بيروت – «القدس العربي»: من ذروة الألم إلى ذروة الأمل انتقل أيلي حرفوش. بدأ يكتب ويخترع موسيقاه، وبدت الرؤيا المستقبلية واضحة لديه، وتشجّع بإقبال الناس على سماع عزفه. وراح يعمل مع الآخرين على تحفيز الطاقة النفسية، والسلام الداخلي، بدل صرف الوقت في سلبيات الأمور.
إلتقيته على شاطئ المنارة في بيروت كانت أصابعه تضرب بلطف على آلة مصنوعة من معدن يميل إلى الأصفر المعتق. آلة مستديرة الشكل بحدود ما. والمارة يتوقفون بقربه ويستمعون. آلة تُصدر أنغاماً رقيقة جديدة على مسمعي. مُنسجم بحب بما يقوم به، ومطمئن لتوقف المارة والإصغاء إليه.
سألته عن آلته. إسمها «هاند بان» أي طبلة اليد بالعربية. عن أصلها وفصلها وتاريخ ميلادها، فهي سويسرية المولد في سنة 2000، وباتت تُصنّع في بلدان متعددة، منها لبنان منذ حوالى سنة تقريباً. ول»طبلة اليد» دورها في الشفاء النفسي بشكل خاص.
يخبرنا أيلي حرفوش أن صديقاً له اشترى «هاند بان» من موزار شاهين قبل ست سنوات. منذ أن شاهدها، ولعب عليها بحدود الدقيقة دفع ثمنها 3500 دولار وباتت له.
وكيف وصلت هذه الآلة لك؟ هي حكاية طويلة يقول. ويتابع: كنت موظفاً في شركة مستحضرات تجميل مشهورة عالمياً. بدأت العملة اللبنانية بالتراجع في نهاية سنة 2019، ومن ثم أتى تفجير المرفأ، وتضاعفت وطأة الإنهيار الإقتصادي والمالي. تراجعت قيمة رواتب العاملين في الشركة من 2000 دولار إلى 100، وصُرفت مع آخرين. مباشرة عملت في شركة لبنانية براتب لم يكن يكفي بدل الإنتقال. وانتقلت إلى شركة أخرى والواقع نفسه. عملت كمتطوع وفي هذه الأثناء كانت الليرة تواصل انهيارها. بعد تطوع لحوالى سنة فقدت كامل ما املكه من مال لحدود عجزي عن شراء شاندويتش. ثابرت على عادة المشي على الشاطئ بين المنارة والواجهة البحرية مستقبلاً الشمس صباحاً، ومودعاً إياها عصراً. في يوم فتحت صندوق السيارة لتناول غطاء لرأسي، وإذا بي اكتشف أن صديقي ترك آلة «هاند بان» معي منذ اسبوع. حملتها إلى رصيف المنارة وبدأت بالضرب عليها. وإذ بالمارة يتوقفون ويتفاعلون معي بطريقة جدية. وراحوا يفتحون حقيبة ال»هاند بان» ويضعون فيها المال دون توجيه أي سؤال لي. أنهيت العزف، عددت مجموع المال فإذا به 400 ألف ليرة. وللحظات تصرّفت كرجل غني أكلت الهامبرغر وشربت العصير. اخبرت صديقي بما حدث. سمع عزفي، وقرر أن تبقى ال»هاند بان» معي. وهكذا بدأت حياتي تتغير منذ حوالى السنتين.
وعن الذين تجذبهم ضرباته على ال»هاند بان» يقول ايلي حرفوش: أكثريتهم تبدأ اعمارهم من ال50 سنة وما فوق، اضافة للأطفال. ولأني وجدت أثراً لما أعزفه في نفوس الكبار رزت دور العجزة ولعبت أمام نزلائها. وكانوا في غاية السرور. وفي الوقت عينه زرت بعض دور الحضانة وعزفت للأطفال. وإثرها وقّعت عقداً مع حضانة كبيرة ومشهورة في الرابية لعمل يمتد لشهر. والعقد تجدد لثلاثة اشهر تالية. وتضمن اللقاء مع الأطفال جلسة تنفس وتأمل ولعب على بعض الآلات الموسيقية التي بحوزتي.
نسأله إن كان يعيش من اللعب على آلته؟ يقول: ليس بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكنها ساعدتني في اعادة تنظيم حياتي. وحققت لي السلام الداخلي مما ساعد في تسهيل أمور حياتي، وفتح ابوب النجاح لي.
في بداياته وأثناء سنوات الدراسة تلقى أيلي حرفوش دروساً في الموسيقى الكلاسيكية، والغيتار. وبعد توقف لسنوات جذبته الموسيقى الإلكترونية. يقول: لم أدرس النوتا لألعب موسيقى الآخرين، بل ألعب الموسيقى بعفوية وتعبيراً عن ما يجول في نفسي.
لماذا اختيار رصيف المنارة والواجهة البحرية؟ يقول أيلي حرفوش: بحثاً عن راحتي النفسية الشخصية، والتأمل عبر التنفّس ولعب الموسيقى معاً. سلوك يومي حقق لي الشفاء الذي كنت احتاجه، ومن ثمّ تمكنت من نقله للمحيطين بي. على شاطئ البحر وجدت تفاعلاً كبيراً، وتشجيعاً، وبت اقصده يومياً. وجودي على الشاطئ جعل من الموسيقى محوراً لحياتي. بداية طلب فنانون عدّة أن ألعب الموسيقى خلال افتتاح معارضهم الفنية. ولاحقاً توسّعت دائرة المعارف والدعوات للعب في الأفراح. ومن ثمّ اللعب مع محترفي اليوغا. وإذ بهذا الإنفتاح على مزيد من شرائح ومكونات المجتمع يأخذ بيدي إلى المتمرسين في «الشفاء الصوتي» فأتقنته من خلال مرافقتي لتلك الجلسات موسيقياً، وكذلك باقي الآلات الموسيقية المستخدمة لهذا الغرض.
نسأله تسمية آلات الشفاء الصوتي؟ يقول: منها على سبيل المثال لا الحصر «كاسة الغناء التيبتية». ولهذه الآلة حكايتها الخاصة. إذ سقط قبل 4000 سنة نيزك في منطقة التيبت. ولدى معاينته تبين أنه يحتوي على سبعة أنواع من المعادن من بينها الفضة، والذهب، والزئبق، وغيرها. وبات لكل معدن اسمه وتبعته الفلكية، والنغمة الموسيقية التي تصدر عنه. صُنعت كل كاسة من أحد انواع المعادن السبعة. ولدى الطرق عليها تعطي صوتاً يساهم بالشفاء. تتألف «السينغنغ بول» من سبع كاسات لكل منها صوتها، ومسؤوليتها عن مكان محدد من جسد الإنسان تساهم بشفائه.
استنتج أنك حيال بحث عن شفاء بعيداً عن عالم الماديات والأدوية المركبة؟ صحيح يقول أيلي حرفوش. ويتابع: نعيش في عالم تسيطر عليه المادة. إنها الحقيقة. وعندما يصبح أحدنا أمام الأمر الواقع لن يتمكن من الهروب. فهل للإنسان مثلاً أن لا يتفاعل مع الموسيقى الجميلة؟ قد يكون ذلك مستحيلاً.