تركيا المترددة بين حسابات المكسب والخسارة

لا جدال في أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كان أكثر زعماء المنطقة تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، منذ بدء حرب الإبادة على غزة في أكتوبر من العام الماضي، وفي هذا السياق كان الموقف الرسمي التركي هو الأكثر فاعلية، من بين الدول الشرق أوسطية، تجاه الكيان الصهيوني، سواء ما يتعلق بتجميد العلاقات التجارية، أو التأكيد على تأييد المقاومة الفلسطينية كحركات تحرر وطني، وليست منظمات إرهابية، أو حتى مجرد التحذير من المخطط الصهيوني الشرير تجاه المنطقة، بعد غزة ولبنان، أو السماح بإطلاق مظاهرات صاخبة واحتجاجات قوية، تناهض الممارسات الصهيونية، وهو ما لم يتوفر للشعوب العربية.
الرئيس أردوغان حذر مراراً، من أن المخطط الإسرائيلي لن يتوقف على غزة، أو لبنان، في إشارة إلى الخريطة التي يحملها جنود الاحتلال على أكتافهم، متضمنة أجزاء كبيرة من الوطن العربي، من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق والسعودية، ليس ذلك فقط، بل من تركيا، تحقيقاً للنبوءة التوراتية المزيفة (من النيل إلى الفرات)، ذلك النهر الذي ينبع من الأراضي التركية، وهو أمر لم يعد سراً، في ضوء التصريحات الصادرة بين الحين والآخر، من أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية، الأكثر تطرفاً وإرهاباً على الإطلاق.

الخطر الصهيوني على الأبواب يحدق بالجميع دون استثناء، يسعى إلى الانفراد بكل جبهة على حدة، وهو ما يجب أن يعيه المترددون والمغيبون في آن واحد

وإذا علمنا أن معظم التوقعات تشير إلى أن سوريا تمثل هدفاً إسرائيلياً للاجتياح، في حالة تحقيق النصر الكامل في كل من غزة ولبنان، لأدركنا أن الأراضي التركية ستصبح في مرمى البصر الإسرائيلي، وستعتمد في هذه الحالة، على ما يصل إلى نحو 80 الف مقاتل من حزب العمال الكردستاني، في منطقة روجافا بالأراضي السورية، يعيشون تحت الحماية الأمريكية وبأسلحتها، ينتظرون الإشارة بالهجوم، وإثارة الفوضى، أملاً في الحصول على كيان كردي مستقل في نهاية الأمر، وهو ما يشير إليه أردوغان دوماً دون تفاصيل، إلا أن الأمر أصبح مفصلاً، في جلسة سرية عقدها البرلمان التركي، في 15 من الشهر الماضي، شرح خلالها وزيرا الخارجية هاكان فيدان، والدفاع يشار غولن، المخاطر على الأمن القومي التركي، والمخطط الإسرائيلي من كل جوانبه.
جاءت هذه الجلسة، بعد أن أفصح أردوغان عن خطة إسرائيلية لمهاجمة تركيا، مشيراً إلى أن لديه تقارير استخباراتية، من إدارة جهاز الاستخبارات تؤكد تفاصيل المخطط الإسرائيلي، وبموازاة ذلك دفعت تركيا بتعزيزات ضخمة إلى مواقع قواتها، في مختلف المحاور شمال غربي سوريا، في الوقت الذي حذر فيه وزير الدفاع من قيام إسرائيل بجر المنطقة الجنوبية لتركيا إلى اضطرابات كبيرة، مؤكداً أن الأوضاع الحالية تفرض على بلاده الاستعداد لجميع السيناريوهات المحتملة وانتهاج إجراءات استباقية.
وفي محاولة من أردوغان لاحتواء الأوضاع، وسحب ورقة الأكراد من الولايات المتحدة وإسرائيل، لمنع إعلان دولة كردية مستقلة في روجافا، من خلال تقسيم سوريا، جاءت مبادرة دولت بهشتلي رئيس حزب الحركة القومية، وحليف أردوغان في الحكم، متضمنة إطلاق سراح الزعيم التركي عبدالله أوجلان، القابع بالسجن منذ عام 1999 حيث يقضي محكومية بالمؤبد، إذا وافق على حل التنظيم ووقف الإرهاب، ويمكنه حينئذ التحدث في البرلمان، من خلال كتلة حزب الشعوب الديمقراطي، وهي المبادرة التي جاءت بمثابة قنبلة ألقاها بهشتلي في الساحة السياسية التركية دون تمهيد، حيث كان يرفض مجرد مناقشة مثل هذا الطرح في الماضي. على الجانب الآخر، تشهد الموانئ البحرية التركية في اسطنبول بشكل دوري، مظاهرات احتجاج على قيام شاحنات بتفريغ بضائع ومواد غذائية لسفن متجهة لإسرائيل، رغم القرار الرسمي التركي، بوقف التبادل التجاري مع الكيان، على خلفية الحرب في غزة، في الوقت الذي صدرت فيه تصريحات إسرائيلية تؤكد، أن النفط الأذربيجاني المُصَدر إلى إسرائيل عبر ميناء جيهان التركي، هو شريان الحياة الوحيد للكيان، بعد توقف النقل عبر البحر الأحمر، نتيجة هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية وغير الإسرائيلية المتجهة إلى هناك، وهو ما تنفيه تركيا.
وتطرح هذه الاحتجاجات، وتلك التصريحات، الكثير من التساؤلات، حول مدى جدية الموقف الرسمي التركي المعلن تجاه تل أبيب، على خلفية التهديدات الإسرائيلية للمنطقة ككل، ولتركيا بشكل خاص، وعما إذا كان هذا الموقف متردداً غير جاد، أم أن حسابات المكسب والخسارة تفرض نفسها على القرار التركي الشائك، في ضوء اعتبارات عضوية الناتو من جهة، والعلاقات مع الولايات المتحدة والغرب من جهة أخرى، وأيضاً في ضوء تهديدات يسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي لأردوغان شخصياً، بمصير الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وإذا وضعنا في الاعتبار العملية الإرهابية الأخيرة، التي نفذها مقاتلو حزب العمال، ضد شركة الصناعات الجوية والفضائية بالعاصمة أنقرة، لأدركنا أن القرار التركي بالمواجهة مع إسرائيل، أو حتى استعدائها، محفوف بالمخاطر، لأن الهجوم جاء بعد يوم واحد من طرح مبادرة بهجت بهشتلي بشأن عبدالله أوجلان والمصالحة، في إشارة إلى رفض المبادرة من جهة، وفي تذكير إسرائيلي- أمريكي لأردوغان، بأن القرار ليس كردياً خالصاً، أو على الأقل لم يعد قرار أوجلان، وهو ما تعيه أنقرة تماماً، بل إن هناك جبهات كردية أخرى في أوروبا، تخضع لسيطرة ألمانية، وفي جبال قنديل بالعراق تخضع لضغوط خارجية أيضاً.
غير أن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: هل سينتظر أردوغان، حتى تصل القوات الإسرائيلية إلى الحدود التركية الجنوبية من خلال سوريا، أو على الأقل تتحرك قوات حزب العمال بدعم أمريكي- إسرائيلي، وما هو المقصود بتعبير «إجراءات استباقية» الذي استخدمه وزير الدفاع هاكان فيدان، وما هي؟ في ظل هذا الخضوع التركي، الذي وصل إلى حد استمرار مد الكيان الصهيوني بالنفط والغذاء من خلال الموانئ التركية، وغير ذلك مما قد يُكشف النقاب عنه مستقبلاً.
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس التركي، حتى ما قبل عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر من العام الماضي، كان يقدم نفسه للشعوب العربية والإسلامية، باعتباره خليفة المسلمين، المدافع عن حقوقهم، متحدثاً باستفاضة عن دولة الخلافة الإسلامية، ومنتجاً للعديد من الأعمال الدرامية الضخمة في هذا الصدد، ومن أبرزها، السلطان عبدالحميد، حريم السلطان، قيامة أرطغرل، قيامة عثمان، وغيرها من افتتاحات وإحلال وتجديد للمساجد والآثار الإسلامية، ثم موقفه المعلن والداعم بقوة للقضية الفلسطينية، وحرصه على حضور المناسبات الدينية، حتى بلغ الأمر إقامته للأذان بنفسه، وتجويد القرآن الكريم، من خلال الميكروفون، على الهواء مباشرة، وغير ذلك كثير.
من هنا كان التعويل الشعبي العربي والإسلامي، بلا حدود، على الموقف التركي فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، إلا أن الواقع جاء مغايراً، ما أدى إلى خسارة أردوغان أرضية شعبية، عربية وإسلامية كبيرة، بذل في تأسيسها وإرسائها جهداً كبيراً، على مدى سنوات حكم حزبه «العدالة والتنمية»، التي بدأت منذ عام 2002، وحتى الآن، ما يؤكد أن حسابات المكسب والخسارة في تركيا، على الساحتين الداخلية والدولية، كبيرة ومتشابكة، ومعقدة في الوقت نفسه، ناهيك عن الموقف العربي المخزي، الذي لم يكن على مستوى مواقف العديد من الدول في قارات مختلفة، بدءاً من جنوب افريقيا، إلى نيكاراغوا، وحتى إسبانيا.
ولكن يبقى التأكيد، على أن كل المعطيات على ساحة الأحداث، تؤكد في نهاية الأمر، على أن عملية طوفان الأقصى، قد حققت، وهي تدري أو لا تدري، الذود عن المنطقة ككل، وليس عن دول المواجهة مع الكيان فقط، ذلك أن مخطط التوسع والاحتلال والهيمنة، كما هو واضح، يستهدف العديد من البلدان العربية وغير العربية، ما يجعل من دعم المقاومة، الفلسطينية واللبنانية، بالمال والسلاح -على أقل تقدير- أمراً حتمياً ووجوبياً، على الجميع، دون أعذار، باعتبارها رأس الحربة الآن، ذلك أن الخطر الصهيوني على الأبواب يحدق بالجميع دون استثناء، يسعى إلى الانفراد بكل جبهة على حدة، وهو ما يجب أن يعيه المترددون والمغيبون، في آن واحد.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Adam Said:

