تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (2)

حجم الخط
0

تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (2)

علي امتداد فترة برنامج النفط مقابل الغذاء كان مصدر التمويل عراقيا بالكامل.. وهذه حقيقة تغفل مرارااثقل علي كاهلي فكريا وعاطفيا إدراك أنني جزء من جهد دولي لإبقاء أمة رازحة تحت عقوبات اقتصاديةتشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (2)د. هانز كريستوف فون سبونيكہ يحكي هذا الكتاب الصادرة ترجمته حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عن قصة الحصار الطويل الذي فرض علي العراق قبل الغزو، وهي الفترة التي انتقل فيها العراق من مجتمع ثري، مجهز ببنية تحتية حديثة الي بلد مؤلف من شعب فقير ومحروم. ويتحدث الكاتب عن الثمن الباهظ لنظام العقوبات الشاملة، وعجز البرنامج الانساني بتعقيداته الروتينية والبيروقراطية وقيود الميزانية، وتصميم الدول دائمة العضوية في مجلس الامن علي عدم السماح للعراق باستعادة مقدرات سيادته – عن تحسين وضع المواطنين العاديين.خطة التوزيع الخامسة: مثال علي حصانة إنسانية للعراقوجدت علي مكتبي مسودة خطة التوزيع لـ المرحلة الخامسة كما كانت تسمي. وقد احتوت مقترحات بقيمة 2.7 مليار دولار من اجل بقاء شعب من نحو 22.5 مليون عراقي خلال فترة الستة اشهر الممتدة بين 26 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 و24 ايار (مايو) 1999. ولم تعرف الميزانية الكاملة الا في نهاية المرحلة الخامسة حين اعدت خزينة الامم المتحدة في نيويورك الحسابات النهائية بشأن الدخل المحصل من النفط العراقي المبيع في سياق المرحلة. وبكلمات اخري، لم يكن للبرنامج الانساني ما يؤكد تغطية مالية خلال اي مرحلة من المراحل. وكان مقر الامم المتحدة لا ينجز الامداد بالمؤن المدنية الاساسية، من سلع غذائية وطبية ومعدات ضرورية، الا عندما يؤكد ماسك حسابات النفط العراقي، اي بنك باريس الوطني BNP، ان هناك اموالا كافية لتغطية العقد. وكانت الامانة العامة للامم المتحدة ومجلس الامن يدركان معني حدوث نقص في دخل النفط بالنسبة الي السكان في العراق. ومن ناحية اخري، لم تكن هناك آلية (ميكانيزم) كي يعوض المجتمع الدولي عن النقص من خلال مساهمات طوعية، ومع ذلك لم يفكر قط في آلية كهذه.علي امتداد فترة برنامج النفط مقابل الغذاء ، من 10 كانون الاول (ديسمبر) 1996 الي 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، كان مصدر التمويل عراقيا بالكامل. وهذه حقيقة تغفل مرارا وتكرارا. والاشارة الي المساعدة الانسانية تعزز الملاحقة الكاذبة بأن ثمة دعما ماليا خارجيا مشاركا في المساعدة. وكان مصدر التمويل العراقي احد الاسباب التي جعلتني غير مرتاح الي تعييني منسقا للشؤون الانسانية في الامم المتحدة ، ولا كان العراقيون مرتاحين لانهم لمسوا بحق ان الامم المتحدة كانت تستغل مواردهم. ثم ان بعض العراقيين لم يلاحظ فقط ان الاموال التي نستغلها امواله، بل قال ان في وسعه استخدام هذا المصدر بكفاءة اكبر لو قيض له التحكم به.لطالما سمعت خلال زيارات الي وزارة الخارجية الامريكية في واشنطن من كان يقول: اجل، كان من شأنهم استخدام هذه الاموال لتحسين برنامجهم الخاص باسلحة الدمار الشامل . وفي بغداد وواشنطن ولندن بدا مآل النقاش حول العراق دائما الي صورة بالابيض والاسود. وسرعان ما ادركت ان جميع المشاركين في دراما العراق كانوا مصنفين بانتمائهم الي هذا المعسكر او ذاك. ولم يخطر ببال هؤلاء المناصرين العنيدين لكل من المجموعتين ان لا حاجة بالمرء لان يكون مع اي منهما، بل يستطيع ان يحدد موقفه بناء علي ما كان في مصلحة الشعب العراقي، وكان صائبا من الناحية القانونية.كان الموقف الذي نشأ بين مرحلة واخري موقف حيرة من امر الدخل، وبالتالي كان موقف تردد من جانب الامم المتحدة ازاء تنفيذ البرنامج الانساني.توفرت لي توجيهات بشأن المرحلة الخامسة المقترحة من مراحل برنامج النفط مقابل الغذاء مع وحدات في مكتبي، فضلا عن وحدات في وكالات اخري تابعة للامم المتحدة. وكان الجو العام في اوساط الامم المتحدة في بغداد خلال الاسبوع الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 مكفهرا. كنا نخشي ان تكون الولايات المتحدة وبريطانيا علي وشك توجيه ضربة عسكرية. وقد علقت الحكومة العراقية التعاون مع مفتشي الامم المتحدة في 31 تشرين الاول (اكتوبر) وغادر المفتشون البلد. وردت الحكومة الامريكية علي هذه التطورات بحدة غير عادية. وتركت كلمات صمويل بيرغر، مستشار الامن القومي الامريكي آنذاك، مجالا ضيقا للتأويل: نحن متجهون لتنفيذ عمل عسكري ونبقي متأهبين لتنفيذ عمل عسكري !لم تنس الولايات المتحدة ازمات سابقة مماثلة بين مفتشي الاسلحة التابعين للامم المتحدة والحكومة العراقية. وبدت حكومة كلينتون مستعدة فعلا لتوجيه ضربة.وتدخل الامين العام للامم المتحدة وفرنسا وروسيا وماليزيا (عضو مؤقت في مجلس الامن) واخرون ايضا لدي الحكومتين العراقية والامريكية في سعي حثيث للحؤول دون عمل عسكري. وقد اجدت تلك المحاولات حينا من الوقت. ففي 14 تشرين الثاني (نوفمبر) سمحت الحكومة العراقية للجنة الامم المتحدة الخاصة (اونسكوم) باستئناف عملها في مراقبة الاسلحة والتحقق منها. وبدت الازمة منتهية. ونتيجة لذلك، خف التوتر لدي وكالات الامم المتحدة المعنية بالشؤون الانسانية في العراق. وبات في استطاعتنا التركيز مجددا علي العمل الذي انتدبنا له.خلال زيارة الامين العام التاريخية الي بغداد في شباط (فبراير) 1998، استطاع ان يقنع مجلس الامن بان الاموال المتاحة للاعفاء الانساني ما عاد بالامكان الدفاع عنها، وان الموارد المسموح بها لبرنامج النفط تستلزم مضاعفتها، من 1.3 مليار دولار الي 2.6 مليار دولار لكل مرحلة. وفي حين كانت هذه الزيادة خطوة في الاتجاه الصحيح، فانها ما كانت لتكفي لعكس اتجاه الظروف المتفاقمة في وجه سكان العراق. وكما قال لي زملاء في الامم المتحدة، ووجدت انا شخصيا بسرعة، كان النقص في الاموال، والعراقيل البيروقراطية امام عمليات التسليم الصحيحة، وكذلك تعمد ممثلي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في لجنة العقوبات التابعة للامم المتحدة منع تقديم الامدادات الانسانية، كان ذلك كله عناصر لسياسة اغفال دولية لخير الشعب العراقي.فقدان التخطيطلكن ليست هذه القصة كاملة، فقد ترسخت داخل جماعة الامم المتحدة وبين الوزارات العراقية المعنية ذهنية شراء وتموين مفرطة في التبسيط ومشددة علي طلب السلع والمعدات وتوزيعها خلال فترة ستة اشهر. وكانت الوزارات العراقية فاقدة الدافع للتخطيط المسبق لانها كانت متمسكة بتوقعات غير واقعية مؤداها ان العقوبات سترفع قريبا. وخلال المراحل السابقة من برنامج النفط مقابل الغذاء ، لم ترصد موارد من اجل تدريب معلمين وفنيين ومدراء وسواهم من موظفي الحكومة. ولم يكن هناك خطط لادخال تحسينات ادارية علي الوزارات وغيرها من الاجهزة الحكومية، فضلا عن غياب محاولات لتنفيذ خطط وطنية او لتحديد اولويات وطنية.لقد حولت السياسة الدولية والفتور الوطني العراق الي دولة مرغمة علي اتخاذ اجراءات آنية يوما بيوم في سبيل المقومات الاساسية للبقاء.هذا الادراك اكدته قراءتي لحظة التوزيع الخاصة بالمرحلة الرابعة والتقارير المتعلقة بتطبيق الامم المتحدة لتلك الخطة. اما الموارد الاضافية التي سمحت الامم المتحدة بها في 20 شباط (فبراير) 1998 بدءا بالمرحلة الرابعة، فانها لم تبدل حقيقة ان برنامج النفط مقابل الغذاء كان اكثر قليلا من برنامج تزويد بالسلع والمعدات، اذ لم يكن ثمة نص يقضي بتمويل ادارة البلد للتدريب والابحاث للافراد. وظل الامر علي هذه الحال طوال 13 عاما من العقوبات، بل اضحي بمرور الوقت قيدا متزايد الخطورة علي تطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء .احتوت خطة التوزيع لهذه المرحلة، كما في مراحل سابقة، علي مخصصات للمواد الغذائية بوصفها البند الوحيد لاكبر النفقات. ولبث الامر هكذا علي امتداد فترة العقوبات. وقد فاجأني غياب التمويل للاسكان والاتصالات اللاسلكية واصلاح البنية التحتية. وكان الدمار الشديد قد لحق بصناعة النفط إبان حرب 1991، ولذلك كان لا بد من تأمين اموال لاصلاح وصيانة صناعة النفط انتاجا وتسويقا. لكن هذا لم يحدث قط. وعكست ميزانية المرحلة الرابعة نقصا في الاهتمام بالشباب العراقي. وكانت حصة التعليم من ميزانية المرحلة الرابعة مجرد 100 مليون دولار ولبثت غير كافية طوال اعوام العقوبات.اخيرا، قسمت ميزانية النفط مقابل الغذاء الي قسمين، وفقا لقرار الامم المتحدة 986 لعام 1995، كان الغرض من احد القسمين تغطية الحاجات الانسانية للسكان في المحافظات الخمس عشرة الواقعة تحت سيطرة الحكومة في بغداد. وكان الغرض من الاخر القيام بالامر نفسه في محافظات الحكم الذاتي الثلاث في كردستان العراق.وفي كردستان عملت الامم المتحدة بصفتها سلطة التنفيذ، بالتشاور مع السلطات المحلية في دهوك واربيل والسليمانية والحكومة في بغداد. ولم تكن الميزانيتان المتعلقتان بالمنطقتين متناسبتين مع حجم السكان في وسط العراق وجنوبه وفي المناطق الكردية، فقد خصص للوسط والجنوب 1.96 مليار دولار، وخصص للمحافظات الشمالية الثلاث 482 مليون دولار، هذا يعني ان 80.3 بالمئة من الاموال كانت من اجل 87 بالمئة من السكان او 19.2 مليون نسمة و19.7 بالمئة من اجل 13.9 بالمئة من السكان او 3.3 ملايين نسمة في كردستان العراق.كانت هذه المخصصات مرتكزة علي قرار سياسي في مجلس الامن لحساب ميزانية البرنامج الانساني لـ 13 بالمئة من العراقيين في كردستان علي اساس العوائد الاجمالية البالغة ملياري دولار. وفي المقابل، كانت الاموال الخاصة بالسكان الذين هم تحت سيطرة بغداد مرتكزة علي اساس العوائد الاجمالية البالغة ملياري دولار ناقص المخصصات المرصودة للجنة الامم المتحدة للتعويضات UNCC ولكردستان العراق والنفقات العامة للامم المتحدة. هذا يعني القاء اعباء تمويل نفقات الامم المتحدة والتعويضات علي عاتق القاطنين في الجزء الواقع تحت سيطرة بغداد. ولا مفر لمجلس الامن من تهمة انه حار بذلك علي المواطنين العراقيين في وسط العراق وجنوبه، اذ اجبروا علي دفع ثمن سوء تصرف حكومتهم.علي مر الايام اثارت معادلة المخصصات المزيد والمزيد من الاعتراض لا من جانب الحكومة العراقية فحسب، بل ايضا من جهات اخري رأت المعادلة توزيعا غير منصف للموارد النادرة. لكن كان هناك ايضا من حاجج بالقول ان هذا العمل الايجابي مبرر تماما لان السلطات المركزية في بغداد اهملت كردستان العراق فترة طويلة من الزمن. ثم انهم شددوا علي ان للمناطق الكردية حاجات متميزة ليست لسائر المناطق العراقية، منها، مثلا، اعادة توطين الاكراد المهجرين ونزع الالغام من مناطق واسعة في الشمال العراقي، وهي الغام من مخلفات الحرب العراقية ـ الايرانية.عندما قبلت الحكومة في بغداد والامين العام للامم المتحدة هذه الميزانية الكردية تولت السلطات المحلية الكردية، وبتعاون وثيق مع الامم المتحدة، مسؤولية تنفيذ خطط التوزيع لاشهر ستة. وتم شراء مؤن انسانية للقطاعات المشمولة في الميزانية بتعاون بين السلطات الكردية ووكالات الامم المتحدة، فمواد البناء مثلا اشتراها مركز الامم المتحدة للتعمير و الوزارات (الكردية) المحلية للاسكان واعادة التوطين، ووسائل التعليم والكتب المدرسية حصلت عليها اليونيسكو و وزارات التعليم المحلية، الخ. غير ان شراء الاغذية والمنتجات الطبية بقي مسؤولية مركزية من مسؤوليات الحكومة العراقية في بغداد.من زاوية الامن الغذائي والوقاية الطبية لجميع العراقيين بالتساوي، بصرف النظر عن الاصول الدينية او العرقية، كان الشراء بالجملة عملا صائبا، اذ اكد في نهاية الامر، وفي سياق برنامج النفط مقابل الغذاء علي الاقل، ان مفهوم وحدة التراب ـ الذي اشارت قرارات الامم المتحدة اليه مرارا وتكرارا ـ لم يفقد معناه. وكان الامر الشاذ، مع تلميحات سلبية الي الميزانية الخاضعة لسيطرة بغداد، واقع وجوب اقتطاع اثمان الاغذية والمواد الطبية المرسلة الي كردستان العراق من حصة بغداد من ميزانية برنامج النفط مقابل الغذاء . وغالبا ما كان تسديد المبالغ يستغرق فترة غير عادية من الوقت، الامر الذي حرم وسط العراق وجنوبه من الحصول علي الموارد الملحة في الوقت المناسب.وقد اقر الامين العام للامم المتحدة مرارا بأن ذلك ارتباك وتقييد يؤسف لهما. وصرح في تقريره الي مجلس الامن في 18 ايار (مايو) 1999 بقوله: ما انفك توفر التمويل (لوسط العراق وجنوبه) من اجل المرحلتين الثالثة والرابعة متأثرا سلبا ببطء معدل السداد .وفي نهاية المرحلة الرابعة، كانت الميزانية المخصصة للمحافظات الخمس عشرة الخاضعة لسلطة بغداد تنتظر سداد 238 مليون دولار قدمت لشراء مواد غذائية وطبية من اجل كردستان العراق. وشكل هذا المبلغ 15 بالمئة من ميزانية برنامج النفط مقابل الغذاء لتلك المرحلة. وكان هذا مرة اخري علي حساب العراقيين القاطنين في تلك المنطقة. ومن الواضح ان مرونة التدبير الشامل لميزانية بغداد اختزلت.وقد استغرقت فترة من الوقت لاكتشف هذا الامر. وكان الفشل مصير جهود قمت بها لتصحيح هذا الضرر، او علي الاقل لتقليص الفترة بين طلب الحساب وتقييده في الجانب الدائن في بغداد.ولاحظ تقرير الامين العام باختصار وبلغة واقعية ان التقدم في جميع انحاء البلد اعيق بقيود علي التمويل بسبب انخفاض اسعار النفط وكذلك بسبب جميع القيود اللوجستية المتغلغلة (التخزين، النقل، الاتصالات) وحالة صناعة النفط المزرية. مع ذلك، جري توزيع الاغذية علي ما يرام في وسط العراق وجنوبه. وتحقق بعض التقدم في توزيع المواد الطبية والمياه والمواد الصحية وفي تسليم المدخلات الزراعية. ولوحظ تحسن بطيء فقط في انتاج الطاقة الكهربائية. وبقي تقدم تحسين التعليم في حالة بائسة.في كردستان العراق، وباستثناء الامداد بالطاقة الكهربائية، كانت احوال القطاعات الاخري افضل من الاحوال في المناطق الخاضعة لسيطرة بغداد. وذكر ايضا تقدم في المناطق الشمالية لناحية ازالة الالغام واعادة توطين المهجرين.الشعور بالذنببعد ان راجعت خطة التوزيع الرابعة قبل وصولي الي بغداد، وبعد تقرير الامين العام لهذه المرحلة بعيد وصولي، استشعرت ما كان معقدا في صوغ الشكل النهائي للمرحلة التالية.اثقل علي كاهلي فكريا وعاطفيا ادراك كوني جزءا من جهد دولي لابقاء امة رازحة تحت عقوبات اقتصادية شاملة حية وموفورة الصحة. وقد كان مجلس الامن والامانة العامة للامم المتحدة وبرنامج الامم المتحدة الانساني في العراق متورطين في نظام عقوبات ومتحملين، في الوقت نفسه، مسؤوليةحماية ارواح بريئة. وكان علينا ضمان ابقاء المجتمع الدولي، ان لم تكن الحكومة العراقية، علي جدول اعمال مرتكز علي حقوق الانسان واحترامه لكرامة الشعب العراقي.مرت ايام تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 بسرعة. وكان موظفو دعم محترفون في مكتبي يعدون لاجتماعات نهائية مع الحكومة العراقية بشأن خطة توزيع المرحلة الخامسة. وكان مقررا عقد اجتماعات مماثلة مع منظمة الصحة العالمية WHO ومنظمة الاغذية والزراعة FAO وبرنامج الاغذية العالمي WFP وبرنامج الامم المتحدة الانمائي UNDP وصندوق الامم المتحدة لاغاثة الاطفال اليونيسيف ومنظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو وهي الوكالات ذات المكاتب الدائمة في بغداد. وكان جزء من هذه العملية مشاورات واسعة بين وكالات الامم المتحدة ومكتب منسق الشؤون الانسانية التابع للامم المتحدة في العراق UNOHCI وكذلك بين وكالات افرادية تابعة للامم المتحدة ونظيراتها الوزارية في الحكومة العراقية. وكانت القيمة الحرارية لسلة الاغذية المقترحة، والتغذية المستهدفة من اجل مجموعات ضعيفة، والحاجات ذات الاولوية في قطاعات الكهرباء والماء والمرافق الصحية مسائل كبري تعنينا. والمتطلبات الخاصة لصناعة النفط عولجت بصورة مباشرة بين الحكومة والامانة العامة للامم المتحدة في نيويورك.خلال ايام تشرين الثاني (نوفمبر) 1998 تلك، كان مكتب منسق الشؤون الانسانية ينتظر اشارة من وزارة الخارجية العراقية تدل علي استعدادها لمناقشة مسودة خطة التوزيع للمرحلة الخامسة. وكان الوقت قد حان للتعرف الي زملائي الدوليين والعراقيين وللالمام بهيكلية مكتب منسق الشؤون الانسانية. وكما يمكن ان يتوقع المرء من مكتب للامم المتحدة، كان هناك زملاء من جميع انحاء العالم، اغلبيتهم من آسيا وافريقيا. وكان نائباي في اول الامر فريد ظريف، من التابعية الافغانية، ثم ووري اومارو من سيراليون. وكان ظريف ممثلا دائما للامم المتحدة في نيويورك، وقبل ذلك مستشارا للرئيس (الافغاني الاسبق) نجيب الله للشؤون الخارجية في كابول. وكان اومارو سفيرا لبلده لدي المانيا. ولم يكن الدبلوماسيان السابقان الوحيدين في مكتبي، اذ كان مسؤولان في البرنامج من الصومال واليمن سفيرين في الكويت ونيويورك. وكان آخر من غامبيا، في فترة سابقة، وزيرا للخارجية في حكومة بلده. وفي مكتبي المباشر كان ثمة زملاء من الهند ومالطا واستراليا وكينيا ولبنان. وكان مساعدي الشخصي، سرينيفاسان قد عمل معي في اعوام سابقة في الهند، حيث كنت منسق الامم المتحدة المقيم في الهند. وكان هناك عدد كبير من الموظفين منتدبين من منظماتهم الام في الامم المتحدة حول العالم، بما فيها الامانة العامة في نيويورك. لقد كان العالم ملتئما فعلا في فندق القناة الواقع في منطقة البلديات في بغداد. وقد ضم هذا المبني ما غدا وقتئذ، وبلا شك، العملية الانسانية الابرز بين عمليات الامم المتحدة في اي مكان آخر. وكانت الوظائف هنا مبتغي اجانب وعراقيين علي السواء، وذلك بدافع الظروف الخاصة بالنسبة الي بعضهم، وبدافع الاجور العالية جدا بالنسبة الي كثيرين.بالاضافة الي وجود وحدات معتادة في اي بعثة للامم المتحدة، وهي وحدات تتولي مسؤوليات المالية والنقل وشؤون العاملين والادارة العامة، كان لدي مكتب المنسق ايضا وحدة طبية ومكتب قانوني ومدقق حسابات دائم وقسم للاعلام مع ناطق رسمي. وكان في تصرفي مكتب كبير للامن منذ ان اصدرت بالنيابة عن جهاز الامم المتحدة مذكرة امنية الي جميع موظفي الامم المتحدة باستثناء مفتشي الاسلحة العاملين في لجنة الامم المتحدة الخاصة (اونسكوم).كانت وحدتا مكتب المنسق الرئيستان المعنيتان بتطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء وحدتي مراقبة. وكانتا قد انشئتا بمذكرة التفاهم التي وقعتها الحكومة العراقية والامم المتحدة في ايار (مايو) 1996. وكانت مسؤولية هاتين الوحدتين تأكيد التوزيع العادل للمؤن الانسانية علي جميع فئات المجتمع العراقي، وتقرير وفاء الموارد المتاحة بحاجات العراق الانسانية . وكانت هذه مسؤولية جسيمة حقا. واوحت، علي ما يبدو، بأن مثل هذه المراقبة واطلاع مجلس الامن علي مجرياتها سيؤديان الي تعديل مستمر للبرنامج الانساني بهدف ضمان تلبية حاجات الشعب العراقي بصورة ملائمة ودائمة. لكن الامر لم يكن علي هذا النحو، وكان في ذلك اساءة بالغة الي الشعب العراقي. وللنهوض بهذه المسؤولية، شكل مكتب برنامج العراق في مجلس الامن وحدة ملاحظة جغرافية ووحدة ملاحظة متعددة ميادين الدراسة .كانت مهمة الاولي مشاركة وكالات وبرامج للامم المتحدة في ملاحظة توزيع الامدادات الانسانية الي مستحقيها (المستشفيات، العيادات، الصيدليات، المدارس، شبكات المياه، محطات الصرف الصحي، محطات الكهرباء، مخازن الاغذية.. الخ). وكانت وحدة الملاحظة الاخري الاخري منوطة بمسؤوليات الملاحظة القطاعية والفنية مع تركيز علي المياه والصحة الوقائية والكهرباء والامدادات والمعدات الطبية والمدخلات الزراعية. ورغم ان وحدة الملاحظة الجغرافية كانت معنية بالمراقبة العامة لعملية التوزيع والوحدة متعددة ميادين الدراسة معنية بنشر المعدات وبقضايا فنية متصلة بكفاية الامدادات الانسانية، فقد كان ثمة تقاطع واضح بين وظائفهما. ولهذا السبب وحده، لا عجب في نشوء توتر بين الوحدتين. غير ان نظام الامم المتحدة للملاحظة في العراق كان اعقد من ذلك كثيرا. فقد كان لوكالات الامم المتحدة وبرامجها كافة ملاحظوها القطاعيون الذين كانوا يرافقون ملاحظي مكتب المنسق في زياراتهم التحقيقية اليومية. وثبت ان بنية ملاحظات كهذه ارض خصبة لازدواجية العمل، والتنافس وصولا الي المواجهة داخل مكتب المنسق وبينه وبين سائر اجهزة الامم المتحدة، فكل جهاز يتهم الاخر بانعدام الاهلية الاحترافية. ولم يكن مرد ذلك الي الاشخاص بقدر ما كان مرده الي بنية الملاحظة التي ارستها الامم المتحدة.كان لا بد ان تكون فرق الامم المتحدة المختلطة هذه مصحوبة برعاية موظفين حكوميين خلال تنفيذها مهماتها في ارجاء العراق. وكان هؤلاء من صغار الموظفين الرسميين الذين كان بعضهم ذا مسؤوليات مخابراتية من دون ادني شك، والذين كانت مهمتهم مساعدة الفرق في اثناء الرحلات وزيارات الملاحظة بالترجمة وبحل اي مشكلة علي الطرق او عند حواجز الشرطة او في دوائر حكومية محلية.ولم تكن الحكومة لتسمح باعمال المراقبة من دون حضور اولئك الموظفين. وغالبا ما سبب النقص في عدد مثل هؤلاء الموظفين في بعض الوزارات، كوازارة التعليم مثلا، والتأخر في الوصول الي نقاط انطلاق محددة في بغداد ازعاجا وتأخيرا للعمل. ولم يكن في تصرف النظراء من العراقيين آليات مناسبة كالتي كانت لدي موظفي الامم المتحدة وكانوا يضطرون الي الاعتماد علي وسائل نقل عامة لا يعول عليها.لقد اوكل الي مكتبي التنسيق الشامل لعملية الملاحظة الدولية، لكني ادركت سريعا بكثير من القلق ان التنسيق داخل مكتبي كان دون المطلوب. وفي نهاية الامر تحول القلق الي غضب وتشكك حين اكتشفت ان وحدة الملاحظة متعددة ميادين الدراسة كانت ترفع تقاريرها الي مكتب الامم المتحدة لبرنامج العراق في نيويورك مباشرة بدلا من ان ترفعها الي منسق الشؤون الانسانية في بغداد كما فعلت وحدة الملاحظة الجغرافية. وتأكد ذلك بعد مرور عام في رسالة خطية: سيواصل رئيس وحدة الملاحظة متعددة ميادين الدراسة رفع تحليلات الوحدة واستنتاجاتها وتوصياتها الي المدير التنفيذي (في نيويورك).من الناحية الادارية لم يكن لهذا مبرر معقول بل كان يعني الكارثة، اذ شكل عقبة لا يمكن الاخذ بها امام ممارسة مسؤوليات المراقبة اليومية بطريقة فعالة. كتبت واتصلت هاتفيا وعقدت لقاءات بشأن هذه المسألة مع كثيرين في بغداد ونيويورك كلتيهما. وقوبلت بالاهمال التماسات مطالبة نائب الامين العام المشرفة علي برنامج العراق، لويز فريشيت، ومسؤولي المباشر، المدير التنفيذي لمكتب برنامج العراق، بينون سيفان باجراء تغييرات فورية. وكان سيفان متمسكا بالقول ان البنية القائمة بنية صحيحة ويجب ان تبقي حيث هي. كما انه استشهد بـ طلب من مجلس الامن مفاده ان المجلس يرغب في ان ترفع وحدة الملاحظة متعددة ميادين الدراسة تقاريرها الي الامانة العامة. ودلني هذا الي ان مكتب برنامج العراق ومجلس الامن كليهما اراد قناة اتصالات مباشرة بين نيويورك وبغداد.