منذ فترة الشباب الأولى، وقد انخرطت بالعمل السياسي مبكراً، رفعنا شعارات كبيرة عن حرية المرأة، ومساواتها بالرجل حقوقاً، ومكانةً، وتعاملاً… وعلى مدار العقود كتبت عشرات المقالات عن واقع المرأة، وأمنياتنا بتكريس أبسط تلك الحقوق . عن عيد المرأة، ودورها، وعن معيقات انتزاعها حقوقها، عن حركية التاريخ ومساراتها في العالم وعندنا ..
ـ على صعيد التجسيد لمست عدداً من الظواهر، او الوقائع الدالّة، بدءاً من الفرد وتعامله، وصولاً إلى المجتمع وما عرفه من شقلبات، واختلاطات تتسم بالتراجع، والفوات ..
النخب المثقفة
ـ على سبيل المثال، وأخصّ هنا بالتحديد المنتمين للاتجاهات اليسارية، والديمقراطية، والمثقفين العلمانيين وأشباههم، ومجمل النخب المثقفة التي ترفع شعارات كبيرة عن المرأة ودورها، وحريتها، ومساواتها بالرجل، وكنت ألحظ، بدءاً من نفسي، ذلك الاختلاط المتناقض في تركيبتنا، وتلك المسافة بين الشعارات وممارساتنا، خاصة في علاقاتنا الداخلية مع الزوجة والبنت والأخت وحتى الأم، وكيف أن أغلبيتنا ملوثة بتلك الشرقية الذكورية التي تظهر في علاقاتنا الداخلية، وكيف نخفي تحت اليافطات الكبيرة ذلك الرجل السيد، والرجل القائد، والرجل الذكوري الذي يتحصّن ـ عند الحاجة ـ بكل ما يحمله التراث من معطيات لصالحه، بما في ذلك السائد في ثقافة المجتمع، وحتى عند البيئات الشعبية ..
ـ كان التبرير الذي غالباً ما نتذرّع به أن عمليات التطور لا يمكن أن تكون فردية، ولا بدّ أن تكون نتاج تطور المجتمع، وأن مراحل التراجع والانحسار والردّة الشاملة فرضت واقعاً شديد الفاعلية والأثر، بما يجعلنا أسرى له، وأن الثورة عليه لا يمكن أن تنجح إلا بإرادة جماعية، وإلا أصبح حالات فردية، ونوعاً من التمرّد الذاتي محدود الأثر .
ـ مع تلك التحولات التي عرفتها جميع البلدان العربية، إلا باستثناءات قليلة، ومحدودة، عرف وضع المرأة تراجعاً محسوساً، خاصة في مجال العلاقات الاجتماعية، رغم صدور بعض القوانين التي تناولت حقوق المرأة ومساواتها بحقوق الرجل، ورغم التطورات الكمّية في مجالات التعليم، والوظيفة، والعمل..
ـ سنجد ذلك قاسياً حين نفحص دور المرأة في الأحزاب والقوى السياسية جميعها، وأولها الأحزاب الشيوعية واليسارية التي ضجّت كثيراً برفع الشعارات الكبيرة، بينما نجد ندرة في وجودها ليس في المواقع القيادية وحسب، بل وحتى على مستوى الأعضاء قياساً بعدد الرجال، ومواقعهم، وأدوارهم وبما يظهر هذا الخلل المريع الذي يجوّف الشعارات ويحولها إلى مجرد كلمات تتردد في المناسبات .
ـ سيكون هذا الوضع التراجعي عامأً على صعيد العالم، ولا نقصد هنا الجانب الكمّي بل النوعي، والذي يعكس تراجع العمل السياسي، ودور الأحزاب، وضمور القوى والفعاليات اليسارية على حساب صعود القوى اليمينية التي تحمل في أحشائها، رغم وجود بعض النساء في قياداتها، ذلك التمايز بين الرجل والمرأة، واختلاط المعهود الديني بالقوانين الوضعية، وضمور ذلك الاهتمام بواقع المرأة وتطورها في الميدان الاجتماعي والسياسي.
النساء الرائدات
في الثورة السورية برزت عشرات آلاف النساء الرائدات اللاتي تقدمن صفوف المظاهرات والحراك السلمي، ومارسن أدواراً مهمة في مختلف مجالات العمل، بما في ذلك المشاركة، ولو المحدودة، في العمل المسلح، وفي دعم المقاتلين بشتى الأشكال، وفي المعتقلات والعمل المدني متعدد الوجوه، ناهيك عن التضحيات الكبيرة في تحمّل أعباء السنوات القاسية، والثبات في الموقف لانتزاع الحرية، وتغيير نظام الجريمة والاستبداد، وتدلّ الأرقام التي دخلت المعتقلات، وتعرضت للتعذيب الشديد، وعمليات الاغتصاب المنهّجة، وضحايا القصف والموت المبرمج على أعداد مذهلة، كذلك الحال في مجالات اليتم والأرامل، والجرحى والمفقودات. ـ مع ذلك فإن مشاركة المرأة ـ واقعياً ـ في مختلف الأحزاب والقوى السياسية، وفي المؤسسات القائمة بشتى مسمياتها هزيل ويصل حدّ الندرة، وهو ما يعبّر عن واقع حال كاشف، ويحمّل المسؤولية الأساس لتلك القوى والمؤسسات التي تهيمن عليها الذكورية واقعاً ومفاهيم، وبما يخالف، ويناقض أسّ الثورة في الحرية والكرامة والعدالة، والمساواة بين جميع السوريين في الحقوق والواجبات .
ـ لقد نصّت بعض القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، واشتراطات الأمين العام على ألا تقلّ مشاركة المرأة في جميع التشكيلات والوفود والمؤسسات عن 30 في المئة، وجرى ملاحظة ذلك، عموماً، في اللجنة الدستورية، وهي خطوات مهمة وإن كانت تبدو وكأنها جبرية، وبعيدة عن واقع المرأة في العمل السياسي، وبما خلق نوعاً من التمايزات المفروضة التي تترك آثارها في الاندماج، والانتماء، وفي العمل السياسي والمؤسساتي لأن الفرق كبير بين أن تأتي تلك العملية كنتيجة لوجود المرأة في العمل الثوري والاجتماعي وبين أن تكون مفروضة بقوة إرادة خارجية ووفق شروط ومعطيات تبدو قسرية .
في اليوم العالمي للمرأة، وسوريا تشهد أكبر مأساة في عصرنا الحالي، بعد الحرب العالمية الثانية، فالذي لا شكّ فيه أن المرأة السورية هي الأكثر معاناة، وهي التي تتحمّل القسط الأكبر من آثار تلك المأساة، والأمر لا يقتصر على النساء المعتقلات، وتلك المفقودات، ومخلفات ذلك في أصعدة شتى، وفي مناطق النزوح واللجوء والهجرة شبه القسرية حيث الموت والمعاناة القاسية وحسب، ، بل في عموم سوريا إذ يواجه شعبنا الرازح تحت سيطرة نظام فئوي، مجرم، نهّاب ما يشبه المجاعة التي تلقي بأثقالها على كاهل المرأة أولاً، وعلى عموم الشعب السوري، لتأمين حدّ الكفاف، وإدارة شؤون الحياة اليومية في ظلّ الحرمان، واتساع خط الفقر كل يوم..
ـ مع ذلك، فالمرأة السورية المعطاءة ما زالت تقدّم مزيدا من التضحيات كل يوم، وهي أكثر تصميماً على مجابهة هذا الواقع الذي هو نتاج نظام حاقد لا يقيم وزناً لحياة البشر ناهيك عن أوضاعهم ومعاناتهم..
ـ التحية للمرأة في عيدها الذي يجب أن يتحول من تقليد سنوي باهت إلى برامج عمل تجسّد تضحيات المرأة، وتعكس وجودها الحقيقي في المجتمع عبر توفير مشاركتها الفاعلة والمباشرة في العمل السياسي، وفي مختلف الهيئات والمؤسسات القائمة .
٭ كاتب سوري
تحية للمرأة السورية المظلومة المفجوعة, وتحية للمرأة الفلسطينية الصابرة المحتسبة, وتحية للمرأة العراقية المضطهدة بحقوقها!! ولا حول ولا قوة الا بالله