تراثيات الصفر

صلاح عبد الستار الشهاوي
حجم الخط
1

الصفر اللاشيء (الفراغ)، من دونه لم تكن الحضارات لتتطور وتظهر فهو أول الأعداد وأكثرها شهرة وأشدها تبسيطاً، ولا يمكن الاستغناء عنه، فمن دونه لم تكن العشرة لتكتمل وتعود إلى منشئها صفر واحد، فمعه يبدأ كل شيء وبه ينتهي كل شيء، ولا يمكن أن تستمر الأعداد من دونه، حينما أبدع العرب ترقيم العدد أنجزوا الصفر على شكل دائرة صغيرة. حيث عني عندهم الخلو والفراغ، وعنهم أخذ العالم الصفر الدائرة واعتمدوا عليه علميا، كونه مفهوماً عالمياً (0). فعند العرب كُتب الصفر كدائرة في داخلها نقطة 0، وفي787م، أدخل الخبير الإيطالي ليوناردو دو بيز (1170- 1250) (LEONARDE DE PESE) الصّفر تحت اسم (ZEPHIRUM)، واستعملته إيطاليا حتى القرن الخامس عشر، ثمّ تبدّل الاسم إلى (ZEPHIRO)، وتحوّلت اللفظة إلى (Zero) وابتداءً من عام 1491. وفي فرنسا تحوّلت اللفظة من (CIFRE) إلى (CHIFRE) ثمّ إلى ((CHIFFRE ، وفي ألمانيا تبدّلت من (ZIFFER) أو (ZIFFRA)، واليوم تستعمل (Die null)، وفي إنكلترا استعملت لفظة (Cipher)، وحلّت محلّها لاحقاً لفظة Zero))، وفي البرتغال تعني لفظة (CIFRA) الصّفر بمعنى (Zero)، وفي إسبانيا تحمل (CIFRA) معنى (CHIFFRE)، كما تعني لفظة (Cero) الصّفر أي ((Zero .
وإذا كان الغرب لم يعرف الصفر قبل القرن الثاني عشر الميلادي، فإن الشاعر العربي عرفه قبل ذلك بقرون طويلة، حيث استخدم الصفر في الشعر الجاهلي للتعبير عن معنى ـ خلا – وذلك ما سجله حاتم الطائي في قصيدته التي مطلعها:
أساوي قد طال التجنب والهجر وقد عذرتني في طلابكم العذر.
وبيته الشاهد هو:
ترى إن ما أهلكت لم يك ضرني وأن يدي مما بخلت به صِفْرُ.
ويقول الشاعر دعبل الخزاعي عندما مرّ ببيوت آل هاشم في المدينة ووجدها خاوية:
ألم ترني مذ ثلاثين حجة أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صَفِراتِ.
وكان العرب يرسمون الصفر حلقة، يؤكد هذا بيتان قالهما الأسود بن بلال المحاربي لما أغزاه الوليد بن يزيد البحر. وفيهما يشير إلى استخدام الحلقة للدلالة على عدم وجوده:
لتعترض اسمي لدى العرض حلقة وذلك إن كان الإياب يسير
وقد كان في حول الشربة مقعد لذيذ وعيش بالحديث غزير
وهذا المعنى يوافق تماما شكل الصفر ـ الحلقة ـ (0) في الأرقام العربية التي يستعملها الغرب والمغرب العربي حاليا. كما كان للعرب فضل تطوير المفهوم الرياضي للصفر وتطور مفهومه، ومنحه فكرة خلو الخانة من العدد، وقد عرفوا الصفر علمياً منذ القرن الثاني للهجرة، وأثبتوه رمزاً للخانات الخالية، وكان يرسم على صورة دائرة في الخانة (0)، وظل شكله مستعملاً حتى تحول إلى نقطة في المؤلفات العربية المتأخرة.
ويعد العالم العربي الإسلامي محمد بن موسى الخوارزمي (780/850م) هو من استخدم «الصفر» في الحساب، وكان يعمل في «بيت الحكمة» في بغداد، في عهد الخليفة العباسي «المأمون» إبّان العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، كما ألف كتاب «الجبر والمقابلة» الذي ترجم إلى اللاتينية، ومنذ ذلك الحين عُدَّ الخوارزمي مؤسس علم الجبر.
وختاماً:
تغنى الكثير من الشعراء، بالصفر كناية عن الوله والعشق والعود صفر اليدين، أو عن حال بعضهم وخواء جيوبهم، يقول المتنبي:
وابن ابنه الباقي علي بن أحمد يجود بهِ لو لم أجز ويدي صفْر
وإن سحابا جوده مثل جوده سحاب على كل السحاب له فخر.
ويقول الشاعر سعيد يعقوب:
ماذا يقول الشعر والشُّعراء نطق الجمال فأُفحم الفُصحاءُ
وكأَننِي ما قلت شعرا قبلها كلَّا ولا ازدحمت بِهِ الأَرْجاءُ
صِفْرُ اليدينِ من الحُرُوفِ على فَمي قُفْل فلا أَلِفٌ لَديَّ وباءُ
وهذا الجزء من قصيدة «عن اللاشيء» للشاعر محمود درويش:
هو اللا شيءُ يأخذنا إلى لا شيءْ
حدَّقنا إلى اللاشيءِ بحثاً عن معانيهِ
فجرَّدَنا من اللاشيءِ شيءٌ يشبهُ اللاشيء
فاشتقنا إلى عبثية اللاشيء
فهو أخفُّ من شيءٍ يُشَيِّئُنا.
أما الشاعر سميح القاسم فوصف الصفر بقوله:
دعِ الرقم حراً طليقاً يفيض وينمو على خانةِ الصِّفْرِ
لا تمتحن دورة الأرض من بادئ البدءِ
من خانة الصفرِ
للكون أرقامه، والمدار
يفضل حسن الجوار.

٭ كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عابر سبيل:

    هل الخوارزمي عالم عربي؟ هل خوارزم مدينة عربية؟

اشترك في قائمتنا البريدية