تعيش افريقيا على إيقاع الانقلابات العسكرية المتتالية، والتي يترتب عنها تغييرات، سواء وطنيا أو في التموضع الجيوسياسي بين القوى الكبرى. وتمارس المؤسسات العسكرية تأثيرا كبيرا على الأوضاع السياسية، خاصة التوجهات السياسية للبلاد، وهذا لا يقتصر فقط على العالم الثالث، بل يحدث حتى في الدول الديمقراطية مثل الولايات المتحدة.
وعمليا، كان العالم يتابع باهتمام كبير الانقلاب العسكري في النيجر الذي وقع نهاية يوليو/تموز الماضي بسبب ما قد يترتب عنه من تدخل عسكري للمجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا، لإعادة الرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد بازوم. والتدخل العسكري يعني فتح الباب أمام مختلف القوى الكبرى، لتحويل تدخل من أجل الديمقراطية إلى صراع دولي قد يؤدي إلى بلقنة منطقة هشة سياسيا وإثنياً. وكانت المفاجأة هو وقوع انقلاب جديد في الغابون الأسبوع الماضي، ليكون الخامس في افريقيا الغربية بعد غينيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، ويزيد من اهتمام الناس بعلاقة الجيش بالسياسة.
والواقع أن هذه الانقلابات تختلف عن تلك التي عهدناها في الماضي، حيث كان كل انقلاب تليه عمليات اغتيال واعتقال واسعة، وإعلان حالة طوارئ استثنائية. الانقلابات هذه المرة، تتميز برفع المؤسسة العسكرية شعارات ضد الفساد واعتقال بعض ممثلي الطبقة الحاكمة، دون اعتقال الصحافة الحرة والمعارضة، علاوة على التركيز على استقلالية القرار الوطني في مواجهة القوى الاستعمارية السابقة. وفي حالة التحرر من هيمنة القوى الأجنبية في افريقيا الغربية، يتعلق الأمر بفرنسا، ولهذا يتحدث الجميع عن نهاية «فرنسا – الافريقية»، وهي التسمية التي تم إطلاقها على ارتباط افريقيا الغربية بباريس غداة الاستقلال. ولا يمكن الحديث عن ارتباط العسكر بالسياسة حتى تقع الانقلابات، كما هو الشأن في دول العالم الثالث غير الديمقراطية، بل تتمتع المؤسسة العسكرية بثقل حقيقي في صناعة القرار في كل الدول، بما فيها الدول الديمقراطية، إلى مستوى أنها أصبحت النواة الحقيقية لما يمكن تسميته بالدولة العميقة بمفهوم «الاستبلشمنت». وتمارس المؤسسة العسكرية تأثيرها عبر وضع تصورات لمستقبل البلاد، ليس فقط في الدفاع، بل حتى في السياسة الخارجية، لاسيما على المدى البعيد، ذلك أن الدراسات الاستراتيجية والجيوسياسية ارتبطت بالجيوش قبل أن تصبح الآن موضة مراكز التفكير الاستراتيجي عند المدنيين. ويمكن تقديم ثلاثة أمثلة حول التأثير القوي للمؤسسة العسكرية في صناعة القرار، وهذا يغيب كثيرا في وسائل الإعلام وفي النقاش السياسي. وهذه أمثلة من فرنسا والولايات المتحدة وإسبانيا. وعلاقة بإسبانيا، تبدي المؤسسة العسكرية في أكثر من مناسبة إشارات بشأن رفضها التام لقيام أي حكومة مركزية بمنح الحق للأقاليم التاريخية مثل، كتالونيا وبلد الباسك بإجراء استفتاء تقرير المصير. وتبقى حادثة رئيس القوات البرية الجنرال خوسي مينا أكوادو سنة 2006 منعطفا عندما هدد بتدخل الجيش إذا تم منح كتالونيا وضعا استثنائيا وقتها أكثر من الحكم الذاتي. تمت إقالة هذا الجنرال، لكن مختلف الحكومات تأخذ بعين الاعتبار مواقف الجيش في ملفات رئيسية مثل تطوير الحكم الذاتي أو العلاقات الخارجية في حالة المغرب. وأصبح للجيش الآن ناطقين باسمه، من خلال انضمام بعض الضباط الكبار المتقاعدين إلى الأحزاب والفوز في الانتخابات البرلمانية.
انقلابات افريقيا اليوم تتميز برفع المؤسسة العسكرية شعارات ضد الفساد واعتقال بعض ممثلي الطبقة الحاكمة، دون اعتقال الصحافة الحرة والمعارضة
في حالة الولايات المتحدة، أعلنت قيادة الجيش الأمريكي العصيان وعدم تنفيذ الأوامر خلال مايو/أيار 2020 عندما أراد الرئيس السابق دونالد ترامب إنزال القوات العسكرية إلى شوارع المدن الكبرى لمواجهة احتجاجات المواطنين ضد جريمة اغتيال جورج فلويد من طرف الشرطة. لم يسبق أن وقعت مواجهة بين قادة الجيش والرئيس في تاريخ الولايات المتحدة بهذه الحدة سوى مرة واحدة بين الرئيس جون كنيدي وقيادة الجيش بسبب أزمة صواريخ كوبا بداية الستينيات. في يونيو/حزيران 2020، كتبت في هذا المنبر يوم 15 يونيو 2020 مقالا بعنوان «الجيش يحسم هزيمة ترامب دون تزوير الانتخابات». وبالفعل، تبين وقتها استحالة استمرار الرئيس ترامب في ولاية ثانية، أو العودة إلى رئاسة البلاد. فقد اعتبرت قيادة الجيش أن ترامب خطر على الأمن القومي للبلاد، لاسيما في ظرف دقيق تمر منه الولايات المتحدة، نتيجة التحدي الذي تشكله لها الصين، إذ سيكون ترامب نقطة ضعف لواشنطن. وفي مثال آخر حول المؤسسة العسكرية الأمريكية، كان الجيش هو من قام بتغيير أجندة واشنطن من الاهتمام بالعلاقات الأطلسية الى التركيز على أن المستقبل سيكون في المحيط الهادئ بسبب قوة الصين الصاعدة. وبدأ منذ التسعينيات في إعداد الخطط لهذا الشأن والتحق المدنيون بها.
وفي حالة فرنسا، وقعت مجموعة من الضباط، ومنهم جنرالات في التقاعد على رسالة خلال أبريل/نيسان 2021 تنبه الى الوضع الخطير الذي تمر منه البلاد، وينسبون ذلك إلى الهجرة الإسلامية أساسا والتساهل مع الجاليات المسلمة في فرض الكثير من تقاليدها. وشكلت الرسالة التي جرى نشرها في مجلة «فالور أكتيال» المسيحية المحافظة هزة وسط المجتمع الفرنسي سياسيا واجتماعيا، إلى مستوى أن البعض تساءل هل ستشهد فرنسا انقلابا. وجرى تأويلها بأنها رسالة تمثل غالبية الجيش، وأن الموقعين الذين يوجدون في حالة احتياط أو تقاعد ينوبون عن مَنْ هم في الخدمة حاليا. كان للرسالة تأثير، وهي رسالة عسكرية في العمق. منذ ذلك الوقت، تبنى الرئيس إيمانويل ماكرون بعض مضامينها، وأصبح متشددا ضد تقاليد الجاليات الإسلامية، وآخر حلقة هو منع لباس «العباءة» في المدارس. ولا تدخل سياسة ماكرون ضد الهجرة بسبب منافسته لليمين المتطرف، بل لاحتواء مطالب الجيش.
وتوجد دراسات حول علاقات الجيش بالمؤسسة السياسية الحاكمة في الغرب، تتحدث عن زواج مصلحة بين الطرفين، حيث يتحكم العسكريون في القرارات عبر إنتاج التقارير والتوصيات الاستراتيجية التي يتبناها السياسيون. ويحرص السياسيون على تنفيذ واحترام هذه التقارير، وعندما لا يحترم السياسيون هذه التوصيات، يحدث الطلاق كما وقع بين الرئيس ترامب والمؤسسة العسكرية. ومن الولايات المتحدة دائما، كان الرئيس جورج بوش الابن يريد إعلان الحرب على إيران ما بين سنتي 2004 و2006، وقتها قدمت مختلف مؤسسات الاستخبارات العسكرية، وكذلك الشعب العسكرية تقارير تؤكد استبعاد صنع إيران القنبلة النووية، وقتها اعتبر جون بولتون السفير الأمريكي في الأمم المتحدة أن المؤسسة العسكرية والاستخبارات اتفقت كلها حول مضمون التقارير لتكون النتيجة واحدة وتفادي الحرب، ومثل هذا الاتفاق الذي سماه بالمؤامرة، وقع لأول مرة، اعتبره انقلابا غير مباشر ضد الرئيس جورج بوش من طرف الجيش.
كاتب مغربي
مقال آخر بديع نشكر القدس العربي والكاتب، يوم حافل بتفاعلات يقظة وفطنة واستعراض واستحضار ذاكرة مقارنات وتنويهات تاريخية.
هذا رد بالغ على من يتهمون ان بعض الدول يحكمها العسكر وفي الوافع ان
كل دول العالم محكومة من الجيش والا! وشكرا للكاتب على مقالاته