تأثيـر بيلوسي… بديـلا للاعتراف

ضمن جولة آسيوية أظهرت النائبة الديمقراطية نانسي بيلوسي في زيارتها الأخيرة لجزيرة تايوان، مدى حرصها على التزام الولايات المتحدة بدعم الديمقراطيات والدفاع عنها، وفي الوقت الذي انتشى فيه التايوانيون بالاعتراف الضمني لاستقلالية الجزيرة، تعالت التصريحات بين مؤيد ومعارض، كهستيريا حجبت تداعيات زيارة بابا الفاتيكان لكندا، وبديلا عن أهمية الاعتراف بجرائم الكنيسة ضد السكان الأصليين، ومن مقاربة الزيارتين وتشكليهما صورة الانحياز الغربي المفرط والمهدد للسلام العالمي، يتبادر السؤال حول ضرورة تفعيل آليات الاعتراف المنصوص عيله ضمن ميثاق الأمم المتحدة، ومدى “تأثير طلب الصفح” في سياقه التاريخي والسياسي “المعزز” لفكرة التسامي المطلق للغرب.

المأزق الإنساني

من المهم معرفة أن يعترف الإنسان بخطئه وجرمه، فأولى عملية التصالح مع الذات أن يبرأ المعترف من تنصله المستمر والمبرر، للخطايا والأوزار التي بسببها يفقد البشر إنسانيتهم، لكن ثمة معضلة تواجه الجاني كي يعترف بارتكابه بالمعنى الذي يضفي عليها تعبيرا حقيقيا عن كونها جريمة ضد الإنسان، تلك المشكلة تبدأ من المنظور الإنساني للعلاقات الاجتماعية والفردية بين البشر، سواء في إطارها السياسي أو الثقافي أو حتى امتدادها التاريخي الذي يتصدر مسألة الاعتراف بشكل تطغى فيه المظلومية التاريخية كنوع من الاستلاب والهيمنة.
ولتحديد ما إذا كان بوسع الإنسانية تجريم الممارسات اللاإنسانية وفق القانون الدولي، فإنّه من المجحف أن يرتكز مفهوم الاعتراف على تذليل الإرث التاريخي للشر المستفحل في ذاكرة المستعمِر والمستعمَر على حد سواء، فالأول رأى في ممارسته الكولونيالية فعلا ارتقائيا لحماية حضارته ممن زعم أنهم برابرة متخلفون، أما الآخر المستعمَر فبالكاد يتخلص من مظلوميته التاريخية التي يلقي بها مع كل احتفالية للاستقلال، على انفعالاته السياسية ليتخلص من “تبعات السعي الحقيقي” وراء الاعتراف ليس بالجرائم فحسب، بل بالتجاوز البشع والمخيف الذي طال “الحقوق الإنسانية” لتؤول إلى مسألة سياسية بامتياز، تستنزف بموجبها مختلف السرديات التاريخية والاجتماعية وفق استجابة لاأخلاقية للأنظمة أو المؤسسة الفاعلة، هنا يستعيد الشر عافيته وقدرته على تجاوز الخصوصية والحالة الاستثنائية للجريمة في سياقها التاريخي، فالحرب مع ما تجتريه من ضحايا مدنيين، لا يمكن احتواء تصنيف تبعاتها كجرائم ضد الإنسانية ما لم يخضع المبدأ الإنساني للطموح والتصنيف الغربي، إذ الحرب ذاتها ستكون “البديل الأمثل لتحرير الإنسانية وحماية العالم من الشر الكامن في الآخر” حيث يخضع الآخر بدوره إلى تهم وتوصيفات لا تتقادم ولا تزول باستعادة هوس الهيمنة.
وعليه يكمن التساؤل، ما الإنساني؟ مسألة بالغة الأهمية لدحض الادعاءات ذي النزعة العالمية للأيديولوجيا الغربية، مع تحديد زمنية ولادة الإنسانية الواضعة للبراديغم الغربي، للاعتراف الكامل والصريح عن العلاقة المضطربة بين الأنواع الإنسانية المتفاوتة في العدالة والمساواة، وفي الجوانب التصنيفية للبشر من حيث البدائية والإنساني وفق صياغة مواثيق أكثر انحيازا وعنصرية، فإمكانية إلغاء الآخر بتجاوز تاريخه وثقافته ولغته، قد تغرق طالبي الاعتراف في دوامة “البحث عن توافق سياسي واقتصادي” لتحقيق تطابق المصلحة الذاتية ضمن سياقها الإمبريالي، وعلى ذلك تتأسس فكرة الصفح باعتبارها إقرارا للانتقال الآمن والسلس(العدالة الانتقالية، الحكومات الانتقالية)، نحو الاعتراف المضمر للهيمنة على الإرث الإنساني والتاريخي للآخر، فالإبادة كأبشع سلوكيات البشر وأقدمها مزاولة، لا تتحقق فيها “شَرْطِية ضد الإنسانية” ما لم تنشأ عن تصور تقليدي غربي لها، وفق غيرية راهنية لتلفيقه المستمر والفاضح لإمبرياليته، وذلك من حيث ارتقاؤها وعلوها لتخليص الإنسان من بدائيته ونفي آخريته.
وعلى ذلك يخضع النوع الإنساني للمنظور التطابقي الغربي، كفكرة غير قابلة للنقد والاستبدال، إذ صعوبة الاعتراف بامتلاك الآخر قدرات لغوية وثقافية مرتبطة بوعيه وعقلانيته، تقف أمام مأزق إنساني اعتباطي متعلق بتحديد نوع معين تتأثر به مختلف الأنواع الإنسانية الأخرى، دون الحاجة للاعتراف بالفكرة المؤسسة للقيم المشتركة على أنها إلغائية وعنصرية بامتياز، فإنسان الحضارة المادية يملك من القدرات الثقافية والتكنولوجية ما قد يسمح له بالتعبير عن ذاته وانفعالاته، دون تجاوز الحدود واللوائح التي تسنها القوانين والتشريعات المؤسساتية والحكومية، وإلى هنا يتكرر الجدل حول ما الإنسان أولا؟ قبل تحديد فكرة الإنسانية باعتبارها بناء حضاريا لتلك القيم المشتركة والجامعة للجنس البشري، سواء كانوا بدائيين أو إنسانيين، متوحشين أو حضاريين، بروليتاريين أو بورجوازيين.

اعتراف دون سلام

ما تزال اللعنة تلاحق بابوية الفاتيكان، فمن قضايا التحرش الجنسي إلى الكشف عن مقابر جماعية لآلاف السكان الأصليين الذين مارست عليهم الكنيسة صنوف العذاب، تحت برامج تربوية قسرية وفق التعاليم الكاثوليكية، غير أنّ رحلة البابا فرنسيس لطلب الصفح وإعلانه التوبة أمام أبناء الذين كتب لهم أن يخضعوا لدمج ثقافي قسري، ضمن سياسة المدارس الداخلية المجسدة للعنصرية والتشويه الذاتي، وفي وقت يتداعى العالم نحو مزيد من البربرية، وتهجير للمدنيين تحت ذرائع مختلقة، تجعل من الحق في القتل سياسة ممنهجة “للتأثير البيلوسي” كونه حالة مرضية مستفحلة تعبر عن التبعية الغربية المطلقة للإمبراطورية، لا ترضخ للعواقب المخيفة والمرعبة بأن تواجه الإنسانية استنزافا بنقض مبدأ الصين الواحدة.
تنطلق فكرة الاعتراف بالجريمة كونها منافية للقيم الإنسانية المشتركة، كالعدالة والمساواة والتسامح والحرية والديمقراطية، حيث لا تخضع تلك القيم إلى شرطية التسامي وفق عرق معين، أو طائفة أو رؤية سياسية منحازة، كما أنّ تأثيرها يحمل مرجعية تاريخية تستعيد من خلالها ذاكرة الآخر قوة تمثيلها، أما عن الممارسات التاريخية ضد الإنسان من طرف المؤسسة الاستعمارية الغربية، وإن بدا بشكله الحضاري يتماهى مع النزعة المسحانية(المسحية الروحانية) لحماية حدوده، فإنه يستعيد حضوره العالمي كتهديد للسلام الدولي مع تدخلات الامبراطورية المستفزة.

