هذا السؤال الذي دقِ به الراحل غسان كنفاني جدران رؤوسنا عقب هزيمة 1967، يعيد ذاته في صدى فراغ الخزان وداخل آذاننا، يريد سماع الحقيقة كاملة ولا تقنعه إنصاف الإجابات يبحث بأسئلته في أصل الأشياء، لتتحول مرة أخرى إلى أسئلة جديدة، واحتمالات وأبحاث جديدة.
عن ماذا وعن لماذا، تلك التي أزعجت الانظمة العربية عقب النكسة عندما طرح سؤاله المشروع: لماذا النكسة؟ وهل القرار رقم 242 هو لحل القضية الفلسطينية أم قرار لإزالة آثار النكسة؟ وليتلقى على أسئلته جواب من أحد أزلام الأنظمة العربية حينها برسالة مكتوبة برد عنيف وغليظ: “يا ود إنت مش حتبطل اللماضه بتعتك ؟”.
سيادة الدولة الفلسطينية
التساؤل يحيلنا الى ذلك القرار الذي ينص على سحب إسرائيل قواتها المسلحة من (الأراضي) التي احتلتها في الحرب، وإنهاء حالات التوتر واحترام واعتراف بسيادة الدولة الفلسطينية واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة وتحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
تساؤلات كنفاني عن القرار لأنه عبّر عن ميزان قوى كان نصيب الدول العربية فيه هزيمة ساحقة، انتزعت إسرائيل من خلالها اعترافا عربيا بسيادتها على الأراضي المغتصبة وحقها في العيش بسلام وكان ذلك بمثابة فك الارتباط السياسي العربي الرسمي عن القضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية العرب المركزية إلى تسوية لقضية اللاجئين، وعندما يكون ميزان القوى هو المقرر، فإن الطرف الذي يتحكم بتطبيق قرار مجلس الأمن، هو الطرف الأقوى.
سؤال لماذا عند كنفاني يأتي إلينا كمفتاح للإجابة، لا يريد غسان أن نقبل الهزيمة صامتين وأن نقابل الموت مكتوفي الأيدي، هو السؤال القائم خلف كل هزيمة، المرتد كالصدى بين جدران الخزان يلامس في كل مرة يتحول فيها البشر إلى لاجئين ومواد مهربة، ولا فرق بين فلسطيني وسوري وعربي وعلى أي حدود يهربون وإلى أي بلاد يلجأون بالبر أو بالبحر والمهرب دائما أبو الخيزران الذي يحشرنا في خزان تهريب وسمسرة ومكر وسلطات فاشلة، في حين أن هناك رجالا في الشمس دقوا ولكن لم يسمعهم أحد سوى جدران الخزان في الصحراء القاحلة، وربما سمعهم من لم يستطع فعل شيء وقتلهم بعجزه، فتساوى القتل بالصمت والقتل بالعجز.
رجال في الشمس
في رواية كنفاني “رجال في الشمس”، يحكي لنا عن أبي الخيزران، الثائر الذي تحول لمهرب، بعد أن فقد ذكورته في إحدى المعارك، والرمزية التي أشار بها غسان لشخصيته فضياع رجولته يعني ضياع الوطن، والجميع توقف عند الجملة التي قالها أبو الخيرزان سائق سيارة صهريج المياه: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لكنهم لم يتوقفوا عند نذالته المتضاعفة فبعدما اكتشف وفاة الركاب الثلاثة، لاحظ أنهم من فئات عمرية مختلفة، أبو قيس المعلم العجوز، وأسعد الشاب ومروان الصغير، قرر أن يدفنهم في ثلاثة قبور، ثم تقلص القرار إلى قبر واحد، وانتهى بهم إلى أن ألقاهم في مقلب القمامة خارج البلد، وليكمل الدناءة سرق النقود من جيوبهم وخلع ساعة مروان وهرب.
رمزية أبو الخيزران لا تختص بالفلسطينيين وحدهم، وتنسحب على مأساة السوريين، في ظل نظام الأسد والمجتمع الدولي الذي لا يختلف عن أبو الخيزران، ففي يوميات سياسة الخزانات، وإقطاعيات الحكام وحاشيتهم، لم يعد مجرد خيال روائي تحويل الأوطان إلى مكبات نفايات لمواطنيها وهمها المشترك ألا تقرع جدرانها.