    اولا: لا يوجد شيء اسمه “روجافا”
    هذه التسمية يطلقها الانفصاليون الارهابيون من اتباع حزب العمال الكردي في سورية.
    هذه المنطقة اسمها التاريخي هو الجزيرة. واسمها المتداول حاليا هو شمال شرق سورية.
    تشمل محافظات الحسكة ودير الزور والرقة . وهي محافظات عربية سورية يحتلها حزب العمال الكردي بمساندة أمريكية.
    لا يوجد شيء اسمه روجافا او كردستان سورية.
    الأكراد جاؤوا إلى سورية بعد هربهم من تركيا اثر فشل تمرد الشيخ سعيد بعد عام ١٩٢٥.
    وهم لا يشكلون سوى ٢٠ بالمئة من سكان الجزيرة السورية.

    الكاتب لفت الانتباه مشكورا إلى تقاطع مصالح الاسرائيلين مع القوميين الأكراد مما يشكل خطر على العرب والأتراك حاليا.
    يجب على العرب دعم جهود تركيا في محاولتها افشال المخطط الانفصالي في سورية لأنه سيؤدي إلى اقتتال اهلي لا نهاية له.
    السعودية والإمارات دعمتا الكيان الكردي سابقا ولكنهما توقفا بعد التطبيع مع تركيا.
    خطر الانفصالية الكردية سيفكك الإقليم ويؤثر على الجميع.
    الأكراد أنشأوا كيانهم في العراق قبل عقود بمساعدة اسرائيلية وهم يحاولون فعل نفس الشيء في تركيا وسورية الان.

  2. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تركيا المترددة بين حسابات المكسب والخسارة.
    أستاذنا عبد الناصر سلامة، كل يوم جمعة أترقب مقالك. أرى أن هدف أمريكا والغرب وإسرائيل والصهيونية العالمية هو احتلال رسمي للمنطقة العربية. كمواطن عادي، أرى أن المنطقة العربية محتلة منذ 76 عامًا من الناحية الاقتصادية وتحت تهديد السلاح الأمريكي والغربي، ومع ذلك، لا يزال السعي قائمًا لتحقيق الاحتلال الرسمي.
    كما يبدو أن الهدف يشمل إرهاب الحكومات والشعوب في المنطقة وتحطيم معنوياتها بلا رحمة. وقد بدأت الخدعة الكبرى بتصوير حماس كمنظمة إرهابية، ليقع العالم العربي في الفخ بأن المسألة تتعلق بحماس وحدها. والآن، يُبَاد الشعب الفلسطيني أمام الجميع ولا يتحرك أحد. بعد ذلك، سيأتي الدور على لبنان، ثم سوريا، ثم الأردن، الذي سيكون مطالبًا بقبول استيعاب فلسطينيي الضفة الغربية. ثم يأتي المخطط للعودة إلى غزة وتوطين فلسطينيتيها في سيناء، ليتم فرض الأمر الواقع

  3. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    وبذلك، تكون السيطرة قد تمت على العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا ومصر والأردن. أما منطقة الخليج، فيبدو أن المخطط يهدف إلى جعلها منطقة ملتهبة، مما سيكون سهلًا تنفيذه.
    أما الفصل القبل الأخير من المسرحية، فهو تصعيد محسوب بين إيران وإسرائيل، حيث يتبادلان الضربات “بعلم الوصول”. وعندما ترد إسرائيل، سيكون أمام إيران خيار مهاجمة المصالح الأمريكية في السعودية والمنطقة، بدلاً من استهداف إسرائيل ذاتها، باعتبار أن السعودية أقرب. وهكذا، تشتعل المنطقة، وتضطر أمريكا للتدخل لحماية مصالحها، بينما نخسر نحن مصالحنا.
    وفي الختام، يأتي الدور على أردوغان، حيث سيتم تحفيز الأكراد في كل مكان، سواء في أوروبا أو غيرها، لمحاربة تركيا، لتكتمل بذلك الخطة. كل هذا، بالطبع، مجرد تخيلات رجل يبلغ من العمر 82 عامًا، لا يجد شيئًا يفعله في الصباح. حسبي الله ونعم الوكيل. ( 2 )

اشترك في قائمتنا البريدية