تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (6)

حجم الخط
0

تشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (6)

ظل صدام حسين المتحدر من اصول قروية يحكم العراق كشيخ عشيرةكان الرئيس العراقي مقتنعا بـ القوة الداخلية لشعبه ودعم الشارع العربي لموقفهتشريح العراق: عقوبات التدمير الشامل التي سبقت الغزو (6)د. هانز كريستوف فون سبونيكہ يحكي هذا الكتاب الصادرة ترجمته حديثا عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عن قصة الحصار الطويل الذي فرض علي العراق قبل الغزو، وهي الفترة التي انتقل فيها العراق من مجتمع ثري، مجهز ببنية تحتية حديثة الي بلد مؤلف من شعب فقير ومحروم. ويتحدث الكاتب عن الثمن الباهظ لنظام العقوبات الشاملة، وعجز البرنامج الانساني بتعقيداته الروتينية والبيروقراطية وقيود الميزانية، وتصميم الدول دائمة العضوية في مجلس الامن علي عدم السماح للعراق باستعادة مقدرات سيادته – عن تحسين وضع المواطنين العاديين.حقوق الإنسان في العراقفي اذار (مارس) 2000 طلبت موعدا من وزير الخارجية العراقي محمد الصحاف. كانت هناك لائحة طويلة من المسائل التي اريد بحثها معه. ففي ذلك الوقت كان برنامج النفط مقابل الغذاء، بصرف النظر عن عدم كفايته، يمتلك موارد اكثر من ذي قبل بسبب ارتفاع اسعار النفط. ونتيجة لذلك، كان يجب تسريع تطبيق البرنامج الانساني للاستفادة بشكل افضل من هذه الاموال الاضافية وفي الوقت المناسب. بالاضافة الي ذلك، بدت ملامح التعب الدولي من العقوبات، الامر الذي اعطي الحكومة العراقية املا كاذبا بأن نهاية العقوبات اصبحت منظورة.اردت ان ابحث ذلك واشجع الحكومة العراقية علي التعاون بصورة اكبر مع الامم المتحدة. فذلك ليس الوقت المناسب لكي تبدي السلطات العراقية العناد. مع ذلك واجهنا صعوبات في الحصول علي اذونات الدخول المطلوبة لموظفي الامم المتحدة الجدد، ولا سيما اولئك المعينين في كردستان العراقي. كما واجهنا مشاكل في تسلم اذن اخراج المركبات المستوردة والمعدات والمؤن التي تحتاج اليها الامم المتحدة في عملياتها في العراق. فقد علقت الامم المتحدة في دوامة السياسة العراقية المتعارضة التي تتشدد في كل الجوانب. كان المؤيدون يؤمنون بشدة بصحة مواقفهم ويدافعون عنها مهما بلغت التكاليف. وكان الشعب العراقي يدفع بطبيعة الحال فاتورة استعصاء الموقف. لم يكن من السهل البحث مع وزير عراقي في ادخال تغييرات علي البرنامج الانساني في ظل تراجع حزم العقوبات الدولية.تلقيت مساء 25 اذار (مارس) وكان يوم سبت لكنه يوم عمل في العراق، مكالمة من السفير خلدون الراوي، مدير المراسم في وزارة الخارجية تؤكد موعدي مع وزير الخارجية الصحاف الساعة الثامنة والربع من صباح اليوم التالي. فسألت هل تعني حقا الثامنة والربع؟ اجل اجابني. وقد صدمني ذلك لان الاجتماعات مع المسؤولين الحكوميين نادرا ما تبدأ قبل العاشرة صباحا علي الاقل. اتصلت بسائقي ابو ليث في منزله لاخطاره بهذا الموعد المبكر. كان متأكدا من انني اسأت الفهم. في الصباح التالي وصلنا في الموعد المحدد الي وزارة الخارجية، وكان وصولنا متوقعا بالفعل.اقلني مصعد خاص مخصص للوزير عادة الي غرفة استقباله في الطبقة الرابعة من مبني الوزارة. انتظرت برهة في غرفة يغطيها السجاد بأكملها وتزينها، بالطبع، صورة كبيرة للرئيس صدام حسين وازهار وخزف تصور ثقافة بلاد ما بين النهرين. لم يمض وقت طويل حتي ظهر الصحاف ببزته الخضراء، من باب يربط غرفة الاستقبال بمكتبه الخاص. لكن كان هناك اختلاف في الجو هذه المرة. بدا الصحاف متوترا الي حد ما ولم يبد مستعدا لنوع الحوار الذي كنت اتوقعه. شربنا فنجان الشاي الالزامي وتبادلنا بعض المجاملات، ثم ثبت الوزير الصحاف عينيه علي وقال ان الرئيس صدام حسين يريد مقابلتي.فهمت الآن لماذا طلب مني المجيء الي الوزارة في الساعة المبكرة. هل سيستقبلني حقا الرجل الذي ترافقني صورته كل يوم في بغداد، اينما كنت، لكنه لا يُري شخصيا. هذا الرجل يهيمن علي الحوار بين الدبلوماسيين في بغداد. ويمكن قراءة نصيحته الي الامة في كل طبعة من الصحف المحلية. وهو يحكم العراق منذ ازاحة الرئيس احمد حسن البكر كرئيس لمجلس قيادة الثورة في 15 تموز (يوليو) 1979. وهو لم يلتق السفراء الاجانب ولم يستقبل مسؤولا في الامم المتحدة منذ عقد من الزمن، باستثناء الامين العام للامم المتحدة في شباط (فبراير) 1998. وربما كان هذا الرجل اكثر الحكام الديكتاتوريين الذين شهدهم العالم رهبة منذ وقت طويل.مع الصحافلم يكن هناك وقت للتفكير. بدا كل شيء مرتبا لهذه الزيارة. وقبل ان اتمكن تماما من فهم ما يجري، وجدتني اتبع الوزير الصحاف الي مخرج جانبي لوزارة الخارجية. وهناك كان بانتظارنا سيارة ليموزين داكنة السواد. تقدمت السيارة الي وجهة غير معروفة، من ناحيتي علي الاقل. لم يتسن لي المجال ان اخطر ابو ليث الذي ينتظرني عند المدخل الرئيسي لوزارة الخارجية بأن بوسعه تناول المزيد من الشاي مع اصدقائه في الوزارة.تجاهلت السيارة اشارات المرور وكانت تلقي التحية من رجال الشرطة المذعنين الذين يبدو انهم تعرفوا الي لوحة السيارة، وقادتنا الي مبني الزقورة. وقد سمي نسبة الي المنشآت الشبيهة بالابراج التي كانت بمثابة معابد مهمة قبل نحو 4000 عام، كما في أور مسقط رأس النبي ابراهيم. فتشت السيارة عند البوابة من قبل حرس مسلحين وافراد في المخابرات بلباس مدني غير عابئين بوزير الخارجية. انضم الي مسؤولان عراقيان، احدهما مسؤول في المراسم الرئاسية والآخر من الحرس الأمنيين. من الواضح اننا لم نصل الي مقصدنا. انطلقنا في قافلة بسرعة مقلقة، بالنسبة لي علي الاقل، في بغداد ثم الي ضواحيها. لم يكن لدي فكرة عن الوجهة التي نقصدها ولم اشأ السؤال. بل كان لدي بضع لحظات فقط للاستعداد لاغرب اجتماع اجريه اثناء اقامتي في العراق. وبعد نحو 20 دقيقة، دقائق مقلقة في بعض الاحيان، ولا سيما عند اجتياز التقاطعات، تباطأت السيارتان فجأة عند بوابة كبيرة ومتواضعة. قام حارسان عسكريان بفتحها من الداخل. ومن الواضح انهما اخطرا بقدومنا بحيث انهما لم ينظرا الي من بداخل السيارتين. تقدمت السيارتان ببطء عبر ممر محفوف بمكعبات اسمنتية ترتفع اربعة او خمسة امتار واشجار السنط. كان طريقا طويلا شبيها بنفق بدون سقف. وبعد كيلومتر او نحو ذلك انتهي الي ساحة واسعة. ومن هناك روفقت الي غرفة صغيرة حيث استقبلني ضابط متجهم وطلب مني الجلوس. وتبين انه الفريق عبد الحميد حمود التكريتي، السكرتير الخاص للرئيس صدام حسين. وقد خصصت غرفة اخري للوزير الصحاف.لا اذكر كم مضي من الوقت قبل ان ينهض الفريق حمود فجأة قائلا: الرئيس العراقي مستعد لاستقبالك . حتي تلك اللحظة كنت انا والفريق نبحث في معركة الفاو الشرسة التي خاضتها القوات العراقية والايرانية في الطرف الجنوبي لشط العرب في سنة 1988. سقط العديد من القتلي من الجانبين في هذه الموقعة، لكن العراق تمكن من استعادة المنطقة.عندما خرجت من المكتب الي الممر، وجدتني في مواجهة شخص طويل يرتدي ملابس غربية انيقة. كان الرجل الذي شاهدت صورته آلاف المرات. كان صدام حسين. مد يده ونظر الي بعينين ثاقبتين. وقال بالانكليزية مرحبا . كان ذلك بالضبط ما رواه صديق عراقي عن اجتماعه بصدام حسين.دخلنا قاعة استقبال كبيرة مفروشة بمقاعد وكراس وطاولات ذهبية شائعة جدا في المنازل الميسورة في الشرق الاوسط. وكان الوزير الصحاف ينتظرنا في الطرف البعيد من القاعدة. كان هناك شخصان آخران حاضران، هما مترجما الرئيس. عندما دخل تجمد الجميع. ران علي المكان صمت تام الي ان طلب منا الرئيس الجلوس. كنت علي يمينه مباشرة، وكان الاخرون علي مسافة ابعد قليلا. نظر باهتمام الي زائره وكرر الترحاب بالعربية هذه المرة. كانت تلك كلمات ودية لكن صوته بدا باردا وخلا وجهه من التعابير. شكرته وتابعت الحديث لأعرف ان كان بوسعي اختراق القناع الذي بدا ان مضيفي يرتديه. قلت: انني ادرك يا سيادة الرئيس انني اثير المشاكل في تولي مسؤولياتي كمنسق للامم المتحدة في العراق ! وقد حققت هدفي. نظر الي مندهشا. لمن كنت تثير المشاكل؟ من الواضح ان وزير الخارجية لم يشر الي ذلك في الموجز الذي قدمه اليه عني. ارتسمت علي وجهه ابتسامة عابرة تلتها دعوة لأشرح له كيف اري الاوضاع في العراق. كان ذلك طلبا طويلا. فهناك الكثير مما يمكن ان اقوله لرئيس الدولة عن السكان الذين يعيشون في ظروف غير انسانية. هل تحدثت عن وحشية النظام؟ وانتهاكات حقوق الانسان؟ واسلحة الدمار الشامل؟ وحملة حلبجة والانفال سنة 1988 في شمال العراق او محنة عرب الاهوار في جنوب العراق؟ ومعاملة رجال الدين الشيعة؟ لا، لم افعل ذلك. ولم انتهز الفرصة لانتقاد السياسات الامريكية ـ البريطانية او عمل مجلس الامن الدولي. ربما كان مثل هذا الانتقاد يخفف من احباطاتي لكنني اعرف انها لن تحدث فرقا. بدلا من ذلك قررت ان اتوجه الي المشاكل التي تتعلق بشكل مباشر ببقاء الناس علي قيد الحياة وعدم كفاية برنامج النفط مقابل الغذاء. وشمل ذلك الحاجة الي زيادة تمويل التعليم، ووضع شباب العراق الذين هم الاكثر تعرضا للعقاب الناتج من النزاع والحاجة الملحة الي قيام الحكومة العراقية والامم المتحدة بالغاء بيروقراطية البرنامج.سمعت ان صدام حسين يمكن ان يكون مستمعا جيدا. وأتيحت لي الفرصة للتحقق من ذلك. لاحظت مدي اهتمامه بمتابعة ما اقول. كان المترجمان ينقلان من الانكليزية الي العربية والعكس، ويتناوبان علي ذلك كل خمس دقائق. وكان صدام يتدخل بين الحين والآخر ليصحح ترجمتهما. شعرت بالتسلية، وتساءلت ما إذا كان وجودهما زائدا علي الحاجة، فقد بدا انه يفهم كل كلمة اقولها بالانكليزية، او علي الاقل اراد الا ينسي احد، حتي في هذا الوضع، من هو الزعيم. وقد افادني ذلك في كسب بعض الوقت للتأمل فيما اقوله ثانية. وعندما فرغت من مراجعة الوضع الانساني والبرنامج الانساني وعيوبه، كنت متلهفا لان اثير نقطة مهمة جدا بالنسبة لي. اخرجت من جيب بدلتي ما احمله معي دائما: ميثاق الامم المتحدة والاعلان العالمي لحقوق الانسان وعرضتهما علي الرئيس صدام حسين. هذا هو يا سيادة الرئيس الاساس الذي انقد عملي وفقا له . لم اكن واثقا مما اذا كان قد فهم ما اردت ان انقله اليه، وتحديدا ان هذه ادوات عالمية ينبغي علي جميع الاطراف، بمن فيهم هو نفسه، الالتزام بها.اجاب صدام حسين بالقول: ما قلته لي ليس رسالة صغيرة، لا سيما انها تأتي من فرد لا من مؤسسة . وتبع ذلك عرض طويل ومفصل من قبل صدام حسين عن الوضع في الشرق الاوسط وانه يأسف لان القوات الاجنبية قسمت حكومات الامة العربية غير ان الامة العربية تدعم النضال العراقي . وفوجئت عندما نظر الي وقال: أريد ان اشكرك مرتين، الاولي علي ضميرك وقلقك علي الشعب العراقي، والثانية علي الأمل الذي تقدمه للعراقيين بأنهم ليسوا وحدهم في نضالهم . واشار الرئيس ايضا الي ما اسماه القوة الداخلية للشعب العراقي وقناعته بأنه سيتغلب علي جميع العقبات التي تواجهه. وعندما ابلغت الأمين العام كوفي عنان عن هذا الاجتماع الذي تبين انه استغرق 90 دقيقة، اشرت الي ان صدام حسين بدا مسترخيا ومتأملا وفلسفيا، وغالبا ما استعمل لغة لينة ومرحة. وقد ابلغني صدام حسين في معرض حديثه انه قرر انني وعائلتي لن نحتاج الي فيزا لزيارة العراق وتابع قائلا، ولن تخضع امتعتك للتفتيش . عبرت عن شكري لهذه الالتفاتة الرئاسية لكن لم يسعني الا ان اسأله كيف سيتم التعامل مع امتعتي الفكرية .لم يكن وزير الخارجية الصحاف قد قال شيئا حتي الآن. ولم يفش وجهه ما اذا كان يعتقد بأنني تماديت في مداخلتي التهكمية الي حد ما. علي اي حال، طمأنني صدام حسين بابتسامة عريضة بأنه لن يتم التعرض لمتاعي الفكري ايضا.لم اعد اذكر كيف دخل موضع الوزن الزائد الي حوارنا. فقد اعتقد صدام حسين ان من المهم ان اعرف بأنه اصدر امرا بألا يزيد خصر اي من اعضاء الحكومة، وكلهم من الرجال، عن مقياس معين، وأوضح مبتسما ان طارق عزيز حقق ذلك بصعوبة . كان بوسعي التفكير بآخرين في حكومته لا يستجيبون لهذا المعيار مثل طه ياسين رمضان، احد نائبي الرئيس الذي يتميز ببروز بطنه والمسدس الأسود الذي يزين بشكل مخيف بدلته العسكرية.كان هذا الرجل يملك هالة الزعامة، ويتحدث بثقة عن المعركة التي يخوضها شعبه والتي سيخرج منها مظفرا في النهاية. بدا عقله التحليلي والواضح ظاهرا عندما نقل الي زائره احساسه بالتاريخ. وهو الرجل نفسه الذي يقف متهما بارتكابه اعمالا وحشية لا يمكن تخيلها. لم يبد ذلك القاتل الذي تسبب بموت الآلاف، او من اباد بالغاز ابناء بلده من الاكراد بمن فيهم النساء والاطفال. لقد ابلغنا بأنه اطلق النار شخصيا علي اعضاء حزب البعث الذين لم يعد يعتبرهم مخلصين له، وأمر بتعذيب كل من بدا انه ينتهك قوانينه ، وانه عاقب عائلات الفارين من الجيش بأكملها وارتكب انتهاكات اخري غير معروفة لحقوق الانسان في العراق، يعاونه في ذلك ولداه عدي وقصي. لم يخطر ببالي في ذلك الوقت ان الثياب الغربية الحديثة التي كان صدام حسين يرتديها تكسو رجلا اصله من قرية صغيرة تدعي العوجة، علي مقربة من مدينة تكريت الشهيرة وانه لم يتخل قط عن ارتباطاته العشائرية. ومع انه يأتي من خلفية متواضعة واسرة فقيرة، قاده اندفاعه والتزامه العميق بالوطنية العراقية والقومية العربية لأن يصبح رئيس العراق في سنة 1979 وهو بسن الثانية والاربعين. وبقي طوال السنوات الاربع والعشرين التالية زعيما يحكم كشيخ عشيرة اكثر منه كرجل دولة معاصر.تروي قصة توضح ان صدام حسين في بغداد بقي دائما الرجل ذا العقلية العشائرية القادم من الريف. في اوائل سنة 2003 دعا صدام حسين الي العراق سفراءه في 50 بلدا تقيم علاقات دبلوماسية مع العراق. التقي اثنان منهما، الدكتور محمد الدوري، سفير العراق الي الامم المتحدة في نيويورك والدكتور سمير النعمة الذي يمثل العراق كسفير الي الامم المتحدة بجنيف، صدام حسين بحضور وزير الخارجية آنذاك ناجي صبري الحديثي والسفير الدكتور مظفر أمين، رئيس قسم رعاية المصالح العراقية في السفارة الاردنية بلندن. ابلغ السفيران الي الامم المتحدة صدام حسين ان العراق لم يسدد ما يستحق عليه الي الامم المتحدة منذ عدة سنوات، ونتيجة لذلك فقد حقوقه بالتصويت. فسأل صدام حسين، وكم يتوجب علينا . وكان الجواب سبعة عشر مليون دولار . التفت صدام حسين الي وزير خارجيته وقال ادفعها يا ناجي . واغلقت القضية بالنسبة الي صدام حسين. كان العراق يمتلك هذه الموارد بالفعل ويريد دفع مستحقاته الي الامم المتحدة لكن الحكومة الامريكية حالت دون ذلك سنة اثر سنة. اخيرا في كانون الاول (ديسمبر) 2000، اقر مجلس الأمن بموافقة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة استخدام 15 مليون دولار من عائدات النفط العراقي لتسديد متأخراته. ومع ذلك حالت هاتان الحكومتان في النهاية دون تطبيق قرارهما!بعد التقاط الصور رافقني صدام الي السيارة التي تنتظرني وتصافحنا. وقد حررتني نظراته الثاقبة وانطلقت السيارة مبتعدة. كانت تماثيل صدام حسين الموضوعة في اماكن استراتيجية من بغداد اكبر عدة مرات من البشر العاديين. وكان المقصود بذلك تذكير الجميع، عراقيين وغير عراقيين، بأنه لا يمكن ان يقارن بالبشر ذوي الحجم العادي. كانت صوره معلقة في كل مكتب وملصقات صوره في كل زاوية وركن، والتماثيل الحجرية والصور الفسيفسائية والجداريات امام كل مبني حكومي من مدخل معرض بغداد التجاري الي نصب الرشيد الحربي. وكانت صوره تراقبنا في فندق الرشيد ومستشفي اليرموك العام وجامعة المستنصرية وغيرها من الاماكن. فجأة بعد لقائنا، اصبحت هذه التجليات لرجل فقد الاتصال بشعبه، وآثر العزلة للمحافظة علي حياته، ذات وجه مألوف بالنسبة لي. طاردني الوجه وكذا ما اذا كان يمكن اقناع هذا الرجل، ولو بعد سنوات من الديكتاتورية، بتغيير اتجاهه واتباع الاتفاقات والمواثيق والاعلانات الدولية التي وقعت عليها حكومته وصدقتها من أجل رفع نير الاضطهاد عن شعبه.هل حاول المجتمع الدولي بما فيه الكفاية؟ وهل عليهم مواصلة مسعاهم علي الرغم من الادلة علي الكثير من الاخطاء والمزاعم بارتكاب اسوأ الجرائم ضد الشعب العراقي والبشرية؟في حزيران (يونيو) 1991، عينت الامم المتحدة ماكس فان در ستويل وهو وزير خارجية دانمركي سابق، اول مقرر خاص للجنة حقوق الانسان الخاصة بالعراق. وقد حاول فاندر ستول حتي استبداله في سنة 2000 باندرياس مافروماتيس وهو وزير خارجية سابق لقبرص، احداث تغييرات في وضع حقوق الانسان في العراق من خلال تقاريره والضغط الناتج من اجل التغيير. لكنه فشل للاسف بسبب قراره الالتزام بشدة بالحدود التي وضعتها الامم المتحدة لهذه المهمة الصعبة وعناد السلطات العراقية.لقد نظر اندرياس مافروماتيس الي حقوق الانسان في سياق مختلف عن الانتهاكات الحكومية فحسب. وبالتالي تجنب علاقات التصادم مع بغداد التي فاقمها فاندر ستول فوجد استعدادا اكبر للتعاون من قبل حكومة صدام حسين. وكان يذكر المجتمع الدولي باستمرار بأن العقوبات الاقتصادية تديم الافتقار الي حقوق الانسان في العراق. وقد طمأن ذلك العراقيين بأنه لا يسعي الي تنفيذ اجندة موضوعة مسبقا.جري تمرير عقوبة الاعدام من دون تردد، لا علي المتهمين بنشاط ارهابي او الفرار من الجندية فحسب، وانما ايضا علي الاشخاص الذين يسيئون التصرف سياسيا، بمن فيهم الذين يخفون عمدا.. الارتباطات السياسية السابقة والانتماءات . ويبدو انه تم تغطية كل وضع محتمل بأحكام العقوبة القانونية اللاانسانية.في اعقاب حرب الخليج 1990، جري تشديد هذه القوانين التي علي الشعب العراقي التزامها. وقد وافق البعثيون علي ذلك دون تردد. واشاروا الي ان العراق اجبر، اثناء سنوات العقوبات الاقتصادية والحظر العسكري ومنطقتي حظر الطيران، علي العيش في حالة حرب. وارجعوه الي ما يقوم به جيران العراق، وبخاصة ايران والكويت والولايات المتحدة، من اعمال معادية ومخلة بالسلام. ورأوا ان انعدام الامن الناشئ في العراق، بما في ذلك معدلات الجريمة، لم يترك للحكومة خيارا سوي ادخال تدابير قاسية كتلك التي تعكسها المراسيم الرئاسية. وقد طبقت هذه المراسيم لتحذير السكان من ان علي حكومة صدام حسين ان تكون قاسية من اجل المصالح الاوسع للأمة. ورأوا ايضا ان قوانين العراق المماثلة للشريعة، والتي تشمل بتر الاطراف او الفلقة (الضرب علي باطن القدمين)، لا تختلف عن تلك التي تطبقها الحكومات الاخري في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية.لا يمكن ان تكون ظروف الحالة الطارئة في العراق وممارسة بلدان اخري في الشرق الاوسط هذه القوانين غير الانسانية عذرا للحكومة العراقية في اعمالها الخاطئة والخطرة ضد شعبها.من المبكر جدا التوصل الي فهم نهائي ومحدد لمقدار الجرائم التي ارتكبتها الحكومة ضد السكان المدنيين. ومن المبكر ايضا تحديد عدد الضحايا، القتلي او الذين لا يزالون احياء. ولا شك في انه ستجري ابحاث في السنوات المقبلة لمعرفة اعداد الاكراد الذين تمت تصفيتهم او نقلهم ، وعدد الضحايا الشيعة، وعدد المعدان (عرب الاهوار) الذين نقلوا او قتلوا، وعدد التركمان الذين أبعدوا عن اراضيهم او اعدموا، باعتبار ذلك مكونا ضروريا من مكونات عملية المصالحة الوطنية الصعبة.مع ذلك، ثمة عدد من الاستنتاجات التي يستطيع المرء التوصل اليها. اولا، لم يكن الشعب العراقي وحده يعيش في حالة خوف دائم، بل كانت الحكومة العراقية تعيشه ايضا. وذلك من الاسباب التي ادت الي وضع هذه القوانين القاسية والجائرة.ومن الخطأ بالطبع القول انها طبقت علي الجميع باستثناء السنة. فقد كان كل من يظهر شيئا من المعارضة لحكومة صدام حسين، بمن فيهم السنة، يواجه عقوبات قاسية.وكانت شبكة المخابرات متعددة الطبقات تغطي كل من يعيش في العراق، بمن فيهم الاجانب بالطبع. ومن العواقب الاخري لهذه السياسة التي تشمل الجميع ان من المتعذر الحصول علي ادلة ملموسة عن الاساءة لحقوق الانسان في العراق.كان جزء كبير من صورة حقوق الانسان التي يقدمها فان در ستويل تتعلق بمأساة ابعاد الاكراد عن اراضيهم. وقد نتج عن ذلك تشريد العديدين الي واحدة من محافظات دهوك واربيل والسليمانية او نقلهم الي جنوب العراق الي مناطق بعيدة عن الموطن الكردي التقليدي. واشير الي الهجوم الذي شنته في 1987 ـ 1988 القوات العراقية علي البلدات والقري الكردية في ما اصبح يعرف باسم حملة الانفال كمثال رئيسي علي معاملة صدام حسين الوحشية لشعبه. وليس هناك ادني شك في الاعمال الوحشية التي ارتكبتها الحكومة العراقية ضد الاكراد في السنوات السابقة علي فرض العقوبات الاقتصادية. وهناك وثائق كافية للحكومة العراقية تمثل ادلة ادانة ذاتية.ويجب الا تحرفنا هذه الاشارة عن وحشية تعامل الحكومة مع حملة الانفال بل تسلط الضوء علي الحاجة الي مزيد من الابحاث في هذه الفترة من التاريخ العراقي.7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية