بين موت السياب وولادة المسيح

تمر هذه الأيام الذكرى السادسة والخمسون لوفاة بدر شاكرالسياب، وتتزامن ذكرى موته المؤلمة مع حدث عظيم وهو، احتفاء العالم واحتفاله بذكرى ميلاد المسيح، ولعل هذه المصادفة المحضة تقودنا للوقوف عند ثنائية الموت والحياة في صورة المسيح الفادي، التي تشبه تموز وأدونيس في شعر السياب.
يوظف السياب في قصيدته المشهورة (المسيح بعد الصلب) شخصية السيد المسيح، كما هو متداول عنها، فيتخذ منها قناعا للتعبير عن شخصية الثوري الذي يفتدي قومه بنفسه، فيكون موته ولادة الثورة، ويحمل المسيح في هذه القصيدة ملامح أسطورية، لعل مصدرها شغف السياب بالأسطورة، ولاسيما في رموز البعث والخلاص.
وتجسد القصيدة جدلية العلاقة بين الموت والحياة، حين يكون الموت شكلا من أشكال القتل أو إعدام الحياة، ولذلك اختار حادثة صلب المسيح، وفق الاعتقاد المسيحي، ويركز الشاعر على تصعيد الموت ليصبح جسرا لحياة أفضل، ومن موته ينبثق أفق الخلاص، وفجر المدينة، ويلاحظ في القصيدة حقلان دلاليان بارزا الحضور، يمثل الأول حقل الموت، وما يدل عليه كالدجى والنواح والقاع والصليب والمقبرة، ويمثل الحقل الثاني الحياة وما يدل عليها كالمخاض والنور والصباح والخبز والبذور والزهور وقطرات المطر، وهي مناسبة للدرس الأسلوبي من هذه الناحية.
يبدأ الشاعر قصيدته من لحظة نزول المسيح عن صليبه، الذي يكتشف أنه لم يمت، على الرغم من الصليب والمسامير والجراح، وها هو يستمع إلى عويل الرياح الذي غمر السهل، وهي رياح التغيير، كما يسمع صوت الخطى التي سارت وراءه، ويسمع صوت العويل والبكاء وقد تحول إلى ثورة تصنع الخلاص فكأنه الحبل الذي ينقذ السفينة. ويمجد المسيح في القصيدة موته، ويجسد موته فكرة الفداء، وهو موت في سبيل الجماعة، وفي هذا الموقف درامية عالية تتأسس على عظمة البطل في موقف الافتداء، الذي يمثّله المسيح، وهو يواجه مصيره ويرقى بصليبه إلى الجلجلة، ليمنح الآخرين الحياة، وتجري دماؤه في شرايينهم وتمدُّهم بالقوة، وهو في هذا السياق تختلطُ ملامحُ المسيح بدموزو الذي يقوم من موته في ربيع كل عام، ليجسّد فكرة الافتداء والبعث من جديد بعد الموت، ويمجد المسيح في القصيدة موته، فهو انبعاث للجماهير وفجر لخلاصها:
متّ كي يؤكل الخبز باسمي لكي يزرعوني مع الموسمِ
كم حياة سأحيا ففي كل حفره
صرت مستقبلا صرت بذره
صرت جيلا من الناس في كل قلب دمي
إن موت المسيح حياة ودماء تجري في قلوب الآخرين، أما حياة يهوذا وقد افتُضح سرُّه فهي موت، وهذه التقابل بين الصورتين يجسّد فارقا كبيرا بين نموذج البطل الفادي، ونموذج الواشي القبيح، وبقيام يهوذا بالوشاية بالمسيح يزداد قبحا ووضاعة، ويزداد المسيح بالمقابل عظمة وإجلالا، وتبرز في القصيدة آلية التحول في مستويين متقابلين متضادين: الأول هو تحول المسيح من الموت إلى الحياة، والثاني تحول يهوذا من الحياة إلى الموت، وما بينهما من مفارقة واضحة، وهذا التحول في ذينك المستويين شكْلٌ آخرُ من أشكال الدرامية، إذ يظهر التحول في أشكال مختلفة كالتحول من البؤس إلى السعادة أو من السعادة إلى البؤس، وغير ذلك. كما تتجسد الدرامية من خلال تصوير الشاعر لخطا الناهضين وراءه يحملون صلبانهم، وهو يسمع وقع الخطا ويصف الواقع في مقطع مستقل تختلف تفعيلته عن تفعيلة القصيدة، وهذا الاختلاف في التفعيلة يعطي المقطع خصوصية بين المقاطع الأخرى، ويجعل المتلقي أمام مشهد آخر مختلف، وأمام إيقاع مختلف ليؤكد الدرامية. وفي نهاية القصيدة يعبر الشاعر عن تفاؤله الكبير بالولادة الجديدة، فيتحول كل من في المدينة إلى مسيح جديد، وستخرج المدينة من مخاضها إلى فجر جديد:
بعد أن سمّروني وألقيت عينيّ نحو المدينه
كدت لا أعرف السهل والسور والمقبره
كان شيء مدى ما ترى العينُ
كالغابة المزهره
كان في كلّ مرمى صليب وأم حزينه
قدس الربّ
هذا مخاض المدينه
ويحاول الشاعر في هذه النهاية التركيز على الفكرة المحورية للقصيدة، وهي فكرة المسيح الفادي، والموت في سبيل حياة أفضل، وهي الفكرة التي تتولد عنها الحياة الجديدة بعد صراعها الطويل من أجل الحرية، وتتجسد صورة هذه الحياة المستقبلية من خلال صورة الغابة المزهرة، والمدينة التي تبلغ مخاضها، وهو ما يؤكد موقف الشاعر وإيمانه وتفاؤله بحتمية النهوض. لقد حملت شخصية المسيح في القصيدة مفهوما ثوريا، يتلخص في الفداء والثقة بالولادة من خلال الموت، فيموت الفرد ليولد المجتمع، وهي العبارة التي تنتهي بها القصيدة: هذا مخاض المدينة، والشاعر لا ينطق بهذا، إنما يقدمه على لسان المسيح في لوحات درامية يغلب عليها الحس الصوتي، إذ نسمع صوت المدينة وهو، صوت المسيح، كما نسمع خطا الناهضين ممتزجا بصوت صلبانهم.
وعلى الرغم من آليات الموضوعية الدرامية التي حاولتها القصيدة، فإنها تحمل أطيافا من الرومانتيكية والغنائية، فالمسيح يتغنى بصوت وقع الأقدام ورؤية الصلبان تملأ الآفاق، ويردد عبارات دينية شاعرية فيهتف مثلا: «قدس الرب» ما يعني أنه لا يمكن التخلص من الغنائية في النصوص الدرامية.

٭ شاعر سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد سعيد الخلف:

    في عصر الفيسبوك والكلام المرسل وكثره الشعراء أكثر مأنحتاجه هو الدراسه الاكاديميه شكرا صلاح

    1. يقول صلاح إبراهيم الحسن:

      شكرا لك صديقي محمد سعيد الخلف

اشترك في قائمتنا البريدية