وفي وقت لاحق، في شتاء 1999، قمت خلال زيارة الي مقر الامم المتحدة بلفت انتباه الامين العام كوفي أنان الي هذه المخالفة الهيكلية الخطرة. نظر الي متعجبا وقال: هذا امر يصعب تصديقه . وفوجئ حقا برؤية مخطط تنظيمي بين ان احدي وحدتي المراقبة كانت ترفع تقاريرها الي نيويورك مباشرة.اضف الي ذلك ان ادارة مكتب الامم المتحدة الخاص بمنسق الشؤون الانسانية بكاملها في بغداد قامت، كما اكتشفت، ويا لهول ما اكتشفت بعد اسابيع قليلة من تعييني، بارسال تقارير لا الي منسق الامم المتحدة للشؤون الانسانية وانما الي دائرة عمليات حفظ السلام DPKO في نيويورك مباشرة. وقد سارع الامين العام الي اعادة التأكيد علي انه يشاطرني قلقي وسيتخذ اجراء ما بشأن ما لا يمكن وصفه الا بكابوس اداري. ومن سوء الحظ ان هذا الواقع لم يتغير خلال تولي منصبي في بغداد، وبقي مصدرا لا ينتهي للنزاع والاحباط، واستنزف مقدارا كبيرا من الطاقة التي كان ينبغي ادخارها من اجل تطبيق البرنامج الانساني.بسبب فارق التوقيت البالغ ثماني ساعات بين بغداد ونيويورك، كان يوم العمل في مقر الامم المتحدة يبدأ عند اشراف يوم عمل في بغداد علي الانتهاء. وعني هذا ساعات عمل متعبة، وخصوصا لكبار الموظفين في بغداد.كانت ايامنا الطويلة مشحونة بمزيج من الخوف من المجهول والاصرار علي استغلال بيئة عمل متطلبة الي اقصي حد. وكانت تجري في وقت واحد نقاشات مكثفة حول آخر الافتراضات المتعلقة بمكان وجود رئيس مراوغ اسمه صدام حسين او التخمينات المتعلقة بالخطوات التالية في اللعبة الكبري بين واشنطن ولندن وبغداد. وراوحت موضوعات اخري شغلت بال الامم المتحدة بين الاعتقال المفاجئ لموظف محلي وحوادث السير وسوء تصرف موظفي الامم المتحدة.وكان هناك روايات متداولة سرا عن اضطرابات ضد الحكومة في مناطق ذات اغلبية شيعية كما في مدينة صدام، الجزء البالغ الفقرمن بغداد، او في النجف وكربلاء والمجتمعات القبلية في مناطق شط العرب في الجنوب العراقي حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات.وكان مما زاد في انزعاج موظفي الامم المتحدة ضربات جوية امريكية ـ بريطانية منتظمة في منطقتي حظر الطيران علي خط العرض 36 درجة شمالا وخط العرض 33 درجة جنوبا.وكان من حسن حظي انه كان لدي خط اتصال هاتفي خاص بنويورك وجنيف في مكتبي وكذلك في شقتي في منطقة الجادرية ببغداد. ولذلك، لم يكن هناك خوف من ان تفوتني مكالمات هاتفية من كبار زملائي في نيويورك او من مكاتبنا في اربيل والسليمانية في كردستان العراق. وعلاوة علي ذلك، كانت جميع آليات الامم المتحدة في العراق مجهزة بهواتف نقالة لتلافي مخاطر التنصت في الدرجة الاولي وللرد علي مكالمات من مكاتب الامم المتحدة والحكومة والسلك الدبلوماسي في بغداد ووسائل الاعلام. لم يكن لنا مفر من التواصل علي مدار الساعة!كان الانتقال بالسيارة لمدة عشرين دقيقة بين المكتب وشقتي مدعاة للاكتئاب. لم يبق الا قليل مما يمكن ان يذكر المرء ببغداد هارون الرشيد كما كانت في القرن الثامن.7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية