبير كامو اسماً ممنوعاً في الجزائر، وأعماله تقرأ بحذر، وألصقت به تهمة محاباة الاستعمار، بينما جان بول سارتر، الخصم التّاريخي لكامو يواجه مصيراً مماثلاً، هو أيضاً لا يزال ممنوعاً.
كيف يمكن أن نساوي بين كامو وسارتر بشأن موقفيهما من حرب التّحرير؟ هذه هي واحدة من تناقضات الجزائر. حيث التّاريخ يفقد قدسيته، ويصير ملعب أهواء، يجري فيه محو أسماء والرّفع من شأن أخرى، بناء على رغبات أشخاص. مثلما يُتّهم كامو جزافاً، وقليلون من طالعوا أعماله كاملة، جرت محاكمة جان بول سارتر، من غير مطالعة أعماله. الجميع يفتخر بجميلة بو باشا، التي صارت رمزاً وطنياً، لكن لا أحد يذكر من كان سبباً في الإفراج عنها، ولا أحد يتذكّر أن سارتر كان سبباً في بزوغ اسم فرانز فانون.
كاتب جزائري
بما أن الشيء بالشيء يذكر …فقد شكلت زيارة جان بول سارتر إلى القاهرة في مارس 1967.. مناسبة استثنائية جمعت حوله أبرز المثقفين ورجال الإعلام حينها..مثل توفيق الحكيم..ولطفي الخولي..ومحمد حسنين هيكل… وأحمد بهاء الدين…وغيرهم…وتبارى الكتاب والمفكرون كتابة في تخليد هذه المناسبة وتسجيل مواقفهم حول مضامين اللقاءات مع أحد أهرام الفكر الفلسفي في القرن العشرين الذي لم يبرز فقط في أطروحته النظرية حول الوجودية…ولكنه أثار الإنتباه والزوابع السياسية والمجتمعية بسبب كثير من مواقفه التي شكل البعض منها معارضة للاستعمار وكذلك التسلط الديكتاتوري للانظمة العسكرية..وكانت ذروة الزيارة..لقاءه التاريخي بالزعيم جمال عبد الناصر.. والحوار المفتوح بينهما..حول العدالة الإجتماعية ومناهظة الإستعمار..وتسلط الأجهزة الأمنية على الحريات الفردية…؛ ومما آثار انتباه سارتر أنه وجد نفسه أمام سياسي عميق التفكير..قوي الحجة..متفتح العقلية رغم خلفيته العسكرية…وهذا ما جعله يربط بينه وبين ديغول..في مقومات الزعامة الحقيقية…؛ وللاشارة فإن تغييب مواقف سارتر من التاريخ الرسمي لجزائر ما بعد الإنقلاب على الشرعية التحريرية..راجع إلى أن رموز التواصل مع الفيلسوف الكبير نضاليا وفكريا إنتهى بها الأمر إلى الاغتيال أو السجن أو النفي..
الى الاستاذين سي سعيد.. و سي عبدالرحمن الذي اختلف معه في الطرح لبعض القضايا ولكن الاختلاف لايفسد للود قضية . الفيلسوف الفرنسي نظرته الى الاحداث في الجزائر جاءت متٍأخرة بعد ان نفذ الحكم الاعدام في 223 شهيدا بواسطة الألة اللعينة المقصلة gryautey نسبة الى مخرعها الايطالي . وكانت اخر وقفة له مع المجاهدة جميلة بوحيد اطال الله في عمرها الوقفة الاكثر كانت من امحاميها والماحمية التونسية .. فقط اريد ان اذكر الاستاذين ان الثورة التحريرية لم ولن تنسى من وقف معها ولو بالكلمة والدليل على ذالك انه في 2022 دشن نصب تذكاري يضم اسماء اصدقاء الثورة التحريرية من القارات الخمس . هذا مما يدل دلالة قاطعة على ان الثورة التحريرية لم ولن تنسى .. والتاريخ الجزائري سجل مواقف كل وحد من هؤلاء وعمله …للتعليق بقي..