تحولات النص والواقع: رؤية إلياس خوري النقدية للشعر العربي

محمد اليملاحي
حجم الخط
1

ما إن علمت بوفاة المأسوف على غيابه إلياس خوري، حتى تبادر إلى ذهني ذلك الكتاب الذي أفدت منه كثيراً في تدريس مادة الشعر المعاصر في أقسام البكالوريا الأدبية في إحدى الثانويات في مدينة سلا المجاورة لعاصمة المغرب الرباط.
يتعلق الأمر بكتاب إلياس خوري: «دراسات في نقد الشعر». أخرجت الكتاب من على رفوف مكتبتي في المنزل، فلاحظت أني اشتريته بتاريخ 10 أبريل/نيسان 1979، بما يعادل دولاراً واحداً اليوم، وهي السنة نفسها التي كنت مكلفاً فيها بتدريس المادة المذكورة، كما لاحظت أيضاً بعض الشروحات والتعليقات التي وضعتها آنذاك على هوامش بعض صفحات الكتاب بقلم الرصاص. تبين لي الآن أن تحليل إلياس خوري لقصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب كان السبب المباشر لشراء الكتاب؛ لأن تلك القصيدة كانت من ضمن النصوص المقررة بالكتاب المدرسي، وهذا ما يفسر كثرة السطور والهوامش التي وضعتها آنذاك على بعض صفحات الكتاب. لم أكن لأهتم، حينها، بمنهجية المؤلف بقدر ما كنت مهتماً بتحليله الذي كنت أجتهد لتقريبه إلى التلاميذ. بعد أن أعدت قراءة الكتاب الآن، انتهيت إلى أن إلياس خوري يصدر فيه عن تصوره لمفهوم النقد الذي يسعى إلى تطبيقه على النصوص التي درسها. ويتوزع هذا التصور، على نحو غير مباشر، على مواضيع الكتاب بنسب متفاوتة. ففي مقدمة دراسته لديوان «مفرد بصيغة الجمع» لأدونيس، يسجل خوري أن النقد «ليس محاولة إقامة جسر بين الشاعر والقارئ.. إنه ليس اختصاراً للقصيدة أو شروحات على هوامشها، بل فقط إعادة كتابة من منطق تزامن عناصر الكتابة المختلفة. إنه يقرأ النص في النصوص التي تجاوره. يكشف لحظة أو لحظات حركته، ليقيم في ثناياها عناصر رؤية جديدة للبعد الآخر الذي تبشر به الكتابة».
على ضوء ذلك التصور درس إلياس خوري القصيدة من خلال اختيار ثلاثة افتراضات:
– أن التحليل يجب أن يتم من خلال دلالة النص في علاقتها بالعالم الخارجي، الذي يعيد النص التعبير عنه من خلال الرموز والأساطير والإيقاعات والصور؛
– تكوّن الإيقاع من عنصري الوزن والقافية، ثم الصور.
– وضوح صوت الشاعر في القصيدة باعتباره مهندساً لبنائها.
وقد استدل المؤلف على سلامة الافتراضات من خلال التحليل النصي للقصيدة، معتمداً في ذلك على مقاطعها لينتهي أخيراً إلى أن القصيدة تشكل منعطفاً في تاريخ الشعر العربي لتوفرها على السمات التالية:
– الطول، لكونها لا تعالج موضوعاً واحداً، بل عدة موضوعات؛
– الانبعاث المزدوج، انبعاث الحلم الثوري الذي شهدته المنطقة العربية خلال الخمسينيات، وانبعاث شعري دال على مرحلة جديدة في تاريخ الشعر العربي؛
– الإيقاع الخاص الذي يسعى إلى استخدام جديد لعروض الخليل.
كما يسجل في موضوع آخر أن «الكتابة النقدية هي محاولة للوصول إلى التحولات في جسد النص، التقاطها لحظة حركتها داخل حركة جديدة. من هنا فهي لا تفسر التفاصيل؛ لأنها لا تقيم في الماضي، تقدم للعلاقات عناصر ارتباط في محورين: الداخل، بنية القصيدة، حيث تتفاعل العناصر المختلفة لتقدم لوحةً متكاملةً ومنطقاً داخلياً خاصاً، يوحد العمل الإبداعي ويربط مفاصله. والخارج، حين تقدم الكتابة النقدية مشروع رؤية أخرى، تكسر منطق النص وتدرجه في منطق أكثر شمولاً، منطق تحولات الواقع خارج القصيدة».
وعلى الرغم من أن إلياس خوري لم يكشف عن مرجعيته في صياغة هذا التصور؛ لخلو كتابه من المراجع المعتمدة وفق المنهجية الأكاديمية.. على الرغم من ذلك، فبإمكان القارئ اكتشاف ملامح تلك المرجعية. على مستوى الأسلوب، يلاحظ تأثره الواضح بأسلوب أدونيس، لدرجة يصعب معها التمييز بين الأسلوبين. أما على المستوى النظري، فمن المرجح أنه يستوحي البنيوية التكوينية التي تربط بين النص وحركة المجتمع. ويفسر هذا النزوع بالتاريخ الاجتماعي الذي أنجز في إطاره أطروحته للدكتوراه في الجامعة الفرنسية، وكذا الحركة النقدية السائدة زمان متابعته للدراسة في فرنسا، حيث كانت البنيوية ما زالت مهيمنة، سواء داخل الجامعة أو خارجها، ولعل هذا ما يفسر حرص إلياس خوري على الربط بين الإنتاج الأدبي والإنتاج النقدي، باعتبارهما معاً شكلاً أيديولوجياً وحقل صراع طبقي. ويذكر هذا الربط بربط آخر دعا إليه الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير، بين الممارسة العلمية والممارسة السياسية، بحيث تصبح الفلسفة نفسها صراعاً طبقياً على مستوى النظرية.
وتحتاج أعمال إلياس خوري، بشقيها الإبداعي والنقدي، إلى دراسة تبين أصالة أعمال الرجل ودوره النضالي على المستويين السياسي والأدبي.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نجمة:

    وفاة الاستاذ الياس خوري خسارة كبيرة لاهله و لنا نحن قراءه و منتظروا مقاله الاسبوعي على هذه الجريدة الغراء كتاباته بلسم ينزل على القلب . لينم قرير العين محب فلسطين حتى النخاع و المدافع عنها بقلمه الحاد.

اشترك في قائمتنا البريدية