العيون الأربع التي يمتلكهُا، المجتمع الإقليمي؛ خاصّةً العربي منه، والمجتمع الدولي، اتسع بؤبؤها، وهي تُراقِبُ ثورة تشرين العراقية. رأت تلك العيون الأربع، ما قام بهِ الشارع العراقي، وبالتصرفِ في مفرداتِ، المشتغل بالحقل السياسي الأكاديمي؛ ستانلي هوفمان، أنهُ كان متوقعاً: نتيجة غازات دفيئة الفساد ومكابس الطائفة.
تَعَقَّدت رؤية المشهد التشريني على عيون العالم، بسبب القنابل المُسيلة، لوسائل الإعلام العراقية، والتي تحترفُ تعبِئة مفرداتِها في عبوات: «التكتيكية» حسبِ وصف ليا لفرو في كتابِها (وسائل الإعلام الجديدة والناشطة). نُطلق نحنُ في العراق، على هذا الفن التكتيكي، بعد مزج وسيلة الإعلام، ومحترفيها: الأبواق الإعلامية. سليم عزوز، الإعلامي المصري، أطلق على المشتغلين، بهذا الفن التكتيكي في بِلاده: «المتحوِّلون». التطبيقُ العملي لمهنة التبويق، كان اتهامُ الناشطين العراقيين، بـ: الجوكريّة- نسبةٍ إلى شخصية الجوكر، مِنَ القصص المصوّرةِ الأمريكية. المُفارقةُ الوقِحة، أن الاستخدام البريء لهذهِ الأيقونة السينمائية، جرى استغلالهُ أيضاً، لخلق جوكر مضاد؛ أُطلق عليه متبنوه من الأحزاب والميليشيات الإيرانية، وصف «الطرف الثالث». ما على المهتم إلّا أن يذهب إلى السوشيال ميديا، ويرى الزُمرة الإعلامية والثقافية التي ذرفت دموعاً ساخنة لفترةٍ طويلة، على تدنيس أيقونة الجوكر لساحة التحرير!
المجتمع العالمي
صدمة المجتمع العالمي، جاءت حسبِ رأيّي، مِنْ أن الشارع العراقي، لم يقم بتنصيب محاكمة تاريخية، في ساحة التحرير؛ وسط العاصمة، لمساءلة بارونات وكونتيسات الطوائف؛ فقط، عن ادائِهم طيلة الستة عشر عامّاً، بل حتّى اللاعب المُقدّس.. مؤسسات العراق الدينية؛ الإسلامية تحديداً، بعد أن أدرك الشارع، حقيقة الأدوار المصلحية، لِمن يمسِكون بـمكابس الطائفة، المُشَحَمةُ بمالٍ سياسي، عابرٍ للحدود الوطنية.
هكذا فإن قنابل الإعلام «التكتيكي» ورمادية الخِطاب الديني؛ شوَّشت رؤية الأداء التشريني للمواطن العراقي، لتحجب رؤية المراقب الخارجي، عن ما خَلُص إليه أحد المؤرِّخين، نقل زميلهُ؛ جون لويس غاديس، عنه: خَلُص ماكنيل في قولٍ لو سمعهُ هنري آدامز لأدهشه، إلى أن: أشكالاً جديدة مدهشة من السلوك الجمعي تنشأ مما تبدو مظاهر تلقائية بمستويات متزايدة من التعقيد.
هذهِ الثورة، حرصت على أن تنسِب نفسها للعراق، بشكلٍ واضح وصريح، وأن لا تسمح بتسييلِ رصيدها، كأسهُمٍ في بورصةِ شيخ عشيرة، رجل دين، لاعب سياسي. حتَّى ثورة العشرين العراقية الشهيرة، وحسبِ شهادةِ مُعمِّرٍ عراقي؛ عمرهُ 126 عامّاً، من آل الحساني، التقيتهُ في جنوب العراق؛ محافظة المثنى تحديداً، سنة 2011، كان مُصِرّاً، إن هذهِ الثورة، لم تندلع، نتيجة مناشدةِ مؤسسةٍ دينية ما، وإنّما من أجل شيخ العشيرة. لا أريدُ هنا، المُضاربة برصيد ثورة العشرين، في التاريخِ الجمعي العراقي. أحببتُ فقط أن أُبيّن، إنّ ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، لا يمكن اختِزالُها برؤيةٍ غيرِ عراقية.
بين اختزال الشاشة وشفرات التاريخ
اختِزالُ ما يجري في ساحة التحرير، بتحويلِ العراقي إلى مسرحِ عرائس، وافتراضِ أنَّ حقائِق مُعيّنة دون غيرِها، هي من تُحرِّكهُ بلا شريك، ليس مُنصِفاً. المراقب الخارجي في يومِنا هذا، يسمعُ ويرى، عبر السوشيال ميديا، بل إن قراءاتهِ للكتب والبحوث الخاصّة بحضارةٍ ما، تأتي لتوفير الأزرار لثوبِ الحدث السوشيالي. لا يهمُها أبداً تزنيرُ الحدث بشكلٍ مُحكم، بواسطةِ خيوط التاريخ، وإنما تجميلهُ بمعلوماتٍ مُبتسرة. ثوبُ الثورة، صُنِعَ من نهاياتٍ غير محسومة لحُقبٍ مُختلِفة من التاريخ العراقي. هذا الثوب لم تصنعهُ نبوءة أمبرتو إيكو؛ في مقالٍ صحافي، صدر له في عام 1967، تنبأ فيه، حسبِ ليا ليفرو: أن الثقافة الإعلامية سرعان ما ستطلب من الجماهير المشاركة في حرب عصابات سيميولوجية: ما يجب أن يُحتل، في كل جزء من العالم، هو الكرسي الأول أمام كل جهاز تلفزيون (وبطبيعة الحال، كرسي قائد المجموعة أمام كل شاشة السينما، وكل راديو ترانزستور، وكل صفحة من أي صحيفة)… فالمعركة من أجل بقاء الإنسان بوصفهِ كائناً مسؤولاً في عصر الاتصالات لن يتم رِبحُها عن طريق أين تنشأ الاتصالات، ولكن أين تصل. لهذا السبب يُحذِّرُ ريشار لابيفيير من وسائل الإعلام؛ خصوصاً التلفزيون: إنَّها مجردة من الذاكرة، وتعمل خارج أي منظور تاريخي. ينبغي للصحافي أن يلتزم مهنياً بإدراج عمله في السياقات التاريخية، في التاريخ بصيغة الجمع. هذا أمر حتمي: إذا غاب التاريخ غابت الحقيقة.
المُراقِب الخارجي للعراق، وهو يرومُ تدبيجَ مواضيعٍ صِحافية، أو أبحاثٍ جزئية، مشغولٌ باستعراضِ آثارِ رمي حجر الفلاسِفة الجديد.. العولمة في مُحيطات القيم التي تسبحُ فيها أرواح مجتمعات العالم الثالث، يحاولُ- عندما نستعينُ بكلماتِ جون لويس غاديس، أن: يُبرز الصفة المميزة للحداثة العالية، أي عدم الاكتفاء بمحاولة جعل مشهد ما وشعبه قابلاً للقراءة، بل جعل مستقبلهم قابلاً للقراءة. إذاً نستطيع القول، أن هذا الخارجي، يرتفعُ إلى سماء التحليل، مُعانِداً جاذبيةَ الخطر الذي حذَّر منه مارك بلوخ: مِن الخطر دائماً أن نرتفع إلى مستوى الملاحظات الأزلية بالاعتماد الحتمي على لحظةِ وجودِنا القصيرة في الزمن.
الخارجيُ هذا، لا نقصدُ بهِ الآخر، البعيد تماماً عن حدودِ وطنِنا العربي، وقارّتِنا الآسيوية؛ فقط، وحيثُ غالباً ما نترجِمهُ إلى الأوروبي والأمريكي الشمالي. هو كذلك: العراقي، العربي، والآسيوي. العراقيُ- هنا أضربُ مثلاً عن باحثٍ عراقي سياسي- أغرق ثورة تشرين في صحوةٍ مُفاجِئة لِما اطلق عليها: صحوة الشيعيّة الوطنية. العربي؛ وجد أن ما قام بهِ الشيعي العراقي، مِن حرقٍ لصور خامنئي، وحرق القنصليات الإيرانية، دليلاً على شرِّ النظام الإيراني الذي لا يُطاق، حتَّى من المعتنقين للمذهب نفسه، ولأنهُ أراد أن يُشارك الشيعي العراقي، في تكذيبهِ رواية إيّرنةِ العراق، انتابتهُ ذِكرى حقيقة إنَّ هذا الكائن عربي. أمّا الآسيوي، غيرُ العربي وغيرُ الإسلامي، وبِجُردةٍ عمومية، يبحثُ عن موقعٍ أفضل لمصالحهِ في البلاد، بغضِّ النظر عن أيّرنةِ، أو أمركةِ العراق.
الصِحافية الفرنسية، إليس بسيريني، والتي انتجت مُعايشتِها، لأجواء الحصار الدولي على العراق، سنتين كاملتين؛ كتابَها، الحامِلُ لعنوانٍ فرعي (الحرب الممتدة التي لا تعرف لها اسماً). استشهدت بملاحظةٍ لكاتبةٍ غربية: إنَّ العراق لا يتحرك إلا من الداخل، ويشهد بذلك تاريخه ولا يمكن لأي تدخل خارجي أن يتجاهل تلك الحقيقة. الأهم أن بسيريني، وبمعاونة واحدٍ من أبناءِ بِلادِها؛ الدكتور ميشيل جولي، المُنتدب من قَصرِ الإليزيه، حينها، لكتابةِ تقريرٍ عن حالة الشعب العراقي، المهروس بِمطارق الحِصار، وجدت أنَّ تقييمات جولي، تستأهلُ كثيراً من سطورِ كتابها.
الملاكم العراقي
استعيرُ هنا، اسم الملاكم العراقي الشهير؛ إسماعيل خليل، كي يكون- على الأقلِّ بالنسبة لي، اسماً حركياً، للمواطن العراقي. إنَّ كلاً من اسمِ إسماعيل، وخليل، يتواجدان في تسميات المكوِّنات العراقية؛ الدينية والعرقيّة، لأبنائِها، بل إنَّ الفرد من قوّة الدَرَك العراقية، يُضفى على الواحدِ منهم، كُنية: أبو إسماعيل. أمّا الفرد المنتمي إلى مؤسسة الجيش العراقية، يُكنَّى بـ: أبو خليل. هاتين الكنيتين، تنطلِقان، من علاقة الدَرَكي الوثيقة بالقانونِ والعدالة، والثانيةُ ممّا أبداهُ العراقيُ من استبسالٍ في حرب 1948، دفعت شقيقهُ الفلسطيني إلى تكريمهِ بهذهِ الكُنية.
إنَّ إسماعيل خليل؛ ذلك الذي هدر صوتهُ في كل ساحات الثورة العراقية، رفض أن ينطبق عليه حالُ نُظرائهِ. وصف كرين برنتون، حالَهُم- يقصِدُ البريطاني، الفرنسي، والروسي- في كتابهِ (دراسة تحليلية للثورات): جون جونز، جاك ديبون، وايفان ايفانوفيتش، رجل الشارع- لم يعد في الاعتبار- فهو عندئذٍ يُترك وشأنه ليمارس دور المتفرج العادي. إنَّ إسماعيل خليل- وبالعودة إلى قاموسِ مُفردات- المؤرِّخ غاديس- رَفَضَ أن يستمر بلعِبِ: شخصية زيليغ التي قدّمها وودي آلان في أحد أفلامه، وهو شخصية طيّعة جدّاً، تواقة لإرضاء الآخرين، قابلة للقراءة إلى درجة أنه يبدأ في انتحال هويات الشخصيات الأقوى من حوله، بل مظهرهم الخارجي.
