كنت في اليابان عندما مر الحدث الذي أعادته قضية قتل الشاب محمود البنا المعروف في مصر باسم «شهيد الشهامة» إلى الواجهة قبل أن تتقاطع التفاصيل مع لبنان واليمن وتونس وتعود إلى مصر. بدأت الأحداث داخل العربة المخصصة للسيدات في خط من خطوط المترو في العاصمة طوكيو حيث تتواجد تلك العربات في أوقات الذروة بسبب التحرش الذي وإن اختلفت التفاصيل والأساليب التي يعبر بها عن نفسه، يظل مرفوضا ومهينا ويحتاج ضمن أشياء كثيرة إلى آليات مواجهة رسمية وقانونية.
الحكومة اللبنانية في محاولة الاستجابة لمطالب الجماهير الغاضبة لم تلجأ للمزيد من القمع والضرائب على طريقة «فرضنا ضرائب وسنفرض»
كانت العربة شديدة الازدحام قبل أن يقل عدد الركاب بدرجة كبيرة مع الاقتراب من نهاية الخط، عندما دخل رجل إليها قبل أن يغلق المترو أبوابه في محطة من المحطات. توقفت أمام الحدث بعين الغريب وهو يحاول أن يقارن، كما هي العادة، بين ما سوف يحدث والسيناريوهات المعروفة في عالمنا بداية من مطالبته بالمغادرة في هدوء، إلى تصاعد حدة الحديث واعتراض الرجل المحتمل تذرعا بالعديد من الأسباب مثل، رفض تخصيص عربات نوعية، أو انتفاء الضرورة في ظل محدودية عدد الركاب، وربما تتضامن معه بعض النساء رغم تعارض هذا مع أسباب التخصيص، وأهمية احترام القوانين والقواعد.
ظلت الأوضاع مستقرة داخل العربة، رغم بعض النظرات العابرة، وبعد المرور بمحطة أخرى دخل مساعد السائق بوصفه الأقرب إلى عربة السيدة التي تتواجد في نهاية القطار، وتوجه إلى الراكب الذي دخل العربة بحسن نية كما وضح من نظرات الدهشة التي ظهرت على وجهه، وهو يتلفت حوله وهو يحاول استيعاب المفاجأة والاعتذار عبر عدد من الانحناءات قبل المغادرة. ربما يطرح البعض سؤالا منطقيا عن الرابط بين هذا الحدث و»شهيد الشهامة» وثورة لبنان والسخرية الدائرة عن الثورات والنساء، بكل ما تحمله من ذكورية وعنصرية واضحة يستخدمها البعض في الإلهاء والبعض في تشويه فكرة الثورة، مرورا بالطبع بتشويه المرأة وتقديمها بوصفها سلعة تروج من خلالها الفكرة، وكأنها في واجهة عرض ما يمكن أن تحكم من خلالها على المشاركة في الثورة، والدفاع عن القيم الكبرى والوطن من عدمه. صورة تتشابه مع محاولة السلطة التعامل مع الدولة والثورة، بوصفها مؤنثا بالمعنى السلبي الذي يفترض معه الحاجة إلى حماية سلطوية، في اقتراب يعمل على إسقاط أخطاء الحكم والإدارة، واستبدالها بايحاءات أخلاقية غير مقبولة وغير مطروحة، في عالم المكاشفة والمحاسبة والسلطة والحكم. تقدم السلطة الثورة بوصفها سبب تعرية الوطن، ولا تنظر للقمع بوصفه سبب التعرية والانكشاف ولكن ليس للوطن الأكثر قيمة ومكانة من الأشخاص، ولكن للمرحلة ومن يمثلها، والسياسات وما يتم التنازل عنه، والسيادة وما يتم التراجع فيها.
في عربة السيدات كانت النتيجة الأساسية هي انتصار الدولة، عبر وجود قوانين ومؤسسات وآليات تحترم وتنفذ، وثقة المواطن بأنه عندما يتم انتهاك القواعد أو الخروج عنها، سواء بشكل مقصود أو غير مقصود، فإن الآليات والمؤسسات القائمة تضمن حماية تلك القواعد، بدون أن يدخل المواطن في صراعات جانبية من أجل حقه. أخطا فرد والتزمت جماعة كان لديها إدراك مسبق بوجود الدولة، وقدرتها على تنفيذ القانون، وأن أفراد السلطة مصدر للثقة والعدل وليس الجور والقهر، مصدر للأمان وليس الخوف الذي تتحول فيه السلطة ومن يمثلها إلى عناصر لممارسة العنف وانتهاك الحقوق والحريات.
نعود إلى البنا وما يثار من جدل حول الظروف التي أنتجت المتهم والتشكيك في التلاعب بالمستندات، التي تؤكد سن المتهم وتؤثر على تكييف القضية وتطبيق القانون، ومطالب القصاص التي لا تعبر عن اتجاه المجتمع إلى المزيد من العنف فقط، كما يرى البعض، بقدر ما يعبر عن فقدان الثقة في الدولة وآليات تنفيذ القانون، في حدث ليس الأول ولا يتصور أن يكون الأخير، في ظل التعامل الأمني، وترك الساحة لنقاش مفتوح بدون حقائق، موفرا البيئة الخصبة للمزيد من الشك وفقد الثقة ربما من أجل بعض الإلهاء أو عمدية إخفاء الحقيقة.
في مواجهة غياب الثقة، كان من الطبيعي أن يلجأ المواطن إلى ثورته الخاصة باسم «شهيد الشهامة»، مؤكدا عبر وسائل التواصل الاجتماعي على أهمية تحويل الجريمة إلى قضية رأي عام، بالاعتماد على أدوات ثورة 25 يناير، وان كانت بصورة مصغرة، من أجل توصيل رسالته إلى السلطة وهي ببساطة أن هناك حقا وأن هناك تلاعبا حقيقيا أو محتملا، وأن الجماهير هي الخط الأحمر الذي يرسم الحدود حين تغيب الدولة عن دورها المفترض في تنفيذ القانون والمساواة بين المواطنين أمامه.
ورغم نبل الهدف ومحورية فكرة العدالة، حاول البعض تهميش الحدث عبر طرح السؤال الخطأ، الذي يتم أحيانا قذفه في مواجهة القضية النبيلة وهو، لماذا يتم التركيز على فرد واحد، رغم وجود عشرات ومئات الأسماء التي لا يتحدث عنها أحد؟ والغريب في هذا الخطاب المتكرر أنه بدلا من التعامل مع القضية بوصفها، كما يفترض، فرصة للتأكد من المساواة أمام القانون، وتطبيق العدالة، يتم الدفع إلى تهميشها بوصفها حالة فردية، رغم أن المطلب النهائي، بغض النظر عن عدد الضحايا وشهداء الظلم والمعاناة، هو العدالة والمساواة، التي يمكن القياس عليها متى تحققت في تلك الحالة، أو غيرها من الحالات الفردية، كما يطلق عليها وفقا لهذا الخطاب الخطير. وقبل أن يغيب هذا الخطاب ظهر تناقض آخر يعيد مقولة المؤرخ وعالم الاجتماع العراقي علي الوردي للواجهة وهو يقول: «لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية لصوتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية»، تناقض يبرز معه قضية أكثر عمقا في المجتمعات العربية باختلافها واختلاف درجتها وهي العنصرية بتنويعاتها القائمة على رفض الآخر والتقليل منه بسبب النوع أو الدين أو العرق أو الجنسية. عنصرية تؤكد على تفوق ما غير مبرر، وعلى استغلال غير مقبول، وإهانة تمس بمطالب الحرية والعدالة ودولة القانون. ورغم الاهتمام الذي حدث في التعامل مع مقتل البنا، بوصفه قتيل الشهامة الذي دفع ثمن وقوفه في مواجهة التحرش، فإن البعض وجد في الثورة اللبنانية فرصة لممارسة تحرش وعنصرية واضحة، رغم محاولات تجميلها المفترضة باسم السخرية والضحك وسط الكارثة، وكلها محاولات تتشابه مع استمرار السير في الرمال المتحركة الجافة، الذي يؤدي للمزيد من السقوط والمعاناة وليس العكس.
ظهرت السخرية في أسوأ صورها مع دخول أطراف عدة على الخط من أجل توظيف الحدث في مزيد من الإلهاء، أو محاولة تأكيد القرب من الجماهير وروح الشعب. إهانة يتم تمريرها من ثورة مصر إلى ثورة اليمن وثورة لبنان وفي القلب المرأة والوطن المؤنث، حيث يقدم جمال النساء وكأنه عنصر فرز للمشاركة في الحراك الشعبي، من أجل الحياة الكريمة والكرامة والحرية من عدمه، ومن أجل هذا يهان الجميع ويتم تهميش المعاناة الإنسانية الحقيقية، باعتبار البعض أجمل والبعض أكثر قبحا، وكأن الجميع في سوق عرض وطلب من أجل الرجل أو الحاكم. وإن كان البعض انتفض من أجل إيقاف المذيعة المصرية التي أهانت النساء بسبب حديث زيادة الوزن، وطالب بمحاسبتها وعقابها، وانتفض من أجل شهيد الشهامة، فإن تلك الشخصيات نفسها قد تتناقض على طريقة الوردي، وتشارك في الحديث عن جمال وملابس النساء والثورات، ومن يستحق المعاناة ومن يستحق مشاركة الرجال، بناء على تصور ما للجمال لا يبدأ من الذات، ولا يقارن الحال والأحوال، ولا يتعامل مع المرأة بوصفها مواطنا والوطن بوصفه دولة، ولكن بوصفها عناصر أضعف في معادلة الوجود والقيمة، والوطن بوصفه هامشا في معركة السلطة.
خطاب يقول إن هناك نساء تبرر المشاركة في الثورة، وأخرى تبرر الجلوس في المنازل، وفي المنتصف تساؤلات عميقة عن التحرش والانتهاك وحدود السخرية، حين تتجاوز المعنى والقيمة وتهمش القيم ويتم توظيفها في أدوات الإلهاء القائمة، وإسقاط الأقنعة التي تقدم بوصفها داعمة للحرية والمساواة والكرامة، وغيرها من الكلمات سهلة الترويج حتى تتناقض مع الواقع، وتكشف عن ذاتها الحقيقية التي تؤسس وترسخ غياب معنى الدولة والمساواة والمواطنة. وفي حين جاء الرد من لبنان غاضبا ومتسائلا عن الأوضاع المصرية والرجولة في مواجهه القمع، كان يتم التجاوز عن القضايا المهمة، وكيف أن الحكومة اللبنانية في محاولة الاستجابة لمطالب الجماهير الغاضبة لم تلجأ للمزيد من القمع والضرائب على طريقة «فرضنا ضرائب وسوف نفرض»، ولكنها أصدرت الموازنة العامة بدون ضرائب جديدة، وقدمت تصورا للحل يقوم على تقليص مرتبات الوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة 50% وليس زيادتها إلى أعلى حد ممكن، كما حدث في مصر، والالتزام بالكشف عن حسابات المسؤولين في البنوك في وضع لا نعرفه، رغم أن الشعب اللبناني قد يطالب بتغيير أكبر يتناسب مع مطالب الشارع.
وفي الوقت الذي كانت تلك السخرية دائرة، كانت قذيفة مجهولة، كما قيل، تقتل وتصيب 15 فردا من عائلة واحدة في الشيخ زويد بدون أن يحاسب أحد. وفي الوقت الذي كانت السخرية دائرة كانت الدولة تتحدث عن مخصصات مالية لمشروع شديد الأهمية وهو تشجير العاصمة الإدارية الجديدة، واستعدادات منتدى شباب العالم في شرم الشيخ، في الوقت الذي يؤكد فيه وزير التموين أنه لا عودة لكل البطاقات كما قيل، وكأن كل المواجهات كانت من أجل خفض الوقود بقيمة 25 قرشا، في حين يعلن وزير النقل في افتتاح أكبر محطة مترو أنفاق في الشرق الأوسط، عن ارتفاع خسائر المترو، وأن الدولة تتكرم بعدم رفع أسعار التذاكر بقوله «مش خسارة في الشعب» بدون أن ينكر إمكانية زيادة الأسعار إن أقر الرئيس، وكأن المواطن دوما في وضعية استجداء من المسؤول الذي يقدم نفسه وكأنه يملك خيرات الوطن، وليس مجرد موظف عام، وبدون أن يبرر كل ما هو أكبر وأطول وأضخم التي يحرص عليها النظام.
وفي الوقت الذي كانت السخرية دائرة كان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء يؤكد أن نسبة الفقر قد زادت بمعدل 4.7% خلال الأربعة أعوام الأخيرة، بسبب إجراءات الإصلاح الاقتصادي تلك نفسها التي يتعامل معها الرئيس بوصفها انتصارا من نوع ما يفترض أن يكون كافيا للتفويض والقبول والصمت وغياب المحاسبة والنقد. وفي الوقت الذي تقدم بطاقة التموين بوصفها آلية عقاب وثواب، يؤكد الجهاز المركزي أن نسبة الفقر التي تبلغ 32.5% سوف تزيد إذا تم إلغاء منظومة الدعم الغذائي ودعم الطاقة. في الوقت الذي كان يندد فيه البعض في لبنان وتونس بالسلطوية في مصر، كان البعض في مصر يندد بالنساء فيها، ويركز على النساء في غيرها، وهو ينتقد من يهين النساء ويفخر بمن مات في سبيل الشهامة ويترك الساحة للجميع من أجل إهانة الوطن.
٭ كاتبة مصرية
حديث في العمق شكرا ليكي علي هذا التوصيف
حدثي ولآ حرج .. لقد شاهدنا أمس فيديو للأمن وهو يضرب سيدة ويسحلها ويلقيها في سيارة الأمن لأنها رفضت إعطاؤه الموبيل ..؟؟؟؟ وكل رجال القريه المتواجدون فروا هربآ للأسف .. مشهد مؤلم للسيده وفرار وهرب الرجال بدلآ من التصدي ومنعهم من خطف وسحل أخت أو أم لهم .. سبحان الله .