تخييل كافكا انطلاقا من يومياته ورسائله

تمكننا رواية «كافكا الخاطب الأبدي» لجاكلين راوول دوفال، ترجمة محمد آيت حنا، من التعرف على حياة فرانس كافكا بتفاصيلها المدققة، خصوصا أن الكاتبة اعتمدت على ما تركه كافكا من يوميات ورسائل كان يرسلها إلى خطيباته وعائلته وبعض المقربين منه، وحافظت على كرونولوجية الأحداث، لتعطينا قصة تتصف بالسلاسة والوضوح وتقرّبنا من شخصية كافكا وأفكاره ومشاعره وانفعالاته ومعاناته ورغباته واستيهاماته وأحلامه.

رسائل كافكا

في بداية الكتاب تعرفنا على أول رسالة لكافكا يعتذر فيها لصديقه ماكس عن تدخله في عرضه الفلسفي. تلتها بعد ذلك عشرات الرسائل التي وطدت صداقتهما أكثر، وتعرفنا من خلالها على نقاط التشارك بينهما، كحبهما لأنواع الكتب والأفلام نفسها، خصوصا الأدب وكذلك تفوق فرانس فيه على صديقه، كما وصفته الكاتبة: «حينما يتعلق الأمر بنص فإنه ينتف ريشه، يزيل شحمه ولحمه دونما شفقة». كان ماكس يشجع دوما صديقه على نشر كتبه، خصوصا عند لقاء فيليس التي كانت تقوم بنسخ المخطوطات. أعجب ماكس بأدب وبشخص فرانس، إذ وصفه كإنسان منضبط في حياته اليومية، يحب الهدوء ويعتني بلياقته البدنية وينتبه لأكله الصحي النباتي. شغف الكتابة هو ما ربطه كذلك بفيليس، كما صرح في أحد رسائله: «إنك مرتبطة حميميا بأدبي» كان يخبرها في رسائله عن جميع تفاصيل حياته من ملابس ووجبات وأوقات النوم والعمل، وكان يلح عليها أن تطلعه على جميع وأدق تفاصيل حياتها في رسائلها، بل طلب منها أن تتخذ دفتر يوميات صغير لها. كانت أسئلته لها كما وصفته الكاتبة «إخضاعا لاستنطاق لحوح». فالكتابة هي متنفسه الوحيد الذي يفر إليه ليعيش، كما أقر: «أنا ينبغي أن أكتب إليك، وإلا قتلني الحزن». فعلاقاته العاطفية كانت كلها مبنية على رسائل يتبادلها مع عشيقاته ويعبّر لهن فيها عما يعتمل في صدره من مشاعر، وفي عقله من مخاوف، كانت الرسائل كمركبة للخوض في داخله وداخل الآخرين، كانت الأداة التي كان يبحث فيها عن حقيقة نفسه. كانت سلاحه لجلد الآخرين كاعترافه لخطيبته يولي عن حبه لميلينا حتى انتهى بها الأمر في مصحة فيليسلافين بعد سقوطها ضحية هلاوس، أدت إلى مصرعها. لم تكن رسائله جلداً للآخرين فقط، بل لنفسه أيضا عن طريق محاولة إبعادها عمن أحبهن بكل جوارحه، بل استعملها لمنع والديه من زيارته في أيامه الأخيرة في المستشفى. كانت رسائله مصدر أمل وفرح أيضا كما مع الطفلة مالو، التي وجدها كافكا تبكي على فقدان دميتها. وليمحو حزنها، أوهمها بأن الدمية سافرت وتركت معه رسالة لها. فسافر بالطفلة إلى عالم دميتها التخييلي، عن طريق الرسائل التي مكنتها من نسيان حزن فقدانها وملأتها شغفا وفرحا.

محيط كافكا

كانت علاقة كافكا بمحيطه علاقة الغريب، الذي لا يطيق ما حوله. وصف أفراد عائلته بالمخلوقات الوحشية، حيث كان ينبذ ضجيج الكلام وضجيج الشارع من سيارات لدرجة أنه كان يسد أذنيه بكريات الشمع. كانت علاقته بأبيه علاقة خوف وحقد وترهيب ومعاناة، حيث وصفه بالمارد والطاغية. فالأب لم يفهم ولم يقدر عشق ابنه للكتابة، واعتبرها مجرد «تسجيل تفاهات» ولم يفهم أن حياة ابنه تتمحور حولها، كما صرح به «حيث لا أكتب، أتهاوى أرضا، أصير غير صالح إلا للكنس». أما علاقته بأمه فهي علاقة ينقصها التعبير عن المشاعر والحب، فالأم لم يكن يراها إلا في وقت متأخر في المساء، نظرا لعملها في المتجر كي تساعد زوجها. وصف كافكا علاقة أمه بأبيه بالعبودية، وكان يحتقر انحناء ظهرها بسبب المعاناة التي عاشتها. أما علاقته بأخته أوتلا فكانت قوية وحنونة، كانت ملجأه في محنته المرضية، وأكثر الناس المقربين إلى قلبه. إن الظروف التي كان يمر بها المجتمع آنذاك، كانت تعمها الفوضى والغلاء، بل كانت مليئة بالمآسي، لدرجة أن امرأة خنقت ابنتها ذات التسعة أشهر بسبب الجوع والقهر، كما أن البلاد كانت تمر بظروف حرب. هذه الظروف جعلت فرانس كثير الانشغال حتى عن الكتابة بسبب التحاق الموظفين بالخدمة العسكرية، ما دفعه للعمل أكثر لتسديد ذلك الخصاص. بعد ذلك عانى من الفقر وسوء التغذية والتدفئة، ما أدى إلى تدهور صحته. قبل مماته طلب من ماكس أن يبيع كتبه لتسديد تكاليف المستشفى.

كان فرانس يجد حريته في الأدب. فشغفه بالكتابة كان قويا ومرتبطا بالسعي إلى الحقيقة. فقد قال: «تكتب لتنتزع حقك في الحياة». كان يحرق الكثير من مخطوطاته وكتبه كوسيلة للتحرر من قيوده النفسية وإخفاقاته المتكررة، بل طلب حرق رسائله حتى بعد مماته كتحرير لروحه.

موقف فرانس من الزواج

كانت نظرته أكثر من مجرد نفور. قال: «إن مجرد التفكير في رحلة شهر عسل يملأ نفسي رعبا، أي زوجين هما بالنسبة لي بمثابة فرجة شنيعة، إن أردت أن أشعر بالغثيان فما عليّ إلا أن أتخيل نفسي سائرا مع امرأة واضعا ذراعي على ردفها». بعد طلب فرانس فيليس للزواج، بدأ بالتراجع والتهرب، بل تمنى أن ترفض طلبه. لقاؤه مع عائلتها باء بالفشل. أما اختلاف أذواق كل منهما، فقد ساهم أكثر في فشل هذه العلاقة، فأصبح يرى زواجه كـ»صرح جنائزي» بل وصف نفسه في حفلة الزفاف «كالمجرم المحاط برجال الدرك». موقفه هذا من الزواج كان مماثلا حتى في علاقته مع يولي، الشابة التي أصر على أن يتزوجها، رغم رفض والده بسبب فروقاتهما الاجتماعية والثقافية. بعد موافقة الشابة على هذا الزواج انتابه الشعور نفسه بالرهبة، لأنه ظن أن الزواج سيفقده حريته ويبعده عن الكتابة، أي عن الحياة. كان نجاح وفشل علاقات فرانس مرتبطة بأدبه؛ فعلاقة فرانس بفيليس كان يسودها الاضطراب منذ البداية. كانت محاولات متكررة لابتعاد الواحد عن الآخر. كانت تسبب له هذه العلاقة الابتعاد عن الكتابة، خصوصا كتابة يومياته. فهي لم تكن تهتم بكتاباته، حتى إذا أرسلها لها كانت تهملها ولا تقرؤها، مما كان يثير غضبه وحزنه. ومع ذلك نجح في كتابة «قصة الحكم» وعبّر لفيليس عن امتنانه لها في كتابتها، فهي كانت الشغف الذي يزود كافكا بالقوة والحماس، للتقدم في رواياته حيث كانت مؤنسة وحدته.
بعد إنهاء علاقته بفيليس، التقى بميلينا التي بينت اهتمامها بكتبه واقترحت ترجمتها إلى اللغة التشيكية، تحولت علاقتهما إلى حب عن طريق رسائل هوجاء، كما وصفها فرانس. تشبهه ميلينا في علاقتها السيئة مع والدها، الذي رماها في مستشفى الأمراض العقلية، لأنها توجت الشخص الذي أحبته. أحب فرانس ميلينا المتزوجة التي صدته واستخدمته واستغلته ماديا ومعنويا، كانت الشخص الوحيد الذي سلمه دفاتره الزرقاء السميكة.
بعد فشله العاطفي المتكرر، قابل دورا، التي أحبت فيه فرانس الإنسان والكاتب، تشبثت به وساندته في معاناته مع المرض ولم تفارقه لحظة حتى مماته، وعاشت معه ظروفا قاهرة. عانى من الفقر ومن الأخبار اليومية المفزعة، وكان ملجؤهما المريح هو البيت اليهودي الذي كان يقدم دروسا في الفن والثقافة واللغة مجانا، وحلما معا بالسفر والعيش في فلسطين. دورا هي الوحيدة التي كان يكتب فرانس بحضورها وهي تتمعن في تغيرات ملامح وجهه خلال الكتابة.

محاكمة فرانس

صدرت أول محاكمة لفرانس من الأب، لقد رسم الأب لابنه مشواره نحو الهلاك وحكم عليه بالإعدام. طارد الأب فرانس حتى في أحلامه ليذكّره بتعذيبه وهو طفل. لقد عنفه جسديا ومعنويا واحتقر هيئته الضعيفة، ووبخه على أصدقائه الذين نعتهم بالتافهين، ولم يهتم يوما بقراءة كتبه. وحتى وهو راقد في المستشفى منّ عليه تكاليف العلاج. ثاني محاكمة شهدها فرانس كانت من فيليس، التي وبخته على علاقته بصديقتها غريت أمام الحضور. قرر فرانس في هذه المحاكمة الالتزام بالصمت أمام إهانات فيليس له، والهروب إلى خياله لتمرير وقت المحاكمة. فحسب قوله جحيمه لا يمكن الفرار منه إلا عن طريق الأدب.
أكبر محاكمة لفرانس كانت محاكمته لذاته؛ فهو كان يرى دائما نفسه في قوقعة التعذيب والجلد، فعلاقته بفيليس وصفها بالملعونة، حتى حياته وصفها بالملعونة، تمزق كل من حوله، بل كان يبعد الآخرين عنه، لأنه كان يظن أنه سيجلب لهم فقط الألم والمعاناة. لقد قيم نفسه بالمتعلم البطيء والإنسان البطيء في تحقيق أهدافه الأدبية والشخصية والعلمية. عالمه يسوده العبث ككتبه، وكما وصفتها فريفل «أنى للمرء أن يكتب بهذا القدر من السوء».

تحرر فرانس

كان فرانس يجد حريته في الأدب. فشغفه بالكتابة كان قويا ومرتبطا بالسعي إلى الحقيقة. فقد قال: «تكتب لتنتزع حقك في الحياة». كان يحرق الكثير من مخطوطاته وكتبه كوسيلة للتحرر من قيوده النفسية وإخفاقاته المتكررة، بل طلب حرق رسائله حتى بعد مماته كتحرير لروحه. مرض فرانس حرر مشاعره نحو فيليس ليتحول الشغف إلى مشاعر باردة. كان مرضه سلاحه الذي يمده بالقوة، قوة اتخاذ القرار، فشخصيته المتمردة كانت دائما تشعره بالقوة أمام المضايقات، وحتى أمام المرض وتساعده ليحول اتجاهه. أما نهايته فكانت كقصة بوشكين التي رواها لغرتي، الصبية السويسرية، التي كانت آخر كلمات البطل «الحياة انتهت، يشق عليّ أن أتنفس» وكأنها نهاية من خلال الأدب ليتحرر من حياة عبثية بائسة تاركا بصمته الخالدة.

كاتبة مغربية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية