من أشد المفارقات ألا تُحدِث الثقافة أو المعرفة تحوّلاً في وعي المثقف، فلا تجعله يدرك أين تكمن الحقيقة، والأهم العدالة، بل يتخلى عن المنظور القيمي لصالح الذاتي؛ ما يعني في المحصلة الإجهاز على المعنى الحقيقي للثقافة، وتصدّع المثقف.
إن وجود المثقف منوط بالقدرة على تبني الحقيقة الأخلاقية، التي ربما تؤدي إلى تداعيات نتيجة الموقف، وهنا نسترجع مبدعين ومثقفين، ولاسيما من الروائيين العرب منهم: غسان كنفاني، وعبد الرحمن منيف، وصنع الله إبراهيم، وغيرهم من الذين جعلوا من إبداعهم – بصيغه الفنية المتقدمة – جزءاً من وقائع الحقيقة الأخلاقية، بغض النظر عن التداعيات. وفي سياق الوعي نستذكر الروائي الأمريكي جيمس بلدوين الذي عانى من الاضطهاد العنصري، الذي مارسه البيض تجاه الأمريكيين الأفارقة، إذ يشار إلى أنه في بداية حياته توجه إلى دولة الكيان الصهيوني، داعماً لها نتيجة التضليل الإعلامي والأيديولوجي، ولكنه سرعان ما وقف على الحقيقة عبر وعيه الثقافي المدعوم بالمعنى الأخلاقي، كما المعرفي، ليتحول في ما بعد إلى أكبر الداعمين والمناصرين للقضية الفلسطينية، غير أن المعضلة حين يعجز بعض المثقفين العرب عن رؤية الحقيقة، أو بمعنى آخر يتعامون عنها كي يتماهوا مع موقف يفتقر إلى الصواب على المستوى الإنساني.
ولعل المثقفين العرب من أكثر المثقفين الذين تتملكهم الرغبة في التكريم، والاعتراف المؤسسي، غير أن المشكلة تكمن في القدرة على المحافظة على نوع من الاستقلالية والأصالة تجاه أفكارهم، وتوجهاتهم، كما المواقف التي يتخذونها، فجزء كبير من المثقفين في تكوينهم يعدون نتاج المؤسسة أو السلطة، التي يدينون لها في تعريفهم بوصفهم مثقفين، أو مبدعين، ولهذا فإن خطابهم لم يتجاوز تلك الأطر التي تتبناها الدولة، حفاظاً على الامتيازات التي تتيح لهم تمثيل المؤسسة، علاوة على تحصيل أكبر قدر من التكريمات، فضلاً عن امتيازات تافهة.
ولعل هذا النمط من المثقفين يبقى هامشيا لا يمكن أن يعول عليه، فهم يبقون مأجورين لوعي المؤسسة التي تحتاج إلى وجودهم الوظيفي من أجل ظاهرة الثقافة المؤسساتية. غير أن ثمة نوعاً آخر من المثقفين الذين يتوقعون من وجودهم أن يكون مؤثراً، ولاسيما المبدعين الذين حققوا شيئاً من الإنجاز على مستوى الحضور، ولكنهم مع ذلك لا يمكن أن نعدّهم مثقفين حقيقيين، لا على المستوى الفني ـ في بعض الأحيان- بل على المستوى القيمي، ولاسيما إذا حصل أو تحقق انفصال بين خطاب المثقف ووعيه القيمي الإنساني، من أجل غاية تكريس وجوده الذاتي، أو بداعي البحث عن اعتراف من لدن الآخر نتيجة عقدة ما زالت قائمة لدى عدد كبير من المبدعين العرب، الذين يلهثون خلف الرعاية الغربية رغبة منهم في الحصول على جائزة هنا أو تكريم هناك، أو للبحث عن ترجمة أعمالهم لتحقيق حلم سخيف يُدعى «العالمية» لنخلص إلى قصور في تعريف العالمية التي ترتبط بقوة الحضارة التي تفرض على الآخر الاهتمام بما تنتجه لدواعٍ أخلاقية، وغالباً ما يشوب الاهتمام الغربي شبهات بما يكتب في العالم العربي، حيث يعتني الغرب بنماذج تتسق مع متخيلهم الاستشراقي، ومن أجل هذا الاعتراف المشبوه يتخلى بعض المثقفين عن مبادئهم رغبة في ممالأة الغرب على حساب قضايا أمتهم، بل ربما على حساب دماء الأطفال، والنساء.
حين يلجأ المثقف إلى توظيف معرفته أو إبداعه من أجل التدليس والنفاق، بالإضافة إلى تبني خطاب مغلوط مفضوح على الملأ، فيحاول أن يبني وجوده البائس على دماء الآخرين مستغلاً ما يحصل من مآس، وشعوب مقهورة تاريخياً، فالمبدع الذي بدأ كتابته بالدفاع عن الشعوب المستعمَرة، التي حاول أن يدعي أنه ناطق باسم قضاياها حين اقترب من الاهتمام الغربي سرعان تنكر إلى هموم أمته.
ولعل الأمر يكون أكثر جدلية حين تكون القضية محورية أساسية، كما يحصل الآن حيث المذابح والإبادة في فلسطين فيتنكرون إلى الحقيقة عبر مهاجمة المقاومة، وشرعية وجودها، وكأنهم يتحدثون بلسان العدو، فيتنكرون لأمتهم، ولكن الأهم يتنكرون لإنسانيتهم المطعون في وجودها. حين يلجأ المثقف إلى توظيف معرفته أو إبداعه من أجل التدليس والنفاق، بالإضافة إلى تبني خطاب مغلوط مفضوح على الملأ، فيحاول أن يبني وجوده البائس على دماء الآخرين مستغلاً ما يحصل من مآس، وشعوب مقهورة تاريخياً، فالمبدع الذي بدأ كتابته بالدفاع عن الشعوب المستعمَرة، التي حاول أن يدعي أنه ناطق باسم قضاياها حين اقترب من الاهتمام الغربي سرعان تنكر إلى هموم أمته، ومن هنا، فإن قيمة المثقف في الحقيقة، تتمثل بالقدرة على أن يكون ضميراً لوقائع مجتمعه، وهذا ما يجعلنا نستشعر مدى هشاشة هذا المعنى حين يتصل بها السلوك ببعض المثقفين العرب. حين يفقد المثقف القيمة الأخلاقية بحثاً عن قيمة أخرى مجلوبة من اعتراف الآخر عبر التنكر لقضاياه الرئيسة، فإن هذا يعني بأنه لم يكن سوى مرتزق، تتملكه مقولات التفاهة، والعمى الأخلاقي، وقد يبدو أقرب إلى متسول للقيمة، أو في التورط في البحث عن قيمة ملوثة، ما يعني أنه سقط أخلاقياً وثقافياً من التاريخ، فيمسي غائباً من الوعي الجمعي لثقافته.
ولنفترض أن هذا الكائن الثقافي، نال الاعتراف المرجو الذي بذل من أجله ماء وجهه، وتخلى عن رسالته، فكيف سيتعامل مع ضميره الأخلاقي، وتنكره للحقيقة التي من أجلها كان مثقفاً. لعل أعظم الأدباء لم يتحصلوا على اعتراف أو جائزة عالمية تستحق أن تستجلب هذا العار، وثمة أدباء أو فنانون رفضوا تلك الجوائز من مبدأ أخلاقي، وقيمي، فالروائي الفلسطيني غسان كنفاني ما زال يكمن في وعي الأمة لا لكونه صادقاً في مبادئه، بل لأنه أعماله عكست عمق الحقيقة الأخلاقية بأسلوب فني، وإبداع حقيقي، ولا يمكن أن نتناسى الممثل الأمريكي مارلون براندو الذي استُبعد من هوليوود لمواقفه تجاه اليهود، ومن ثم رفض جائزة الأوسكار نتيجة سوء تصوير السكان الأصليين في هوليوود. كما ثمة الكثير من النماذج التي تخلت عن اعتراف زائل مقابل قيمة متجسدة في الوعي الأخلاقي لمعنى المثقف.
حين يكون نتاج الروائي أو المبدع عامة متلوّنا أو انتهازيا، حسب مراحل معينة، إذ يبدأ باحثاً في مستهل مسيرته عن اعتراف ضمن بيئته وثقافته، وحين تمنحه هذه الثقافة الاعتراف، وتجعله ضمن الصفوة، يبدأ بالتطلع إلى اعتراف الثقافة المهيمنة، ولكنه يتناسى في غمرة الأكذوبة التي ينسجها حول نفسه بأنه قد بات أقرب إلى مسخ مشوّه غير متصل بأي قيمة حقيقية، إنما هو يبحث عن قيمة ذاته المتضخمة، من أجل قيمة عالمية من لدن ثقافة دموية تاريخية، بيد أن هذا المثقف أو المبدع سيدفع ثمنا باهظاً، لأنه نال تكريما رخيصاً عبر خيانة الحقيقة الأخلاقية الإنسانية، ولا شيء أسوأ من خيانة المثقف التي تعدّ أكثر تشوهاً، بل تتجاوز خيانة السياسي؛ لأن السياسي – أو بعض السياسيين – في التكوين البنيوي يمارس الخداع ضمن أدوات عمله، فلا يبحث إلا عن مصالحه، ومحاولة صون وجوده، وسلطته على حساب المبادئ.
كاتب أردني فلسطيني
ظهرت اصوات نشاز في التجربة الثقافية العربية منذ ما قبل 2003 وتعززت بعد الاحتلال وتقسيم الشعوب ، فظهرت أبواق تقرأ التاريخ بحسب مصالح المخابرات والدول التي تتبنى الحقد على العرب والمسلمين باشكال مختلفة تحت لبوس الحداثة وما بعدها وفي تهريج واضح