اغتيال القادة، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين يهدف إلى زعزعة المعنويات لدى الطرف المعادي، وهو يعطي انطباعاً بمدى قدرة الطرف المبادر على التحري وتنفيذ تهديداته، وعلى دقة معلوماته وسعة اختراقه لمنظومة العدو، وهذا يجعل الطرف المستهدَف مشككا في نفسه، وفي من هُم حوله وداخله، ويتساءل، كيف وصل العدو إلى هذه المعلومات الدقيقة، عن مكان وتحركات هذا القائد أو ذاك، والتي لا يعلم بها سوى حلقة ضيقة جداً من الشركاء.
بلا شك أن قدرات إسرائيل التجسسية هائلة، ولكنها تعرضت لنكسات، منها على سبيل المثال حرب 1973 التي فاجأتها، كذلك هجمة السابع من أكتوبر 2023، وقدرات حماس القتالية التي فاجأت الصديق والعدو.. وهدهد حزب الله وتصويره مواقع عديدة وحساسة في إسرائيل، هاجم بعضها بمسيرات انقضاضية، بعدما احتكرت إسرائيل لنفسها ومنذ قيامها، إمكانية اختراق أجواء البلدان العربية وأبعد منها، دون أن تستطيع أي واحدة من هذه البلدان من اختراق أجوائها، وخصوصا لتصوير تجسسي.
ما هو ممنوع ومحرّم على الأقل في القانون الدولي هو استهداف المدنيين أو القيادات السّياسية، وهو ما تستهتر به إسرائيل على الملأ حتى بعد قرارات دولية بهذا الشأن
تستغل المؤسسة الأمنية في إسرائيل الخلافات الداخلية والصراعات الأيديولوجية وعلى السلطة، حيث إن الصراع على السلطة، يسهل تجنيد العملاء لصالح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، للتخلص مما يعتبرونه عدوا مشتركاً، بل تتغير الأولويات لدى بعضهم بحيث يصبح ابن شعبهم هو عدوهم الأول.
تستغل أجهزة المخابرات في أي مكان في العالم، الخلافات الطائفية والمذهبية والقومية لتجنيد الجواسيس لصالحها، التي ترصد تحركات الأهداف البشرية والعتاد الحساس وغيره، كذلك تستغل ما يتعرض له الناس من ظلم، وأحياناً خلافات عشائرية، ومالية وحتى قصص على خلفية الشرف، وتتعاون مع العالم السفلي لتحقيق أهدافها. ما أكثر أعداء حزب الله في لبنان وفي المنطقة العربية، وما أكثر أعداد حماس والمقاومة عموماً، في لبنان وفلسطين وفي المنطقة والعالم كله، وهذا ينعكس من خلال تعاون أكثر من جهاز مخابرات واحد لملاحقة تحركات قادة وعناصر هذه التنظيمات ورصدها، ووضعها كأهداف في بنك الأهداف إلى أن تحين اللحظة المناسبة لاغتيالها، أو الإغارة على هدف حساس ما لتدميره. عملية اغتيال قائد عسكري خلال الحرب، لها ما يبررها، ولا يمكن القول بأنها عملية غدر وغيرها من أوصاف، الحرب هي الحرب، الأهداف العسكرية مشروعة للطرفين المتحاربين، أما ما هو ممنوع ومحرم على الأقل في القانون الدولي فهو استهداف المدنيين أو القيادات السياسية، وهو ما تستهتر به إسرائيل على الملأ حتى بعد قرارات دولية بهذا الشأن. قد تكون الحرب كلها منذ لحظة انطلاقها، نتيجة لممارسات غير شرعية، كأن تكون نتيجة احتلال، فالقانون الدولي يجيز للشعوب الدفاع عن وجودها وحريتها وأرضها في مواجهة الاحتلال.
طبعاً القانون الدولي في واد والواقع في واد، وهو لا يُطبق إلا على الضعفاء.
الشهيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ليس عسكريا، اتهمه خصوم حركة حماس من أبواق أنظمة عربية – صهيونية وفلسطينية طيلة الوقت بالإقامة في فنادق خمسة نجوم في تركيا وقطر وغيرها، ورُوجت كذبة بأن أسرته تعيش خارج قطاع غزة بعيدا عن معاناة الشعب، وهي الأخرى في فنادق خمسة نجوم على حساب الدعم الذي يقدم للشعب الفلسطيني، البعض استمر بهذا التحريض حتى بعد استشهاد عدد من أبناء أسرته، وتبين أنهم مثل سائر أبناء قطاع غزة، عاشوا ويعيشون المعاناة نفسها مع أبناء شعبهم، ورغم ذلك ظل هناك من ينعق بأن إسماعيل هنية يتخذ قراراته من غرف مكيفة مريحة في فنادق خمسة نجوم. يهدف اغتيال إسماعيل هنية إلى رفع معنويات قادة وجمهور الاحتلال، وإظهار القدرة الكبيرة على التجسس ومعرفة تحركات قادة العدو، والتأثير على الحالة المعنوية للجمهور من الجانبين، الإيجابي لدى الجانب الإسرائيلي، والسلبي على مؤيدي حركة حماس ومقاتليها وعلى الشعب الفلسطيني ومناصريه عموماً، هذه رسالة بأن إسرائيل ما زالت قادرة على قتل من تريد، وفي التوقيت الذي تحدده، مهما كان الهدف بعيداً أو حريصاً. يأتي اغتياله متزامناً مع اغتيال القائد العسكري في حزب الله فؤاد شُكُر، ورأسه مطلوبة لأمريكا منذ عام 1983، هذا يعني أن فؤاد شُكر الذي دفعت أمريكا خمسة ملايين دولار مقابل معلومات عنه منذ عام 1983، نجح في العمل سراً طيلة عقود، وعمل على تطوير قدرات حزب الله الصاروخية، دون أن تتمكن المخابرات المعادية الوصول إليه. الوصول إليه الآن، يشير إلى الشراكة في العمل الاستخباراتي الأمريكي- الإسرائيلي-العربي، ويعني وجود اختراق أمني في الحلقات الضيقة جداً داخل حزب الله، خصوصاً وأن سلسلة الاغتيالات لا تتوقف.
الاغتيال والقدرة على تحديد موقع قيادات من حماس وحزب الله وغيرها من فصائل مقاومة، تمنح دفعة لأصحاب الدعوة إلى التسليم «بأي ثمن»، بمعنى أن تعلن المقاومة استسلامها للشروط التي يضعها نتنياهو، بل يضيف عليها كلما وافقت حماس على أحدها، وذلك بذريعة أنه لا قدرة لشعبنا على مقاومة هذه القوة الخارقة في التجسس والتنفيذ والتسلح والدعم الأمريكي، وكذلك تمنح المبررات لمن وقفوا متفرجين على حرب الإبادة في قطاع غزة، من أنظمة عربية متواطئة، لإضعاف الحاضنة الشعبية للمقاومة، من خلال التواطؤ في الحصار الغذائي والمائي والصحي على قطاع غزة. الاغتيالات، بما فيها اغتيالات لقادة سياسيين تمنح نتنياهو دعماً شعبوياً لممارسة سياسته كما يشاء ـ وتُضعف الأصوات المعارضة التي تطالب بعقد صفقة تبادل، وتمنح الشارع شعوراً بالقدرة على المفاجأة بتحرير الأسرى من غير صفقة، فمن يعرف أين بات إسماعيل هنية ليلته، وأين أقام الحاج مُحسن في تلك الليلة، لا بد أنه يعرف مكان وجود الأسرى، ومكان السنوار وحسن نصر الله. إضافة إلى المردود المعنوي، فإن اغتيال شخصية سياسية داخل إيران، هو محاولة حثيثة لجر إيران إلى مواجهة واسعة وشاملة، وهذا أقصى طموح نتنياهو، فهو يرى في دخول حرب مفتوحة شاملة مع إيران فرصة تاريخية لتحقيق ما أعلن عنه مراراً، بضرورة تدمير قدرات إيران العسكرية التي يصفها بأنها قائدة محور الشر، خصوصاً برنامجها النووي، والتي زعم أنها باتت على مسافة أسابيع، ويؤكد مقولته أمام الكونغرس بأنه يحارب الهمجية (العربية والإسلامية) دفاعاً عن الحضارة. دخول إيران في حرب شاملة، يعني دخول أمريكا وحلفائها، ويعني تحقيق التحالف الصهيوني العربي، تحت المظلة الأمريكية البريطانية، في مواجهة كل من يرفع رأسه في المنطقة ضد إسرائيل واحتلالها ومصالحها ومصالح أمريكا والغرب. التخلص من الخطر الإيراني، يعني تدمير قوة أخرى كبيرة باتت تشكل تهديداً لطموحات إسرائيل في الهيمنة على المنطقة، وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، بعد التخلص من قوى أخرى كبيرة مثل العراق، وتحييد دول عربية أخرى وتحويل أنظمتها إلى حليفة وليس إلى محايدة فقط. في الوقت ذاته فإن إيران ستحاول أن تمتص الضربات دون انجرار إلى حربٍ شاملة، ورغم تهديداتها بالردود المزلزلة والقاسية جدا، فإنها ستبقى في إطار محاولة عدم الانزلاق إلى حرب واسعة وشاملة، وسوف ترد بلا شك، ولكن بحسابات دقيقة، دون مواجهة شاملة مع إسرائيل التي تعني مواجهة أمريكا والغرب وأكثر العرب.
كاتب فلسطيني
رحم الله الشهيد السعيد !
سيلتقي مع أبنائه وأحفاده الذين سبقوه !!
ولا حول ولا قوة الا بالله