ماذا عن بابوية المؤسسة الغربية؟

تبدو فكرة العقلانية كحتمية هي السمة الغالبة في التصور الوجداني والحضاري للغرب، إذ إنّ قيمه الحضارية تملك من الحساسية المفرطة ما يجعلها غير قابلة للنقد والتجريم، وبدل العمل على تفكيك معادلة “أن تفكر بحرية، لكن امتثل وكن مطيعا” لقدرة المؤسسة النيوليبرالية لتحقيق نمط إنساني استثنائي، متشبع برغبة استهلاكية مرتكزة بشكل فظيع على استمرارية فقاعة الرفاه لتحقيق تمثله الحضاري، فالتفكير الغربي مرتبط بمستوى الأدائية المغلقة على تقبل الآخر بكل تنوعاته وإبداعاته وأصلانيته، إذ إنّ الاعتراف به لم يخضع لشعارات العدالة والمساوة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ولا حتى التسامح والحق الإنساني من زاوية تنوعه الثقافي، بل إنّ الحرية والديمقراطية لم تكونا سوى ظلال حارقة تجاهلت بكل اعتباطية وعبث ممنهج شغف الشعوب الحالمة بالعدالة والكرامة، ذلك التمثل المؤسساتي الغربي نحو اكتساب المزيد من المصالح والثروات المنهوبة، لم يختلف مطلقا عما مارسته البابوية الكنسية في سبيل استرضاء جشعها وهوسها في اقصاء الآخر، حيث تعمل القوانين الأوروبية على تكسير طرق الدمج الاجتماعي والثقافي لمن تعتبرهم وافدين، مهاجرين، بشتى أنواع التحيز القانوني لدعوات اليمين المتطرف.
من الخصوصية الفردية إلى الشمولية المؤسساتية العابرة للجنس والثقافة والهوية، استوطنت هواجس المثلية الجنسية على التفكير الغربي باعتبارها عبورا نحو تمثيل حضاري وتنوع هوياتي، الاعتراف بها أحد أهم الأسباب للاندماج والتسامح، كما أنّ قانون الانعزالية الفرنسي ضد الأقليات المسلمة، ما زال يحظى بالدعم الكامل ليس من اليمين فحسب، بل من اليسار الذي أسلم وتلّه للرهان الانتخابي، تلك القوانين وإن اعتبرها البعض على أنّها حماية لمبدأ العلمانية الأوروبية، غير أنّها تجاوز غير أخلاقي يستهدف بشكل عمدي الآخر بوصفه مسلما، شرقيا، أسود اللون، ليس بمقدوره التعايش مع الحرية المفرطة في “المساواة بين الجنسين”.
تأثير “البابوية المؤسساتية” في الغرب يثير الجدل بخصوص السياسات التي تنتهجها الحكومات الأوروبية تجاه أقلياتها، فنظام “السوسيال” الذي يقوم على مبدأ حقوق الإنسان، لا يختلف عن الممارسات الكنسية التي سعت إلى تجريد السكان الأصليين من هويتهم وثقافاتهم، فادعاءات السوسيال بحماية الأطفال “المسلمين” من العنف الممارس عليهم، لا يتوافق مع القيم والروابط الاجتماعية للآخر، ما يحيل “الأخذ القسري للأطفال” إلى تصرف إنساني غربي، يمكن التغاضي عن التجاوزات الهامشية والتداعيات الخطيرة المترتبة عنه، حتى العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا، والتي تتأتى مع تصريحات المستشار الألماني عن “استخدام روسيا لسلاح الغاز”، ما هو إلا اعتراف بفشل الغرب على تحقيق سلام متكافئ، فالحرب العالمية الثالثة التي أعلن بدايتها البابا فرانسيس، لا تقتصر على قطع امدادات الغاز الروسي ولا الصراع الصيني/التايواني، بل على تفعيل الاعتراف كمبدأ تتحقق بموجبه العدالة والمساواة، بعيدا عن التأثير البيلوسي للإمبراطورية على السّلام العالمي.

كاتب من الجزائر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية