تذكير بالحب

حجم الخط
0

تذكير بالحب

رشاد أبوشاورتذكير بالحبلنبدأ هذا العام 2006 بالحديث عن الحّب، لأننا بالحّب نستخرج من مكامن نفوسنا طاقات علي التحمل، والإقبال علي الحياة، رغم ما فيها من عنت ومآس.شغل الحب جانباً فسيحاً من حياة العرب الماضين، لا أقول الخالين، حتي لا يظّن بأنني أتهم أسلافنا بخلو القلوب، والأفئدة، والنفوس، من الحب، هم الذين بلغ الحّب ببعض شعرائهم حدّ الجنون، كقيس بن الملوّح مجنون ليلي العامرية.كأن فؤادي في مخالب طائرإذا ذكرت ليلي يشدّ بها قبضاكأنّ فجاج الأرض حلقة خاتم عليّ فما تزداد طولاً ولا عرضاومن جميل ما قال عن حبه لليلي:كأنّ فؤادي ليس يشفي غليله سوي أن يري الروحان يمتزجانهنا يتماهي المحّب والمحبوب، ويصلان إلي الحب الصوفي.ألا يعيدنا ماقيل علي لسان الحلاّج الصوفي إلي الجذور التي زرعها الشعراء العذريون؟أنا من أهوي، ومن أهوي أنانحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرته أبصرتني وإذا أبصرتني أبصرتنا عند العرب كلمة (حب) حرفان، وبحسب ما جاء في كتاب الدكتور عبد الكريم اليافي (مباهج اللغة العربيّة)، في الفصل المعنون بـ(الحب في التراث العربي والإسلامي)، فإن لفظ (حب) مؤلّف من حرفين: الحاء ومخرجه أقصي الحلق، والباء ومخرجه بين الشفتين. ولمّا كانت أسماء الأشياء كلّها تخرج من بين الحلق والشفتين، لفّ الحب جميع الكائنات عند الدلالة عليها باللفظ وأتي عليها. ومن المناسب دائماً في اللغة العربية أن ننتبه إلي مخارج الحروف، ودلالات ترتيبها، فإن ذلك من أسرار هذه اللغة العظيمة.لسنا في وارد تقريظ لغتنا العربيّة، لأنها أعظم من أن تحتاج لدعاية تبرر وجودها واستمرارها، ولكنني أتوقف عند إشارة الدكتور اليافي، وآمل أن تثير في المتلقّي رغبةً في الاستزادة عن الحرفين (حب).لقد غنّي العرب المعاصرون للحّب، للحرفين مش أكثر، كما فعل وديع الصافي الذي نيّف علي الثمانين ومازال يغنّي بصوته المطرب الرخيم:الحّب هالحرفين مش اكثرمخاطباً حبيبه الأسمر. والأسمر دائماً محبوب عند العرب. فمحبوباتهم سمراوات، دعجاوات العيون…وللحب، للحرفين غنّت (المعتزلة) شادية، بلطف حضورها، ودلعها الأنيق المنعش:حا وبي ويه وب كمان مكتوبين في القلب جوّه من زمان للحروف قوّة، واجتماعها، وتخلّق الكلمات منها كيمياء، ولعلّ الأجيال العربيّة المعاصرة لم تستمتع بالطاقات الثاوية في لقاء وعناق الحروف، والغناء بكلمات تنغمش القلب، وتجذب النفس إلي حدائق الحب.يقول شاعر عربي: وما ذاق طعم العيش من لم يكن له حبيب عليه يطمئن ويسكن الحب طمأنينة، وسكن ـ سكون النفس ـ وراحة بال بعد عناء، ولوعة…الحب يكون أحياناً شقاء:وما في الأرض أشقي من محّبوإن وجد الهوي حلو المذاقتراه باكياً في كل حين مخافة فرقة أولاشتياقحرفا الحب بحر، فالحب هالحرفين مش أكثر، لوّع قلوباً، أشقي رجالاً ونساء، وبني، وهدم، وجنّن…أحياناً أفكّر: لو أنّ قيساً تزوّج ليلي، ماذا كان سيحصل لهما، للشعر الذي قاله فيها، للحكاية العشق التي عبرت العصور، فأغوت قلوباً بالحب، وجعلتها كالفراش يحترق بالنور، ولا يبتعد عن لفح النار!