من الواضح أن القائد العسكري للمنطقة الشرقية خليفة حفتر وأولاده حريصون على «تنظيف» الشرق من الشخصيات السياسية والزعامات القبلية، التي يمكن أن تنافسهم على القيادة. واضطرت قيادات مدنية وعسكرية عدة لمغادرة بنغازي ومدن أخرى توقيا من حملة الاغتيالات، خصوصا بعد اختطاف النائبة سهام سيرغيوة في بنغازي، وتعرُضها للقتل على أيدي أولاد حفتر، حسب مصادر مطلعة. كما تستمر سيطرة الأبناء على الحقول والموانئ النفطية في الجنوب والهلال النفطي. على هذه الخلفية تفجر صراع جديد بين وزير الدفاع الأسبق المهدي البرغثي وجماعة حفتر، وهو صراع شمل أيضا محمد المغربي الذي يوصف بأنه «الذراع اليمنى» للبرغثي. كما تعرض العقيد فرج البرعصي، الذي ينتمي إلى قبيلة البراعصة، إحدى أكبر القبائل في الشرق، للمصير نفسه، وهو أحد المنشقين السابقين عن حفتر.
البحث عن وزير الدفاع الأسبق
في أجواء تلك الاشتباكات انقطعت الاتصالات عن بنغازي وأكد خصوم حفتر أنه هو من أمر بقطعها عن المدينة، ما أدى إلى عزلتها وإرباك سكانها، وهو نفس الوضع الذي فُرض سابقا على مدينة درنة، بعد عاصفة «دانيال». كان حفتر مُصرا على القبض على وزير الدفاع الأسبق، وهو القرار الذي نفذته عناصر تابعة لـ«لواء طارق بن زياد المعزز» و«الكتيبة 115» بعد محاصرة منزله، في مدينة البيضاء، الذي عاد إليه، بعد غياب استمر سنوات. وأفاد مقربون من البرغثي أن عودته، أتت ثمرة لاتفاق مع جماعة حفتر، فحواه أن يعود إلى بلده ومدينته من دون أن يتعرض له أحد بسوء. لكنه فوجئ لدى وصوله إلى منزل العائلة، مع حراساته، بالانقلاب على الاتفاق، إذ طوق عناصر اللواء والكتيبة التابعين لصدام حفتر، منزل الأسرة لاعتقاله بالقوة، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات بين الطرفين. وأوضحت مصادر من مدينة بنغازي، أن الاشتباكات اندلعت على خلفية تطويق القوة التابعة لصدام حفتر، منزل أسرة البرغثي، في منطقة السلماني، المكتظة بالسكان في بنغازي، لإلقاء القبض عليه. وعزت بعض المصادر المطلعة اللجوء لهذا المقلب، إلى موقف البرغثي «السلبي» من المشروع الذي تقدم به حفتر، لإيجاد تسوية للصراع في ليبيا، بالإضافة إلى أنه (البرغثي) كان مؤيدا لحكومة الوفاق الوطني السابقة، وشغل فيها منصب وزير الدفاع.
موقفٌ للقبيلة
أسفر اقتحام البيت عن مقتل شخص وإصابة ثلاثة آخرين. وقالت قبيلة البراغثة، في بيان، إن عودة وزير الدفاع في حكومة الوفاق السابقة، إلى بنغازي جاءت «على إثر التشاور مع بعض أعيان القبيلة» بعدما أعلنت المؤسسة العسكرية أنه «لا مانع لديها من عودة كل من يرغب في العودة، من المخالفين لها إلى مدينة بنغازي». وأشار بيان القبيلة إلى أن قوات القيادة العامة (قوات حفتر) بادرت إلى العنف ولم تراع التراتبية العسكرية. وأفاد البيان أيضا أن البرغثي تفاجأ بقدوم سيارات عسكرية تابعة للقيادة العامة، «تريد اعتقاله واقتياده كمجرم من المجرمين، بعد عودته إلى منزله سالمًا للقاء أهله وأهالي بنغازي». وحملت القبيلة على المجموعة التي كانت قادمة لاعتقال البرغثي، لكونها استخدمت السلاح، كما لم تحترم الأقدمية في العمل العسكري. ولم تكن تنتمي للشرطة العسكرية بوصفها الجهاز المسؤول عن اعتقال العسكريين».
