ترامب بين غزة وهاري: الإنسانية وتناقضاتها الأمريكية

حجم الخط
3

في حين يفضل البعض تفسير تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول الاستيلاء، أو السيطرة على، وشراء وملكية قطاع غزة، وفقا للخطاب المستخدم، والاحتلال بصورة ما، ووفقا للمعنى المقصود، بوصفه جزءا من سلوكيات تاجر العقارات، الساعي إلى عقد صفقات جديدة، يحاول ترامب تقديم رؤيته المثيرة للجدل بوصفها حلا «إنسانيا» أيضا. إنسانية ترتبط بالحديث عن حماية الشعب الفلسطيني، عبر تهجيره «قسرا» من أراضيه، والتأكد من وجوده في أماكن جميلة يتوفر فيها اشتراط واضح وهو، أنها أماكن خارج القطاع ولا يمكن العودة منها.
ومقابل سياسات ترامب الأمريكية الداخلية القائمة على رفع شعار أمريكا للأمريكيين، والتعامل مع طرد اللاجئين على أنه وسيلة لتحقيق هدف مركزي هو جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى، ما يفترض معه إدراك أهمية «الوطن» نظريا، وأنه أكبر من مشروع تجاري و»موقع هدم» يمكن مغادرته، يتم تهميش الوطن كلية في الحالة الفلسطينية.
وفي حين تبدو التناقضات واضحة على صعيد محاولة تهجير الأجانب من أمريكا، مقابل الدفاع عن تهجير أصحاب الأرض في غزة لصالح المحتل والأجنبي «قسريا»، فإنها تتعمق مع الاستثناءات التي يقدمها في أمريكا أحيانا وأسبابها، خاصة محاولة طرح تلك الاستثناءات بوصفها «إنسانية»، تقوم على مراعاة المعاناة في صورتها الفردية، التي تصل إلى حد مراعاة أوضاع تمس شخصا واحدا، مقابل تجاهل معاناة ملايين الفلسطينيين في غزة، القريبة من مواطنيها دوما بوصفها الوطن، صاحب الذكريات ومنبع الحكايات ومستحق الدم والتضحيات. ومن ضمن تلك التناقضات التي يجيدها ترامب ظهر تناقض واضح ومثير للجدل بإعلانه التجاوز عن مناقشة أو تغيير الوضع القانوني للأمير البريطاني هاري، مستندا إلى حجم «المعاناة» التي يواجهها، في ما يخص زوجته الممثلة الأمريكية السابقة ميغان ماركل، التي وصفها بأنها «فظيعة». تؤدي «فظاعة» ماركل من وجهة نظر ترامب إلى توظيف التعاطف الإنساني في التعامل مع «هاري المسكين» في استثناء لا يتمتع به أهالي غزة على أراضيهم، التي تعامل معها ترامب وكأنها زوجة فظيعة أخرى، لا تتجاوز أرضا مدمرة وموقع هدم. تظهر هنا مفارقة مهمة، فالزوجة الفظيعة في حالة هاري، تختلف في تفسيرها وما ترتب من تحركات أمريكية عنها في حالة غزة، وفي حين ترتب الأولى التعاطف والسماح ببقاء هاري في أمريكا، رغم أنها ليست وطنه، ترتب الثانية الفصل بين الأرض وأصحابها. وضعية تسمح لترامب بتحويل تلك الأرض، التي صادف أنها فظيعة ومدمرة، ولكن لها «موقع لا يمكن التخلي عنه» إلى منطقة سياحية يتحدث عنها بوصفها «الريفييرا» كما تحدث عنها صهره جاريد كوشنر في بداية الحرب بوصفها «سنغافورة».

يستمر ترامب في اختبار العالم، خاصة العالم العربي، في قدرته على تجاوز كل الحقوق والقواعد والقوانين الدولية، ويعيد تقديم فلسطين بوصفها «أرضا بلا شعب»، والشعب بوصفه مهاجرا بلا وطن