رَفَضَ أن يحكمهُ أبطالُ كلٍ من المؤسسة الدينية، السياسية، والعسكرية. نقصدُ أولئِكَ الذين يشبهون في سيرةِ حياتهم الاقتصادية، نجوم الروك؛ يستقلون ليموزين بطولِ ستّةِ أمتار، لكنهم يرتدون بنطلون جينزٍ مُمزق. الدينيون في العراق، يمتلكون الأموال الطائلة، في سلالٍ مُختلفة من العُملات النقدية، لكنهم يسكنون في بيتٍ متواضع، لأجل التقية الماليّة. أمّا السياسيون، فقد حلّوا علينا بوجهٍ أصفر، وبمُفرداتٍ ركيكة. يحمرُ بعدها الوجه، مِن بيت مال المساكين، وينتعشُ اللِسان، بأهازيج الطائفة والمظلومية. أخيراً؛ العسكريون، كانوا في البدء، بطناً ليست بالكبيرة، وشَعراً أبيض؛ هنا وهناك، بعدها يختفي البياض، ليحتل السواد، الشوارِب والشَّعر، مُبقياً سجلهُ، أبيض ناصِعاً من المآثر العسكرية!
الأكاديمي العراقي؛ حافظ علوان حمادي، ينقلُ عن تشيسترفين، ما يصلحُ هنا، أن يكون وصفاً، للخطوة التشرينية، لإسماعيل خليل: قد يولد الناس ولديهم توق إلى الحرية الشخصية إلا أنهم لا يولدون ولديهم معرفة بالترتيبات الاجتماعية والسياسية التي تجعل التمتع بالحرية أمراً ممكناً لهم ولأولادهم، مثل هذه الأشياء ينبغي اكتسابها ينبغي تعلمها.
صاحبُنا التشريني، هو يُصارِع ضِدَّ إرث اللادولة، الفوضى، وضِدَّ ما وصل إليه آباؤه من حالٍ، وصفهُ جولي، وسجَّلهُ كِتابُ بسيريني: لا شيء يحمل الشعب العراقي على التخيل والابتكار وبناء مستقبله، فلا تنتظر منه جهداً خارقاً ينقذه مما هو فيه؛ لأنه استقر في حالة بطالة وتعطل عن العمل ومعاناة، فلا شيء ينقذه من هذا المستنقع الذي وضع فيه سوى رفع العقوبات في ظروف تتسم بالود حتى يتمكن من استعادة نشاطه وحيويته.
إنّي أدعو المثقف العراقي، المجتمع العربي والدولي، إلى أن يسمع صوت إسماعيل خليل، بإنسانية. أن يعترف الجميع، أنهُ يعرِفُ ما يتحدث عنه، وليس مِثلَ جون كيغان، مؤرِّخ معارِك أجنكورت، ووترلو، والسوم، والذي اعترف في كتابهِ (وجه المعركة): لم أشهد معركة قط، ولم اقترب من معركة، ولم أسمع واحدة من بعيد، ولا رأيت مُخلَّفاتِها.
اختِمُ مع غاديس، وعمّا تعنيه محاولةُ إسماعيل خليل التشرينيّة، لامتلاكِ وعيه التاريخي الخاص: يمكن اعتبار الوعي التاريخي الجمعي شرطاً لمجتمع صحّي متكامل بقدر ما نعد التوازن البيئي السليم لازماً لغابة صحيحة وكوكب صحيح.
كاتب عراقي