ولوحظ أن لهجة بعثة الأمم المتحدة في تعليقها على هذه المستجدات، جاءت أشد من المعتاد، إذ أعربت عن قلقها جراء الاشتباكات المسلحة في بنغازي واستمرار انقطاع الاتصالات عن المدينة. ودعت في بيان لها السلطات في شرق ليبيا إلى إعادة تشغيل جميع الاتصالات بشكل عاجل في بنغازي، بعد قطعها على إثر اندلاع الاشتباكات الجمعة الماضية. وأشارت البعثة الأممية إلى مواصلتها التحري عن التقارير الواردة بشأن وقوع ضحايا مدنيين. وفي رد على البعثة الأممية قال رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان أسامة حماد، بلهجة لا تخلو من التوتر، «إن البعثة حولت عملية أمنية محدودة، ضد مجموعة تخريبية لمدة ساعتين مساء يوم الجمعة الماضية، إلى اشتباكات مستمرة» مبديا استغرابه من تلك التصريحات.
تنسيق مع القبائل
لكن مرافقي البرغثي إلى بنغازي أكدوا أن العودة كانت بعلم خليفة حفتر وبطلب من عمدة بنغازي عبدالسلام عبد العاطي، وبالتنسيق مع مشايخ بعض القبائل، وبالخصوص العواقير، الذين ضمنوا له الدخول إلى بنغازي. وأوضح المرافقون أن القوة التي جاءت إلى منزل البرغثي باشرت الضرب بالأسلحة دون سابق إنذار. وحسب القبيلة اعترض شباب الحي على اقتحام بيت البرغثي، فتحول الأمر إلى مواجهة مسلحة وسط الأحياء السكنية والمدنيين. وحذرت القبيلة من استخدام القوة ضد المواطنين. أكثر من ذلك لوحت في بيانها بتحذير واضح، مفاده أن «استخدام العنف سيُواجَه بالعنف، وقد تتجه الأوضاع في بنغازي خاصة، وفي عموم برقة (شرق) نحو الانهيار». وأفيد أن البرغثي موجود في مكان آمن خارج بيته، وأن هناك عددا من أفراد أسرته محتجزون لدى قوات تابعة لحفتر، ولم يتسن الحصول على تأكيد لهذه المعلومات من أوساط حفتر.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها اشتباكات بين جماعات مسلحة وميليشيات تنتمي إلى هذا الفريق أو ذاك من فرقاء الصراع، إذ سبق أن اندلعت اشتباكات مماثلة في العاصمة طرابلس، سواء بين عناصر تابعة لرئيس حكومة الوحدة الدبيبة وأنصار غريمه فتحي باشاغا، أم بين كيانات عسكرية متنافسة. وفي كل مرة تتدهور الأوضاع الأمنية ويُصاب مدنيون في تلك الاشتباكات، وتصبح المدينة على شفا منزلق، يهدد بعودة البلد إلى الحرب الأهلية.
اتهامات واعتقالات
من العناصر التي تدفع إلى الاحتقان وتستدعي شبح الحرب، تلك الملاحقات والاعتقالات الواسعة التي تقوم بها قوات حفتر من دون الالتزام بالإجراءات التي يضبطها القانون. ومن الشخصيات العامة التي تعرضت للاعتقال أخيرا المحامي والسفير فتحي البعجة، رفقة زميليه طارق البشاري وسراج دغمان، في مدينة بنغازي على أيدي عناصر جهاز الأمن الداخلي. ويشكل اعتقال البعجة ورفيقيه، وهو عضو سابق في المجلس الوطني الانتقالي (برلمان مؤقت) وسفيرٌ لدى كندا، على مدى ست سنوات، تصعيدا من جانب حفتر ضد خصومه ومنافسيه المعلنين والمُحتملين. والأرجح أن التحقيق معهم تركز على فحوى اجتماعهم في مقر «مركز ليبيا للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية» في بنغازي. وتنسب لهم أوساط حفتر العمل على إحداث «تغيير يقود إلى إسقاط الجيش».
غير أن فئات واسعة من السياسيين والحقوقيين والمتابعين للشأن العام لم يصدقوا هذه الرواية، بل تحركوا للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين. ولوحظ أن هذه الاعتقالات أتت بعد ثمانية وأربعين ساعة فقط من صدور تقرير وضعه خبراء أمميون، يُسلط الضوء على الاستخدام المُمنهج للاحتجاز غير القانوني في ليبيا. وأفادت عضو «الحوار الوطني الليبي» الزهراء لنقي، أن الدكتور البعجة تطرق خلال الجلسة الحوارية المغلقة، إلى سوء إدارة الأزمات وظاهرة الفساد وانهيار سُدي درنة كأنموذج لذلك الفساد. واعتبرت لنقي في تصريحات صحافية، أن احتجاز الشخصيات الثلاث جزء من تشديد القبضة الأمنية في أعقاب الاحتجاجات الشعبية الغاضبة، ضد الفساد المستشري في البلد، والتقصير والإهمال. وبتعبير آخر فإن تلك الإجراءات التعسفية ترمي إلى حظر أية أصوات احتجاج يمكن أن ترتفع للمطالبة بالمحاسبة والشفافية والقصاص.
في السياق طالبت البعثة الأممية السلطات الليبية والتشكيلات الأمنية، بالإفراج عن جميع المحتجزين تعسفيا، وضمان إجراء تحقيقات مستقلة في جميع المزاعم، المتعلقة بعمليات احتجاز واختطاف خارج نطاق القانون، وتقديم مرتكبيها إلى العدالة.
انتقام القبيلة
ومن ضحايا هذه الاختطافات أيضا العقيد فرج البرعصي، المنشق عن قوات حفتر، وقد أصيب في الهجوم الذي شنته على بيته، في مدينة البيضاء، قوات تابعة لحفتر، ما أدى إلى بتر إحدى قدميه. وأسفر الاقتحام، الذي وصفه البرعصي بـ«العمل الإرهابي» عن مقتل شخص وجرح ثلاثة آخرين. وتعتبر هذه العملية انتقاما من تأييد البرعصي لحكومة الوفاق الوطني السابقة. وأتى أحد الردود العنيفة على هذه الحملة، من خلال تعرُضُ بلقاسم، نجل شقيق خليفة حفتر، للاختطاف في بنغازي. ويُعتقد أن تلك العملية كانت رد فعل على ما تعرض له فرج البرعصي، حسب صحيفة «ليبيا هيرالد» الناطقة بالإنكليزية.
أما من الناحية الاجتماعية، فسيضع هذا العمل الانتقامي حفتر وأولاده في مواجهة مباشرة مع قبائل الشرق الليبي، التي تعتبر قبيلة البراعصة من أكبرها وأهمها. بيد أن بعض المصادر تفيد بأنها منقسمة إلى فريقين الأول مؤيد للجنرال المتقاعد حفتر، والثاني يدعم العقيد البرعصي، خاصة أن عددا من أفراد أسرة البراعصة محتجزون عند قوات تابعة لحفتر.
ليبيا وإسرائيل
وفي ملف يخص علاقة ليبيا بالحرب الدائرة حاليا في غزة، تنبغي الإشارة إلى الاتصالات التي أجراها صدام حفتر مع الجانب الإسرائيلي، في إطار اقتراح مقايضة، أو صفقة، تقوم على دعم وصول خليفة حفتر أو أحد أبنائه، إلى رئاسة ليبيا، في مقابل تطبيع كامل للعلاقات بين الدولة العبرية وليبيا. غير أن هؤلاء المفاوضين يغفلون عن قوة المعارضة الشعبية في ليبيا لأي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل. وكانت تداعيات اللقاء الذي جمع، في وقت سابق من هذه السنة، وزيرة الخارجية المعزولة نجلاء المنقوش، بنظيرها الإسرائيلي، في روما اختبارا مُهما لشدة اعتراض الليبيين بالكامل على أية خطوة في هذا النهج. مع ذلك عبر العديد من الليبيين، وفقا لرئيس «اتحاد يهود ليبيا» رافائيل لوزون، عن رغبتهم في «أن يكونوا جزءًا من اتفاقات إبراهام، وأن تكون لهم علاقات مع إسرائيل». لكن في الوقت الحالي، يُضيف لوزون، «لا يوجد شيء بسبب الوضع الداخلي في ليبيا». وكشف، في حوار أجرته معه مجلة «أصوات مغاربية» أنه تلقى دعوة شخصية من معمر القذافي، لزيارة ليبيا في العام 2010 كانت الأولى في نوعها، مُضيفا «لكن لم نحصل على شيء».
كانت الدعوة لحضور الاحتفالات التي أقيمت في طرابلس، بمناسبة الذكرى الحادية والأربعين لـ«ثورة الفاتح» التي أوصلت العقيد معمر القذافي إلى الحكم، في أيلول/سبتمبر 1969 وأكد أنه في العام التالي لسقوط القذافي، «كانت هناك اتصالات مستمرة مع مختلف رؤساء الوزراء، الذين اجتهدوا في تقديم الوعود كالعادة، من دون أن يتحقق (منها) شيء» على ما قال. وزار لوزون، الذي كان مرفوقا بوالدته وشقيقته، حارته القديمة في مدينة بنغازي (1000 كيلومتر شرق العاصمة طرابلس) التي غادرها في العام 1967 في أعقاب توتر العلاقات بين اليهود والمسلمين، على إثر الحرب العربية الإسرائيلية.