من يتتبع كتابات العرب في الحب، سيدهشه أن أعمق، وأجمل ما كتب فيه كتبه رجال قضاء، ودين، وإفتاء.من الذين تركوا لنا كتابات مثيرة: محمد بن داوود (الظاهري)، وكتابه (الزهرة) يعتبر رائداً، فهو ـ كما يقول ـ استودع فيه مائة باب ضمّن كلّ باب مائة بيت من الشعر، تصف أفانين الحب، وتصاريفه…ومن الكتب الرائجة حتي يومنا والتي نراها مبذولة علي بسطات الكتب ـ حتي الرخيصة منها ـ كتاب (طوق الحمامة في الألفة، والحّب والإيلاف) للوزير، القاضي، الشاعر، الإمام أبي محمّد علي بن حزم الأندلسي…(مصارع العشّاق) للشيخ أبي محمّد أحمد بن الحسين السرّاج البغدادي.(روضة المحبين ونزهة المشتاقين) للشيخ شمس الدين أبي عبد الله بن أبي بكر بن قيّم الجوزيّة، والذي يبدأ كتابه بـ: الحمد لله الذي جعل المحبّة إلي الظفر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له علي صدق المحبّة دليلاً.يذكر إبن قيّم الجوزية في كتابه أن العرب قد وضعت للحب والمحبّة قرابة ستّين إسماً، ولقد عالج في كتابه نسبة هذه الأسماء بعضها إلي بعض.يورد الدكتور اليافي تفسيرات لمعاني الحب وتجلياته. فالغرام هو الحب اللازم، ومنه قولهم رجل مغرم من الغرم أو الدين.والهيام أشّد العطش، وهو أيضاً كالجنون من العشق، يقال: هام علي وجهه هيماً وهيماناً.والتدليه ذهاب العقل، يقال: دلهه أي حيّره ، والوله: ذهاب العقل والتحيّر من شدّة الوجد.والتعبّد غاية الحب والذل، يقال: عبّده الحّب أي ذلله، وطريق معبّد بالأقدام أي مذلل. وآخر الحب الجنون! اللهم نجّنا…والآن دعوني أعود بكم إلي زمننا، ففي حياتنا حّب من نوع جديد، لم يتحدّث عنه الشعراء من قبل.هذه واحدة من حكايا الحب. فالفتاة الفلسطينيّة أحلام التميمي، أسيرة في سجون الاحتلال، محكوم عليها بـ16 مؤبداً!! وهي منذ 14 أيلول 2001 تقضي هذه العقوبات التي لن تنقضي قبل حوالي خمسمائة سنة وأكثر!…أحلام التي حلمت بتحرير وطنها فلسطين، التي ضحّت بشبابها، فتاة جامعية، كانت تستطيع أن تعيش حياة هانئة، تتزوّج وتنجب وتبني أسرة مرتاحة، ولكنها أحبّت الحريّة والوطن…أحلام لم تيأس وهي في سجون الاحتلال، فقبل أيّام نشر خبر خطوبتها علي ابن عمها الأسير المحبوس في سجن (النقب).أحلام شاركت مع الشهيد عز الدين المصري في عملية وقعت في القدس، وهي ترسل دائماً لأهلها، وصديقاتها، بما يبعث في نفوس الجميع الأمل بحياة مفرحة للشعب الفلسطيني…بالحب تصمد أحلام التميمي، وخطيبها البطل، وبنات شعبنا اللواتي يلدن في سجون الاحتلال، ويربين أطفالهن وطفلاتهن علي حب الحريّة داخل الزنازين ووراء قضبان السجن، ورغم غلظة قلوب السجانين…الحب لا حدود لقوّته، لطاقته، بالحب ينجلي الظلام، وينكسر القيد، وتصبح الحياة أجمل، يصير لها هدف ومعني؟ أحبّوا يا عرب، وقبل رحلتكم مع الحب عودوا إلي كتب أسلافكم، وانفتاح عقولهم، وتزوّدوا لزمنكم الشقي… 0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية