نبدأ بالوقوفُ على عنوان رواية الشاعر والروائي باسل عبد العال «العائد إلى سيرته» وغلافِها؛ لأن العنوان في المنظور السيميائي النقدي، يُشكلُ عتبة، يَستشرفُ منها القارئُ آفاقَ الرواية، ويبدأ منها فهمُ البناء الفني للعناصرِ الروائية، فالعنوانُ إطلالةٌ لغويةٌ تختزلُ عصارةَ الرسالة، أو الغاية التي تنطوي عليها أحداثُ الرواية الصادرة عن دار الأهلية الأردن 2022. ولأن الغلافَ صورةٌ بصرية وعلامة سيميائية تتعالقُ حتما مع دلالةِ العنوان، وأي انفصالٍ بينهما يُفضي إلى خصام بينهما وبين مضمون الرواية، فالعملُ الأدبي ثالوثٌ إبداعي يتكون من عنوانٍ وغلافٍ ومضمون. واستئناسا بما نقدم، فإن «العائد إلى سيرته» روايته الأولى التي تطالعك بغلافها الأزرق مع سنديانة تطل علينا بأوجه ثلاثة: أولها طاعن في السن قد تخلى عن كل أوراقه وأصبحت أغصان رأسه عارية، أما الثاني فهو أكثر شبابا، يليه الأخير، حيث نرى الأوراق الخضراء التي ما تزال نضرة فوق رأسه. هذه الوجوه الثلاثة تنظر نحو البحر شامخة الرأس، غير حانية تتشارك جذعا واحدا صامدا في التراب رغم اشتداد الرياح. أما العنوان الذي اختار له اسم الفاعل «العائد» ففيه من الدلالات الكثير، فالعودة ليست حدثا واقعا انتهى، بل هي حركة متجددة تتناقلها الأجيال، فاسم الفاعل الذي يعرف بأنه «صفةٌ تُؤخذ من الفعل المعلوم، لتدل على معنى وقع من الموصوف بها، أو قام به على وجه الحُدوث لا الثبوت» وقد يكون ذلك بسبب وصفه لأشكال التجدد والصفات التفاعلية التي تتميز برحلة العودة أو حلم العودة أو الأمل بالعودة.
هذه الصورة ستقودنا إلى مضمون الروايات التي يتقاسم بطولتها ثلاث شخصيات هي على التوالي «العجوز عمود الخيمة، الرجل الكهل كاتم الصوت، وابنه ابن كاتم الصوت كما سمّاهم الكاتب». وكأني أمام وصية أو رسالة تتوارثها الأجيال الثلاثة من عجوز فكهل إلى طفلٍ. جاء في الصفحة الأولى تحت العنوان «العائد إلى سيرته» إنها رواية واقعية، ما يعني أن علينا الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، فنسأل ترى هل هي سيرة أحد الشخوص الثلاثة، التي جاءت في رسمة الغلاف؟ أم أنها سيرة الكاتب الذاتية، بما أن ضمير الأنا هو المتحدث في الرواية؟ أم أنها رواية كل الفلسطينيين تقال على لسان كاتبنا؟
قسّم الكاتب عمله إلى تسعة فصول سمى كل فصل بكلمة «النطق» فجاء النطق الأول والثاني وأما الأخير فأطلق عليه عنوان «النطق الأخير» وأتساءل هل لهذا العدد رمز ما أيضا؟ هل يدل على ولادةٍ جديدةٍ تعطي الفرد البطل حق الوجود والهوية؟ هل تماثل عدد الأشهر التي يحتاجها الجنين لاستكمال نموه ونضجه الكافي ليصرخ صرخة الحياة؟ أم أنها تشير إلى كاتم الصوت، الذي بدأ نطقه يتحسن في النطق الثالث أي في سن الثلاثين، استنادا إلى أن سن الرشد والنضج في العقد الثالث؟ كما تمر معنا أعداد أخرى، فهل الست وسبعون غيمة التي مرت على الخيمة هي نفسها سنوات النكبة، التي لحقت بالشعب الفلسطيني المهجر في مخيم البارد (مكان يعيش فيه الكاتب اليوم)؟ وهل وفاة العجوز عمود الخيمة في عقده الثمانين مرتبط بعدد السنين التي دامت فيها كل الحضارات اليهودية عبر التاريخ؟ هذه أسئلة أضعها بين يدي الكاتب وأسئلةٌ أتركها له، إن شاء، إشباع فضولنا.
يؤكد عبد العال من خلال روايته، الهُوية العربية والهُوية التراثية من خلال ما قدمه من فصولٍ تدعم المقاومة، وتدعو إلى الالتحام بالأرض، والصمود، والتمسك بالتراث والقومية العربية. وقد استخدم الرموز المختلفة في صوره هذه، صور استمدها من التراث والأساطير. وحيث يتصل المعجم اللغوي للكاتب، عموما بما تراكم من ألفاظ الأمة على مرّ العصور، غير أنه ينمي مفرداته الخاصة تبعا لتجربته، فضلا عن تأثره بالتطورات الحضارية وتحصيله المُكْتَسَب. وإن شيوع ألفاظ معينة في إنتاجه يشير إلى تجربة خاصة تكونت لديه، تحتاج إلى شبكة لفظية ذات دلالات معنوية ونفسية تناسب هذه التجربة. وتعبر عن تلك الحالة الانفعالية التي تسيطر عليه، ثم إن إلحاح تلك الألفاظ واختيارها يؤكد هذه الحالة التي تضغط عليه». ومن هنا كان هذا المثلث المعجمي الذي شكل التجربة الأدبية لدى عبد العال في حديثه عن العودة وأهمية التمسك، حيث تظهر لنا الحقول المعجمية التالية: ثنائية الريح/ الطبيعة البحرية، وثنائية الذاكرة/ النسيان وثنائية الحلم/ اللغة. فنرى أنه استخدم 370 مفردة تحضن الحقل المعجمي للطبيعة (70%) تخص البحر ودلالاته، و352 مفردة للتعبير عن النطق، ثم 294 مفردة لوصف النسيان/ الذاكرة، فـ212 للريح و131 كلمة للحلم. في حين لم ترد الخيمة إلا 45 مرة. وفي تحليل هذه الأرقام تظهر الطبيعة في طليعة الحقول ارتبط معظمها بالبحر كأنه السبيل الوحيد الذي يمكن للكاتب من خلاله أن يصل إلى وطنه وهو في الغربة. هذا البحر الذي قد يحمل نقطة ماءٍ اختلطت بعرق ترابٍ فيتنشق عبير الأرض الحبيبة لتحيي روحا أتعبها الفراق. هو رمز الوطن، فالكاتب من عكا، ونحن نعلم جيدا علاقة أهل عكا ببحرهم، فهو الرئة التي كان يتنفس منها العكاويون، فهو مصدر رزقهم، ولعبهم وضحكاتهم، كاتم أسرارهم ومجمع شملهم، والأصل وراء حبهم وفرحهم، ضحكهم ودموعهم. من هنا كان لا بد له أن يشيد مكان روايته على شاطىء بحرٍ يحضن أحلامه ويمسح آلامه وينمي آماله.
أما النطق، فالرواية بكامل أحداثها تدور حوله، فكان لزاما أن يستعين الكاتب بمفردات تغني معجمعه وتفيد معناه. ومن تشابكه مع باقي الحقول الدلالية، تظهر أمامنا الأسئلة التالية: هل النطق الأول هو تعلم لسان أهل البلد والتمسك القوي بلهجاته؟ «حيث إنك إن دخلت إلى المخيمات الفلسطينية، ما ستلاحظه هو تمسك أهله الشديد بلهجة قراهم إضافة إلى اللهجة الفلسطينية الجامعة». وهل النطق الثاني هو حمل العادات والتقاليد وحفرها داخل الذاكرة «أسماء الريح التي فصلها وأودع لها مقطعا كاملا مع حفظ أسمائهم وأسماء قراهم «أعيدوا إلينا سيرتنا كي نستعيد أسماءنا الأولى» وهل يتم النطق الثالث بعد أن يتم الإنسان حمل الذاكرة الحضارية بكل ما تحمله من مستويات لغوية وتاريخية، طعام وملبس، مساكن ودراسات («الريح لهم عاداتهم في تمسكهم بالثوب الذي يميل إلى رائحة الأوراق المعلقة» هذا التعلم ينحتك حتى تصبح ناطقا في المستوى الرابع والخامس، حيث تتعلم المقاومة بالتذكر والحلم، لتنتشل بقوة الوجود والصمود النطق السادس نطق الحرية؟
وينتقل بعدها إلى مفردة الريح التي يجعل الانتماء لها، فهو من أهل الريح «وأنا لم أكن سوى أنا.. كلامي المعلق في الحنجرة، لا تعريف يدل عليّ سوى الرمل، لا أعرف شيئا عني سوى أني من أهل الريح». كانت الريح منذ كلكامش، قوة غيبية تقتلع مدنا برمتها مرة، أو تُجير عدلا مهضوما. فهي بهذا المعنى قوة واعية، أو مدفوعة بقوة واعية. لا تهب إلا في الملمات الكبرى، أوحين يبلغ السيل الزبى. لكنْ مع خفوت الأساطير والاستيطان في المدن، لم تَعُدْ للريح تلك السلطة الفيضانية الجائحة. بيد أن الاحتدامات السياسية وركود الحياة في العالم العربي في الثلث الأول من القرن الماضي، أعادت للرياح بعض هيبة في الشعر، وإنْ كانت هيبة رومانسية، فباتت رمزا لقُوى غاشمة يتحداها الشاعر، أو هي طاقات مخزونة في الشاعر يفجرها بوجه السدود والحيلولات التي تقف في طريق تقدمه. من أهم هذه الدلالات لمفردة الريح في النصوص الأدبية هي العذاب، والدمار، والخراب، والعقم، والجدب، وأحيانا الرحمة والخير (وهي معانٍ جمعها الكاتب بلفظة الريح أو أهل الريح لتترجم كل هذه الدلالات).
من هنا أخذت الرياح، سواء ببعدها الغيبي، أم ببعدها السياسي، ثقلا نوعيا وأهمية متفوقة ولو على درجات. وهي بهذه المثابة لا تختلف عن أي مادةٍ خام، تكمن أهميتها في استعمالاتها المصنعة بالدرجة الأولى.
كاتبة لبنانية