إن الحكومات العراقية المتعاقبة منذ الاحتلال الأمريكي ومجالس نوابها وقضائها وإعلامها باتوا يعيشون في زوايا محدودة من العراق لا تتجاوز المنطقة الخضراء في بغداد وبعض الدوائر الرسمية خارج العاصمة. هذه السلطات كان ينبغي أن توفر الأمن والأمان وتقوم بمسؤولية رعاية شعبها خصوصا الفقراء وعوائل الشهداء. والقيام بواجب بناء وصيانة البنى التحتية من مجار وماء وكهرباء ومدارس ومستشفيات وشق الطرق والشوارع، إضافة إلى توفير العمل للمواطنين واحياء وتطوير القطاع الزراعي جنبا إلى جنب الصناعة الزراعية.
فشل العملية السياسية
منذ أكثر من خمسة عشر عاما بالإضافة إلى فشل العملية السياسية ودستورها السيئ الصيت فقد تخلت الدولة عن مسؤولياتها الإعمارية والتنموية لبناء العراق اقتصاديا وعجزت عن توفير الأمن الاجتماعي والأمان والسلم الأهلي للمواطنين. أضحت السلطات الرسمية الحالية لا تهتم إلا بجني الضرائب المفروضة على وسائل النقل وتحصيل الأتاوات من صغار التجار واقتطاعات متعددة من رواتب الموظفين لإدامة واستمرارية الحروب ضد ما يسمى بالإرهاب.
في حين أضحى رؤساء الكتل ووكلاؤهم فوق القانون لا سيما قوانين الضرائب. بات العراق ساحة مفتوحة لجشعهم وطمعهم الذي لا يحده حدود. فقد مارسوا الفساد وسرقوا قوت الشعب فأصبحت رواتبهم الفلكية لا تكفي سد أطماعهم فأضحوا يبنون المولات الكبار والتجمعات التجارية الضخمة ويشيدون محطات بيع البنزين الخاصة. دون أن يدفعوا الاستحقاقات الضريبية للدولة فهم يعتبرون أنفسهم مجاهدي ومحرري العراق من الدكتاتورية. لقد أصبحوا اغنياء واثرياء بين ليلة وضحاها حيث استغلوا الخصخصة لجني أرباح لشركاتهم الخدمية غير الانتاجية التي دخلت إلى دوائر الدولة وكانت تلك الخدمات تقدم للشعب مجانا.
صيانة البنى التحتية
في المقابل رفعت الدولة يدها وتخلت عن مسؤولياتها من صيانة البنى التحتية في سائر البلاد كالمجاري وما سببته وتسببه من كوارث بيئية وطبيعية. في حين صرفت المليارات لتحسين هذه المشاريع الحيوية على شركات وهمية لتذهب الأموال في نهاية المطاف الي جيوب الفاسدين من الحكومة وذيولها. يدفع الشعب العراقي اليوم نتيجة تلك السرقات المزيد من تردي الخدمات والفيضانات المتكررة فما إن تهطل الأمطار حتى تتحول ساحات وشوارع المدن والقرى إلى بحيرات آسنة. فالأطيان تغطي أراضي تلك الأماكن وتمنع تماما حركة وسائل النقل والمواطنين على السواء.
لم تتمكن الحكومة من تبليط الشوارع او صيانتها في العاصمة والمدن المهمة الأخرى. فقد حدثني قبل مدة من الزمن أحد الأصدقاء من القاطنين في بغداد بقوله انظر إلى هذا الشارع قلت له أي شارع قال لي نعم انه غير موجود على ارض الواقع لكن ينبغي ان تتصور وتتخيل ذلك. قلت له نعم اذن وماذا تريد أن تقول في نهاية الامر. أجابني أن هذا الشارع الذي تتخيله بلط وافتتح أربع أو خمس مرات على الورق. إنها أحد الوسائل لسرقة الأموال الطائلة اذ ان هنالك الكثير من المشاريع على هذه الشاكلة والتي تسمى في العراق بالمشاريع الفضائية. هناك أيضا القوائم الطويلة والكثيرة من الجنود والضباط الفضائيين الذين يستلم المفسدون رواتبهم من الجيش أو الحشد.
إن هناك أيضا إهمالا وعدم صيانة لأبنية ومؤسسات الدولة التي شيدتها العهود السابقة. فلا تزال تلك البنايات تخدم مؤسسات ووزارات هذه السلطة. لم تستطع السلطات الجديدة لحد الآن من النجاح في تدشين مشروع حيوي يخدم العراقيين. فكل العراقيين يعلمون ما آل إليه مشروع ميناء الفاو الكبير الذي كان من المفترض أن يكون منافسا لمشروع الميناء الكويتي المسمى مبارك الكبير. كما أن مشاريع بناء الوحدات السكنية لذوي الدخل المحدود لم تر النور بعد. بل حصل تخريب لبعض المشاريع الحيوية الناجحة كالخطوط الجوية العراقية لصالح شركة طيران فلاي بغداد المملوكة لأحد الحيتان الكبار في العراق. تحولت ايضا ارصفة ميناء البصرة إلى شركات مافيوية تخضع للميليشيات والأحزاب المتنفذة لربح المال الحرام والتي تصدر النفط لبيعه في السوق السوداء لصالح أحزابها الحاكمة.
الأمن الغذائي
من المؤكد أن أي بلد متحضر في هذا العالم يتوجب عليه تأمين الغذاء أولا وقبل كل شيء. فالدول الصناعية الكبرى كأمريكا وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا تعتمد في قوة اقتصادها وصيانة استقلالها على تأمين مصادر رزقها من خلال تطوير القطاع الزراعي. إن هذه الدول تنفق النفقات الضخمة للخدمات الزراعة وترعى وتدعم الفلاحين في عملهم. كما أنها تمنح الأولوية لتصريف واستهلاك وبيع منتجاتها المحلية رغم العولمة والتجارة الحرة.
أما في العراق الذي كان بلدا زراعيا عريقا والذي كان يصدر الشعير لبريطانيا في فترة ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. تحول الان إلى بلد مستهلك من الدرجة الأولى في المنطقة. أصبحت السوق العراقية المستهلك الأساسي للبضائع الزراعية الإيرانية والتركية والأردنية والمصرية. لقد تدهورت الزراعة كثيرا نتيجة اهمال السلطات المتعمد لتجريف الجداول والأنهار الصغيرة والكبيرة التي تنقل المياه لتسهيل سقي المزارع ودعم الفلاحة والاعتماد على الزراعة.
لم يستطع العراق ايضا تصفية المياه العادمة لاستصلاح الأراضي الزراعية ومراعي الحيوانات. فضلا عن فشله في توفير المياه الصالحة لشرب المواطنين. رغم أن تكنولوجية اعادة تدوير المياه وتصفيتها للشرب باتت سهلة وسالكة ورخيصة كما هو الحال في الكويت والسعودية والإمارات. دون أن نذكر مرة أخرى المشكلة المزمنة لتوفير الطاقة الكهربائية هذه المشكلة الحبيسة بين الابتزاز الإيراني والضغوطات الأمريكية.
لكن التحديات الكبرى الأكثر خطورة وتعقيدا تتعلق بقطاعي التعليم والصحة. فقد تعمد القادة الجدد التخلي عن رعاية الدولة لقطاع الصحة العام وعملوا كل ما في وسعهم لتغيير المنهاج الدراسي ومعايير القبول بالجامعات. فباتت حياة الناس الفقراء في خطر ومستقبل اجياله ضائع مجهول. لقد فتحت الأبواب على مصراعيها لفساد الأحزاب وميليشياتها والحيتان الجدد من أقارب وعوائل السياسيين للتلاعب في هذين القطاعين الحيويين.
ففيما يتعلق بالقطاع التعليمي المدارس العامة الابتدائية والمتوسطة والثانوية كما ترهل أيضا مستوى الجامعات الحكومية كبغداد والمستنصرية والبصرة والموصل. اذ استبدلت بمدارس وجامعات أهلية غير كفؤة او متخصصة تفتقر إلى الحد الأدنى من العلمية والمهنية. فبات مستقبل الطالب لا يخضع لمستواه العلمي وكفاءته وجديته انما يخضع لمستواه المعاشي وعلاقاته بالسلطة السياسية ومراكز القرار.
انتشر الغش وساد قانون القوة المادية والسياسية في الامتحانات فالنجاح والدراجات العليا لأهل الحظوة والمتنفذين. تخرج طيلة هذه السنين جيوش من الفاشلين الجهلة إثر قرارات وزارة التربية بمنع رسوب الطلاب. مما أفقد عامل المنافسة وبذل الجهود للتحصيل العلمي وحط من مستوى التعليم الذي وصل إلى أدنى مستوى على النطاق الإقليمي والعربي والدولي.
أما القطاع الصحي فقد تدهور بصورة مذهلة. لقد تدنى القطاع العام من المستشفيات والصيدليات والأطباء والممرضين والمراكز الصحية والكليات إلى مستويات رديئة لا تتوفر فيها أدني الخدمات ولا تمتلك ابسط الوسائل الصحية لعلاج المواطن. أما القطاع الخاص فقد تمكن من خلق مافيا خاصة به عمودها الثلاثي الطبيب الصيدلية المختبر. فباتت معاينة الطبيب تصل إلى اربعين دولارا كما ان شراء الدواء وفحوصات المختبر قد يزيد تكاليف المريض إلى ضعف هذا السعر. إذا ما علمنا أن هناك اتفاقا مسبقا لتقاسم نسب الأرباح بين هذا الثلاثي. لقد أهملت المستشفيات العامة لصالح المستشفيات الخاصة والتي يفتقد كادرها الطبي إلى ابسط الأخلاق الإنسانية. فالدكتور الجراح يتعامل ويفرض على المريض واهله مبالغ طائلة للشروع في اجراء أي عملية. بل انه قد لا يقوم باي علاج دون استلام المبلغ الباهظ التكاليف مسبقا.
هذه الإطلالة ما هي إلا غيض من فيض في بلد ينزف من كل جوانبه وتعتريه الأمراض العضال حتى أضحى المخلصون يجهلون أولويات الإصلاح فهل يجب أن يبدأوا بإصلاح قطاع الخدمات أم العملية السياسية برمتها. هذا التساؤل يعيدنا إلى مشكلة هل الدجاجة من البيضة ام البيضة من الدجاجة. بالإجمال فتساءل الناس هو هل سيسمح السياسيون بمثل هذا الإصلاح الذي يهدد وجودهم من جهة وهل تسمح أمريكا وإيران تغيير العملية السياسية. أم أن هناك طريقا ثالثا يختاره العراقيون يبدأ من الإصلاح الثقافي الذاتي فيغيرون ما بأنفسهم إيذانا بالتغيير المنشود.
كاتب من العراق
نشيد أنشاد الفاسدين في العراق :
إفتحوا عيونكم و إسرقوا كل شيء
و أصّموا آذانكم ، كي لا تخدش سمعكم آهات الموجعين
و لا تبالوا بما يُدعى العراق.
بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] ولا حول ولا قوة الا بالله