بين شبح الانقراض وفرص البقاء… إلى أين تتجه الصحافة الورقية في المغرب؟

عبد العزيز بنعبو
حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي» : والعالم يعيش منعطفا زمنيا تهيمن عليه ثورة رقمية كاسحة، تقف الصحافة الورقية على حافة الهاوية، تترنح بين شبح الإفلاس وندرة القرّاء، وباتت مثل طائر جريح يحاول التحليق بأجنحة واهنة. فبعد أن كانت الصحف تُخطف من الأكشاك كأنها كنوز ثمينة، أصبحت اليوم كومة أوراق مهجورة، لا يُلقي عليها المارة سوى نظرات عابرة، وكأنها لم تكن يوما نبض الشارع وصوت الناس.
ليس الحديث هنا عن مجرد أزمة مالية عابرة، بل عن غروب شمس حقبةٍ كاملة، عن صحافيين أفنوا أعمارهم بين السطور، وعن أكشاك كانت ميادين للمعرفة والحوار، وعن قارئ كان يجد في صفحات الجريدة رفيقا صباحيا لا يُستغنى عنه. واليوم، وبين إجراءات قاتلة، وتغيرات اجتماعية عميقة، ورقمنة اجتاحت كل شيء، يوشك آخر أعمدة الصحافة الورقية أن يسقط، وسط حسرة من تبقى من عشاق الورق، فهل ستلفظ الصحافة الورقية أنفاسها الأخيرة، أم أنها ستجد في هذا النفق المظلم بصيص نور يقودها إلى ميلاد جديد؟

عبد الحميد جماهري ـ أحمد الأرقام ـ عبد الله الشرقاويي

وجع كبير

حديث الصحافة الورقية يجر خلفه وجعا كبيرا، خاصة لجيل المهنيين الذي تربّى في كنفها وعاش أجمل أيامها، كما يجر خلفه الخوف من انقراض آخر معاقل المنشورات الإعلامية الصامدة لحد اليوم، وسط تقلص الدعم المالي وانخفاض المبيعات وتراجع الإعلانات. ومنها نذكر صحفا حزبية عتيدة في المغرب، من قبيل: «الاتحاد الاشتراكي» الناطقة بلسان الحزب الذي تحمل اسمه، و«العَلم» الناطقة بلسان حزب الاستقلال و«بيان اليوم» الناطقة بلسان حزب «التقدم والاشتراكية».
عبد الحميد جماهري مدير نشر وتحرير جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، استهل تصريحه لـ«القدس العربي» بالقول: «الصحافة الورقية في المغرب دخلت مرحلة الاحتضار منذ أزمة وباء كورونا، أما بعدها فهي في العناية المركزة»، مشيرا إلى أنه «لولا الدعم العمومي، لما استمرت الصحافة الورقية، تماما مثل الصحافة الإلكترونية». وأضاف جماهري: «الواقع يؤكد التراجع الكبير جدا للجرائد، فاليوم مجمل مبيعات كل الصحف وكل العناوين مجتمعة لا تتجاوز 30 إلى 50 ألف نسخة يوميا، وهذا يدل على أن هذا النموذج الإعلامي استنفد شروط استمراره، وبات البحث عن نموذج جديد ضرورة ملحّة»، لافتا إلى أن «المسألة تتعلق بضمان استمرارية المقاولة الإعلامية، والحفاظ على التعددية، ومواصلة الصحافة لوظيفتها المهنية والأخلاقية». وتوقف عند الوضعية الحرجة لشركة التوزيع «سابريس»، خاصة بعد الإجراءات المالية الجديدة التي تحدث عنها بيان فدرالية ناشري الصحف، التي جاءت عقب التقليص الكبير لدعم الدولة المخصص للتوزيع. وأكد أن هذا الوضع «ينذر بأزمة خطيرة تستوجب التدخل»، مستحضرا رمزية «سابريس»، التي أسهمت في تأسيسها أمهات الصحف المغربية، ومن بينها الصحافة «الاتحادية»، و»الاستقلالية»، وصحافة حزب التقدم والاشتراكية.