يختلف شكل المشاريع التفصيلية، والاسماء النهائية المقترحة، والتطورات المتصورة للمستقبل الفلسطيني أمريكيا، لكنها تتفق في تعاطف إنساني خاص يرى ان الأمان والحياة في أماكن جميلة لا تحدث دون فك الارتباط بين الأرض وأصحابها، مع احتمال عودة بعضهم، وتقسيم غزة وتوزيع بعض الأجزاء لدولة يراها صغيرة على الخريطة، ممثلة في إسرائيل دون ان يسميها بالضرورة.
تنقلنا تلك المقاربة، القائمة بدورها على تشبيه بين واقع ومجاز، لم يشر إليه ترامب فعليا، وإن أمكن إسقاطه من أجل إبراز التناقضات، إلى كيفية تبديل وتغيير المسميات واللغة المستخدمة ودرجات التعاطف و»الإنسانية» ذاتها، من أجل تمرير المصالح. كما تشير إلى كيفية وضع الخطط من أجل تجريد الإنسان من أرضه باسم الإنسانية، ومن كل تفاصيل «كلمة وطن» التي تحدث عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش بوصفها «البيت وشجرة التوت، وقن الدجاج، وقفير النحل، ورائحة الخبز والسماء الأولى» بعد حرب إبادة جماعية من أجل مشاريع استعمارية، قد يكون لها بعد اقتصادي الطابع يهدف إلى تحقيق مصالح اقتصادية، لمن لا يملك الأرض، ولا حق التصرف فيها عبر صورة الريفييرا وسنغافورة والاستثمارات والمشاريع المالية، ولكن عمقها يظل استعماري الطابع، يقوم على السيطرة على الأرض وضم أجزاء منها إلى إسرائيل، أو احتلاله بصورة غير تقليدية تجعل خطاب التنمية والاستثمار ستارا يحاول إخفاء حقيقة الاحتلال، بالإضافة إلى تصفية القضية الفلسطينية لصالح دولة الاحتلال وعلى حساب دول الجوار. في حين يرى ترامب ان زوجة «فظيعة» تنفي الحاجة إلى فرض معاناة إنسانية إضافية على فرد، يتحدث عن أكثر من مليوني مواطن في غزة، وكأنه صاحب القرار والأرض، وكأن أصحاب الأرض مجرد قطع شطرنج يمكن تحريكها على رقعة العالم، دون قواعد أو حساب أو «كلمة وطن» وهوية وتاريخ وسيادة. تصورات تخدم الرؤية اليمينية الإسرائيلية المتطرفة، التي طالبت منذ بداية الحرب بتهجير سكان القطاع، دون معارضة بقاء أقلية فلسطينية تسمح بتمرير التهجير وإعادة احتلال واستيطان القطاع بشكل تقليدي على الطريقة الإسرائيلية، قبل أن يأتي طرح «الاستيطان» عالمي الطابع على الطريقة الأمريكية، بوصفه استثمارا عالميا إحلاليا يخرج أصحاب الأرض من معادلة القرار. أقلية تتقاطع أيضا مع محاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تقديم أفكار ترامب بوصفها مجرد هجرة عادية وليست تهجيرا قسريا، استنادا إلى إمكانية وجود تلك المشاريع، ووجود مشاريع يمكن البقاء للعمل فيها لمن يقبل أمنيا وسياسيا، مع توفير خروج «طوعي» مدفوع نظريا بالبحث عن حياة أفضل، وفعليا بجهود تدمير القطاع وتجويع السكان واستخدام العنف.
تتجاوز التفسيرات التي قدمها نتنياهو اختلاف الهجرة العادية عن الطرح القائم على تجريد سكان القطاع من الخيارات، وطرح طريق الخروج على طريقة محرفة من المبدأ الرأسمالي الشهير «دعه يعمل دعه يمر»، وتحويله إلى نموذج تهجير قسري على طريقة «دعه يخرج دعه لا يعود». كما يتجاوز نتنياهو في الوقت ذاته الاستيلاء على حق هذا «المهاجر» شكليا، المبعد قسريا فعليا، في العودة، سواء تم ذلك باشتراط التوقيع المسبق على إسقاط الحق في العودة، أو عبر الاشتراطات والقواعد المفروضة مسبقا. يؤسس ترامب حديثه على مغالطات قانونية وسياسية وإنسانية وأخلاقية، مهما تكررت وتغيرت مسمياتها لا تغير أصل القانون الدولي والقواعد التي يتجاوزها والتي قد تبدأ من إسقاط معنى الوطن وتحويله إلى حقيبة سفر، وإسقاط حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، إلى التجاوز عن التهجير القسري، المجرم قانونيا بكل صوره وأدواته والآليات المستخدمة لتنفيذه بما فيها سياسة التجويع والترهيب والتدمير والقتل. كما لا تتوقف عند تجريم الاحتلال والاستيلاء على الأرض، وتمتد إلى تجريم انتهاك حقوق الدول المجاورة في حماية سيادتها وهويتها، وحق صاحب الأرض والأطراف المعنية في التمسك بالحق الفلسطيني، ورفض تصفية القضية وثوابتها المركزية بما فيها الحق في الدولة الفلسطينية المستقلة.
يستمر ترامب في اختبار العالم، خاصة العالم العربي، في قدرته على تجاوز كل الحقوق والقواعد والقوانين الدولية، ويعيد تقديم فلسطين بوصفها «أرضا بلا شعب»، والشعب بوصفه مهاجرا بلا وطن، ما يفسر وصف ما يقوم به إسرائيليا بأنه وعد بلفور جديد، وفرصة من أجل تحقيق المصالح الإسرائيلية في الإقليم. ولكن إن كان التاريخ يعيد نفسه مرتين في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة، كما قال كارل ماركس، فإن الشعب الفلسطيني كما شعوب ودول المنطقة شهد أشكالا مختلفة من المأساة والمهزلة بشكل لا يتصور القبول بمناقشتها، ناهيك من القبول بها وتمريرها والمشاركة فيها.
كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فريد:

    جيد أن السيدة الكاتبة ربطت بين حالة الأمير هاري و وضع أهل غزة واختلاف تعامل ترامب في حالتيهما، حيث يبرز هنا مثال واضح على التناقض في السياسة التي يتبعها. فربما على ترامب حقا أن يسأل الأمير هاري وزوجته عن التجربة القاسية لمغادرة الوطن قسرًا، خاصة إذا كان هذا “المنفى” قد أتى مفاجئًا وغير متوقع وحدث دون استعداد أو رغبة في التغيير, فما بالك إن كان خارجا عن الارادة.

  2. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    .
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
    ترامب بين غزة وهاري: الإنسانية وتناقضاتها الأمريكية
    قبل أن أبدأ تعليقي، أود أن أقول: الحمد لله على السلامة للكاتبة المحترمة، عبير صبري، على مقالها الجميل الذي فكك شخصية وتناقضات هذا البلطجي، الذي تفوق على جميع بلطجية العالم. فقد حكم لفترة قصيرة جدًا، حيث تم تنصيبه رسميًا في 20 يناير 2025، أي منذ 30 يومًا فقط، وخلال هذه المدة ألحق بأمريكا ضررًا لم يتمكن ألد أعدائها من فعله.
    أنا شخصيًا سعيد بوجود ترامب تمامًا كما كنت سعيدًا بوجود نتنياهو خلال فترة حكم الاحتلال. وقد طلبت في القدس العربي أكثر من مرة من مسلمي العالم العربي والإسلامي الدعاء لنتنياهو في صلاة الجمعة بطول العمر. سيقول البعض: هل يُعقل أن يطلب عربي مصري الدعاء لقاتل؟ وأقول: كلهم قتلة، من بن غوريون حتى آخر طفل صهيوني، جميعهم من “بلاعة صرف صحي” واحدة. لكن ما يميز نتنياهو هو أنه أغبى من أن يتكرر مثله، والحمد لله أن هذا الغبي سيساهم في تفكيك الشعب الإسرائيلي. فنحن نشهد الآن هجرة عكسية لما يقارب 300 ألف شخص أو أكثر من دولة الاحتلال. ( 1 )

  3. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    أما السيد ترامب، فعندما قال “أمريكا أولًا” لم يكن يكذب، لكنه كان يقصد أن تكون أمريكا أولًا في الخراب. فجميع ألاعيب هؤلاء موجهة ضدنا نحن العرب. ومن هنا، يجب علينا الوقوف أمام هذا الاستهزاء وقفة مبادئ، والدفاع عن شرف هذه الأمة. وعندما نفعل ذلك، سينبهر العدو قبل الصديق.
    نحن أمة تمتلك من الإمكانيات ما لا يوجد في أي مكان آخر في العالم: من علماء، ومثقفين، وشباب، وثروات، وجغرافيا، وتاريخ. فماذا نريد أكثر من هذا؟
    “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.” ( 2 )

اشترك في قائمتنا البريدية