لقاءٌ لم يتم
لم يحظ لوزون بلقاء أي مسؤول ليبي، على رغم طلبه علنا ملاقاة العقيد القذافي في حديث أدلى به لصحيفة «أويا» الليبية، التي كانت تصدرها مؤسسة «الغد» التابعة لسيف الإسلام معمر القذافي. وأفاد أنه كان يعتزم إطلاع الزعيم الليبي «على أوضاع الجالية اليهودية، وأن يتم تمكين أفرادها من المشاركة في خدمة ليبيا، وان تتاح لهم فرصة زيارتها في كل وقت». وأكد أنه حظي خلال الزيارة بحفاوة الاستقبال فقط، من دون إضفاء طابع سياسي عليها. واعتبر أنه ما زال هناك نوع من المحرمات، وهو «الخوف من التصريح علنا بوجود استعداد للانفتاح على الليبيين الذين يعتنقون الديانة اليهودية».
عزا لوزون في تصريحاته الصحافية سبب خروجه من ليبيا إلى «النظام الملكي السابق وبعض اليهود الليبيين والشيوخ ورجال الدين، ممن ساهموا في تأصيل نزاع طائفي وديني، أدى إلى انفراط عقد اللحمة الوطنية». وغادر لوزون بنغازي مع مئات من اليهود الليبيين، الذين هاجرت غالبيتهم إلى فلسطين، لكنه فضل الاستقرار مع عائلته في أوروبا. وطبقا لوثائق تاريخية كانت الطائفة اليهودية في ليبيا تضم 35 ألف عنصر، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكنهم هاجروا في أعقاب قيام إسرائيل في 1948 وأخلت الأحياء التي كانت تقطنها في مدن رئيسة مثل زليتن وغريان ويفرن. ويُقدر عدد اليهود الليبيين حاليا، بحوالي 120 ألفا، ويشمل الجيلين الأول والثاني. ولابد من الإشارة إلى أن الغالبية منهم يعيشون حاليا في إسرائيل، والباقي يتوزعون بين إيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة.
الوطن الحقيقي
وبعد استقلال ليبيا في 1951 وانضمامها للجامعة العربية، غادر من تبقى من اليهود البلد إلى إيطاليا، عدا بضع مئات هاجروا في دورهم، في أعقاب حرب 1967. وقال لوزون إنه لم يعش في إسرائيل لقناعته الخاصة بأن وطنه الحقيقي هو ليبيا، وليس أي مكان آخر.
وكان لوزون اعترض في شدة على إمكانية استثمار يهود ليبيا لمساعي الحكومة الليبية الرامية لقفل الملفات العالقة مع الولايات المتحدة وأوروبا «للفوز بحصة مجزية من التعويضات» في إشارة لملفي «لوكربي» (1988) وطائرة «يو تي آي» الفرنسية، التي تم تفجيرها فوق صحراء النيجر (1989). وكان يهودٌ ليبيون مقيمون في إسرائيل، طلبوا من الحكومة الليبية، عند تسوية ملف «لوكربي» دفع تعويضات، عن الأملاك والعقارات التي تركوها خلفهم. إلا أن لوزون أكد أنه «ليس لكل يهودي خرج من ليبيا عامي 1948 و1956 الحق في تعويض معنوي أو مادي». وأضاف قائلا «من وجهة نظري فإن المواطن اليهودي الليبي، الذي ترك بلاده سعيا للعيش في بلاد أخرى، متوهما أنه سيجد فيها سعادة دائمة على حساب شعب آخر، له الحق أيضا في العيش على أرضه التاريخية، لكنه لا يستحق أي تعويض».
وفيما توقع البعض أن تشكل زيارة لوزون آنذاك مقدمة لزيارات مماثلة ليهود منحدرين من ليبيا لا يقيمون في إسرائيل، إلا أنها ظلت الزيارة الأولى وربما الأخيرة من نوعها، علما أن ليبيا رفضت إقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية في تسعينات القرن الماضي، في الوقت الذي سمحت كل من المغرب وتونس وموريتانيا بفتح مكاتب تمثيلية إسرائيلية في عواصمها.