فثمة أبو خيزران بأوجه مختلفة بعضهم ببدلة أنيقة يوصف بالمعارض الوطني، وآخر بذقن، وآخرون بلباس مجاهد وثوري، يلتقون على قياس البلاد بقدر ما تتيحه من سمسرة ونهب ومعابر وتهريب وفتح دكاكين، بانتهازية متأصلة ومتوارثة، لتصبح مسافة الحياة تتأرجح بين دق جدران الخزان أو تحويله إلى نعش.
نتاج كنفاني ما زال علامة فارقة في ثقافتنا والأهم هو السؤال الوجودي والكياني الذي طرحه في مواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلي الذي أنتج ذلك الظلم التاريخي الاستثنائي للشعب الفلسطيني وقدم عناصر الإجابة في رواياته وقصصه، في نثره ونقده وكتاباته الصحافية، ففي مقالته “ملحمة المعزاية والذئب”، والتي كتبها قبيل اغتياله يوم 8 تموز/يوليو 1972 بأسلوب ساخر واسم مستعار، ونشرتها مجلة “الصياد” اللبنانية، يرفع القناع عن العصبية المتأصلة في الإعلام الغربي ضد العرب والفلسطينيين، ويذكر انحياز الإعلام الغربي المتعصب إلى جانب إسرائيل فيقول:
” لا بد أن تكون طينة العرب من طينة أخرى غير طينة الأجانب، وخصوصا غير طينة الإسرائيليين، وقد كان دايفيد اليعازر مهّذباً جداً حين أعلن أسفه لسقوط ضحايا مدنيين أثناء غارات الطائرات الإسرائيلية على لبنان “لأن ذلك شيء لا يمكن تجنّبه”. والواقع أنّ هذا الكلام هو استكمال للشّعار المرفوع عالياً في إسرائيل: “إنّ العربي الجّيد هو العربي الميت”.
” وأنا واحد ممّن لم يتيسر لهم هذا الأسبوع قراءة القصص وكتب الأدب، وكنت مشغولاً طول الوقت بقراءة الصحف وأخبار الاعتداءات الإسرائيلية، وخطابات دهاقنة اللّغات الدبلوماسيّة في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة. وقد تبيّن لي كما هو الأمر بالنسبة لـ120 مليون عربي على الأقلّ، أن أروع عمل أدبي في التّاريخ، ينطبق على حالنا، هو تلك القصة القصيرة التي تعلمناها حين كنا أطفالا عن الماعز والذئب، وكيف لوّثت المسكينة مياه الجدول وعكّرته على الذّئب المهذّب، مع أنّها كانت تشرب من مكان أدنى من الموقع الاستراتيجي الّذي تمركز فيه الذّئب، منذ احتلال علم 1967 على الأقلّ!”
“قلت: قرأت الصّحف، وقرأت تعليقاتها إثر حادث مطار اللّد الأوّل، ثمَّ حادث مطار اللّد الثّاني، ثمَّ حوادث الاعتداءات الإسرائيليَّة. وطويت الجرائد وأنا أنفخ غيظاً، إذ أن هذا العالم الأحمق ليس بوسعه أن يكون أكثر حماقة. وبعد ملايين السّنين من انحدارنا من العصور الحجريَّة ما زالت القاعدة الذّهبيَّة إيَّاها هي الصّحيحة: إنَّ صاحب الحجر الأكبر، وحامل العصا الأثخن، والبلطجي الشرّاني، هو الّذي معه حقّ! ”
“هذا العالم الأحمق ليس بوسعه أن يكون أكثر حماقة، لو كان لديكم بدل الفدائيين الثّلاثة، ثلاثة أسراب من قاذفات الـ”ب – 25” الاستراتيجيَّة، وبدل الرّشاش الخفيف طاقة من النّار تبلغ ألفي طن من القنابل في السَّاعة الواحدة، لصار منطقكم عند “الإكسبرس” و”النيويورك تايمز” وإذاعة لندن وفالدهايم منطقاً معقولاً، يمكن الاستماع له! لكن، يا حسرة، ما العمل عندما يكون المنطق الصّحيح مصاباً بشلل الأطفال، والخطأُ الفادح مسلّحاً بألف كيلو من العضلات؟.
” بعد هذه القراءات كلّها، وخصوصاُ بعد الاطلاع على “الرّدود” الفهلويَّة للحكومة، وبعدما ألقيتُ نظرة عامَّة على الوضع الثقافي عندنا، وجدت أنَّ علينا إعادة الاعتبار لحكاية الماعز والذّئب وجدول الماء، فالظّاهر أنَّ أحداً لم يستوعب هذه الحكاية جيِّداً.. ومن هنا، وحتّى تتفجّر على جسمنا عضلات من مستوى الصّراع، فإن الأثر الأدبي المتمثّل بحكاية الماعز والذّئب هو ملحمتنا الأدبيّة الفذّة، والذي نسمعه الآن من تصريحات المسؤولين العرب هو الثّغاء !”
مسألة حياة أو موت
يذكر أن كنفاني كان يعتبر الإعلام معركة كما يقول في مقال له: “إن الإعلام معركة، وبالنسبة لنا، فإن معركتنا الإعلامية لا تحقق انتصارا إذا ما جرى خوضها من خلال المبادرة الكلامية مع العدو أمام رأي عام في مجمله منحاز، وعلى شبكات إذاعية وتلفزيونية تقف جوهريا ضد قضايانا، إننا في حالة حرب، وهي بالنسبة للفلسطينيين، على الأقل، مسألة حياة أو موت.
تساؤلات كنفاني بعد خمسين عاما على رحيله، نجدها ماثلة اليوم في الحاضر المعاش حيث يطالب أحفاد كنفاني بأن يموتوا بصمت وأن لا يدقوا جدران الخزان، حتى لا يزعجوا العالم المتعاطف مع بدائيات الاحتلال الكاذبة، وأمثال أبو الخيزران تلاميذ مكتوفي الأيدي وعريف صفهم إسرائيل.
وإن سؤال: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ هو سؤال لا قيمة له، بل مجرد محاولة ساذجة للهروب من المسؤولية عن الضحية التي كان يقودها بوعي إلى مصيرها المحتوم.
ونحن اليوم كما كتب غسان يوما: نتساءل: أين المـجتـمـع الدولــي؟، من هو؟ وماهي حدوده وصلاحياته ؟!
ونحتاج إلى دورة معرفية تعيد تعريفه وتحديد قوته ومجالاته حتى لا يلبس علينا، فقد أصبح هذا المصطلح يردده طرفان، الطرف القوي ليمرر مشاريعه ومصالحه، وكذلك الطرف الضعيف ليبرر ضعفه وتخبطه وقلة حيلته ويعلق عليه سوء حاله.
وتبين لنا بعد سنوات من المعاناة، أن مصطلح المجتمع الدولي هو اسم مستعار لشركة مقاولات كبيرة متخصصة في الإعلام ووسائل الاستخبارات هدفها استثمار الصراعات وقضايا الشعوب، وتصنيع وبيع أسلحة بغرض التجريب، وشركات إعادة إعمار ومنظمات تدريب وتمويل حصرية للدول الأعضاء، من دماء شعبها وجراحات وعذاباته، وأن هذا المجتمع ليس أكثر مِن إقطاعية، يحكمها خمسة أغوات، وكل العالم في هذه الإقطاعية تحت أمر الأغوات والذئب المهذب الذي يحتل الأرض والنهر محم من أغوات الإقطاعية، ومازال يدعي أن الماعز المسكينة عكرت مياه شربه وصفو عيشه.
كاتب سوري
شكرا اخي مقال رائع ينطبق علينا غصة في حلقنا و الله على حالنا في دولنا العربية الغبية الغنية فبالله عليك ما ذا ينقصنا حتى لا نضاهي الدول المتقدمة كل المقومات عندنا قادتنا طغاة و سوريا المثل و زد و زد … حسبي الله و نعم الوكيل
شكرا لمرورك العطر، وحسن قراءتك