«ليس موتا على الأمد القريب»

عبد الله الشرقاوي، الصحافي السابق في جريدة «العَلم»، يتقاطع مع جماهري في توصيف الأزمة، لكنه يضعها في سياق أكثر تدرجا، إذ يقول: «الصحافة الورقية تحتضر في ظل الواقع الحالي، لكن هذا لا يعني أنها ستموت قريبا، إذا توفر شرط أساسي وهو إدخالها إلى العناية المركزة، من خلال إرادة سياسية تؤطرها المسؤولية والمحاسبة والمصالحة وإعادة الثقة، بما في ذلك الثقة في الأحزاب والنقابات والإعلام العمومي». ويضيف الشرقاوي: «واقع الممارسة الصحافية في المغرب سيعجّل باندثار ما تبقى من الصحف الورقية، إذ يتسم بغياب رؤية واضحة، وتوزيع الدعم العمومي بشكل لا ينعكس على وضعية الصحافيين، ولا على تأهيل المقاولات الإعلامية، فضلا عن تأثيره السلبي على القارئ»، مشيرا إلى ضرورة «إعادة النظر في الدعم العمومي، الذي يُدفع من أموال دافعي الضرائب، وليس منحة حكومية». أما بخصوص سوق الإعلانات، فقد اعتبر الشرقاوي أنه «عامل رئيسي في احتضار الصحافة الورقية والإعلام عموما، مما يستوجب فتح نقاش حول وضعية الاحتكار والتنافس، وتحديد الجهات الأكثر استفادة من عائدات الإشهار، لأن غياب الإعلانات كان سببا في وفاة العديد من الجرائد، وغيرها في الطريق». كما انتقد ما وصفه بـ «الحيف» الذي طال المؤسسات الإعلامية الصغرى والمتوسطة في توزيع الإعلانات الحكومية، والدعم العمومي، الذي من المفترض أن يكون آلية لتعزيز المقروئية والتنوع وحرية المبادرة، خاصة في ظل ورش الجهوية المتقدمة.
ويختتم الشرقاوي تصريحه بالقول: «إذا استمر الوضع كما هو، فقد يكون احتضار الصحافة الورقية حتميا على المدى الطويل، خاصة مع ضعف القراءة، وتفشي الأمية، وصعوبة تكيّف المقاولات الإعلامية مع العصر الرقمي، إضافة إلى تراجع دور المثقف الداعم التقليدي للصحافة».

«ترديد أسطوانة مشروخة»

في المقابل، يرفض الصحافي أحمد الأرقام هذا الطرح، ويؤكد أن «الصحافة الورقية لا تعيش الاحتضار»، موضحا أن هذا التوصيف «تم ترديده سابقا في حق الصحافة الحزبية والمجلات الفكرية، لكنها ما زالت تصدر، ولها قرّاؤها». ويضيف الأرقام: «المشكلة ليست في عزوف الجمهور عن قراءة الصحف، بل في تغيّرات سوسيولوجية فرضتها الجائحة، إذ تم منع بيع الصحف خلال فترة كورونا، بدعوى أن الورق ينقل الفيروس، وهو ما جعل المقاهي ـ التي تعد من أكبر المستهلكين ـ تتوقف عن شرائها». ويتابع: «بعد انتهاء الجائحة، استمر الوضع كما هو، بسبب ارتفاع أسعار الورق، وتغييرات في سياسة شركة التوزيع الجديدة، التي أولت اهتماما أكبر بتوزيع الكتب على حساب الصحف». أما عن تأثير الإعلام الرقمي، فيقول الأرقام: «لكل قارئ ذوقه، وبعض الفئات لا تزال تفضل الورقي، كما أن هناك من يطالع المقالات الصحافية الورقية عبر صور تُتداول إلكترونيا، ما يعني أن تأثير الصحافة الورقية لا يُقاس بالمبيعات فقط».
واختتم بقوله: «المغرب يحتاج إلى مقاولات صحافية كبرى، تشغل أكثر من 100 صحافي، مع ضمان أجور محترمة، وتغطية اجتماعية، وتقاعد، حتى تستطيع تقديم منتوج إعلامي قوي».

الأكشاك تشهد على الأزمة

في جولة على الأكشاك، تبدو الأزمة واضحة؛ المبيعات شبه متوقفة، والاشتراكات تقلصت. محمد المرضي، المعروف بـ «الروبيو»، صاحب أحد أشهر الأكشاك في الرباط، يقول: «لم يعد هناك بيع حقيقي للجرائد، من يشتريها اليوم غالبا يبحث فقط عن (الصرف) فكّة». ويضيف: «الوضع كان صعبا قبل كورونا، لكنه تفاقم بعدها، حتى بتنا نتوقع اختفاء بعض الصحف قريبا»، متسائلا: «ألا يستحق بائع الصحف دعما مثل باقي العاملين في القطاع؟». كما أشار إلى أن «بعض القرّاء يشتكون من أن الصحافة الورقية لا تعكس واقع المجتمع، لكنها ما زالت مرجعا لكثير من وسائل الإعلام الإلكترونية التي تسرق مقالاتها وتنشرها دون ذكر المصدر».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية