لم يفت أحداً أن تصعيد العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد أهداف مرتبطة بإيران خلال الأسابيع الأخيرة، وتوسيع نطاقها إلى الأراضي اللبنانية والعراقية بعد أن كانت محصورة بالأراضي السورية بصورة أساسية طيلة سنوات، لم يفت أحداً أن ذينك التصعيد والتوسيع يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالأجل الانتخابي القادم في الدولة الصهيونية، وهو الذي فرضه تعثّر تشكيل ائتلاف حكومي غداة الانتخابات النيابية التي أجريت قبل خمسة أشهر. والحال أن بنيامين نتنياهو مستميتٌ في تأمين فوزه في هذه الانتخابات، إذ لا يتعلّق بها مصيره السياسي الراهن وحسب، بل يرتهن بها مصيره الشخصي، بما فيه حرّيته الفردية، وبالتالي مصيره السياسي بالمطلق. ذلك أن الرجل مطلوبٌ أمام العدالة بسبب فساده، ويراهن على حصوله وحلفائه السياسيين على أغلبية سياسية في الكنيست، البرلمان الإسرائيلي، تمنحه الحصانة إزاء الملاحقة القضائية.
هذا لأن نتنياهو، وبالرغم من انتمائه إلى تراث سياسي شكّل تاريخياً الجناح الفاشستي في الحركة الصهيونية (مؤسس الدولة الصهيونية نفسه، دافيد بن غوريون، شبّه ذات يوم مناحيم بيغن، الزعيم التاريخي لكتلة الليكود، بأدولف هتلر)، لا خيار أمام نتنياهو سوى خوض المعركة الانتخابية ضمن حدود قواعد اللعبة الديمقراطية الأساسية، إذ لا يحوز على أغلبية شعبية تخوّله الطعن بتلك القواعد. فلا يبقى من حيلة لديه سوى اللجوء إلى شتّى الأساليب الملتوية والقذرة بغية تأمين الفوز في الانتخابات، بما فيها إشهار عنصرية فجّة إزاء العرب الفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية.
ولذا نراه يصعّد لهجته ضد إيران ويستخدم صلاحياته الحكومية في تصعيد المواجهة معها، وهي المواجهة التي يودّ أن يُقنع جمهور الناخبين الإسرائيليين بأنه الأكثر تصميماً على الخوض فيها حتى النهاية، مستغلّاً الهاجس الإيراني الذي تولّد لدى هذا الجمهور بعد أن باتت إيران الدولة الإقليمية الوحيدة التي تُشهر عداءً حاداً لدولة إسرائيل بينما تسعى وراء التزوّد بالقدرة على التسلّح النووي. وبالطبع، ينتمي جميع خصوم نتنياهو الانتخابيين الرئيسيين إلى معسكر «صقور» الدولة الصهيونية وليس إلى جناح «الحمائم» فيها، الذي أصيب بالضمور منذ عقود.
هذا ومنذ قمة مجموعة الدول السبع التي انعقدت في فرنسا قبل أسبوعين ونيّف، تولّد لدى نتنياهو قلقٌ لم يكن يتوقّعه على الإطلاق، وقد كثُر التعليق عليه في الصحافة الإسرائيلية في الأيام الأخيرة. إنه قلقٌ من أن صديقه الحميم دونالد ترامب قد يطعنه في الظهر في الملفّ الإيراني ويمضي قُدُماً على سبيل التفاوض المباشر مع إيران، الذي يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وراء إقناعه بسلوكه. وقد راق هذا المسعى لترامب إلى حدّ قبوله بدعوة ماكرون لوزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، للحضور إلى مكان انعقاد القمة، وذلك بصورة مُعلنة وإن لم تكن علانية.
بنيامين نتنياهو مستميتٌ في تأمين فوزه في هذه الانتخابات، إذ لا يتعلّق بها مصيره السياسي الراهن وحسب، بل يرتهن بها مصيره الشخصي، بما فيه حرّيته الفردية
ولن يتعجّب من إصغاء ترامب إلى اقتراح ماكرون سوى من نسي أنه الرجل نفسه الذي هدّد بإفناء كوريا الشمالية قبل أن يقع في «غرام» زعيمها العبيط، على حدّ قوله. فليس لترامب من مبادئ تحرّكه سوى مصلحته النرجسية، وهي تتركّز الآن في الفوز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات المُزمع إجراؤها في بلاده في خريف العام القادم. وقد أدرك أن مواقف إدارته العدائية إزاء إيران لم تكسبه شعبية، حتى بين اليهود الأمريكيين الذين لا زالت أغلبيتهم تؤيد الحزب الديمقراطي وتعارض سياسة نتنياهو. وإذ يبدو بصورة متزايدة أن «الغرام» بين ترامب وحاكم كوريا الشمالية القراقوشي سوف يبقى عقيماً، يبحث ترامب عن إنجاز سلمي آخر يستطيع التعويض به عن إخفاقه في الملفّ الكوري. هذا لأنه صوّر نفسه كصانع سلام، حتى أنه أفصح في أكثر من مناسبة عن رغبته في الحصول على جائزة نوبل للسلام بما يضاهي سلفه باراك أوباما الذي لدى ترامب هوس التفوّق عليه، كما هو معروف.
فبعد أن تبيّن أن «صفقة القرن» بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهي أول إنجاز سلمي طمح ترامب إلى تحقيقه بعد تولّيه الرئاسة، قد وُلدت ميّتة، وبعد أن وصل المسعى الكوري إلى طريق مسدود، أخذ الرئيس الأمريكي ينظر في الملف الأفغاني كما استهواه أيضاً اقتراح ماكرون الإيراني. وقد ارتفعت لديه قيمة هذا الخيار الأخير بعد أن اضطرّته العملية التي نفّذها الطالبان في كابول مؤخّراً إلى توقيف مسار التفاوض المباشر معهم، بما في ذلك إلغاء دعوتهم إلى كامب ديفيد التي كانت ملفوفة بالكتمان، وقد أدهشت حتى حلفاء ترامب الجمهوريين الذين أبدى بعضهم امتعاضهم منها. وقد بات بالتالي احتمال عقد لقاء بين ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني احتمالاً حقيقياً، ربّما يرتهن اليوم بموافقة الطرف الإيراني أكثر مما يرتهن باستعداد الطرف الأمريكي. ومن نافل القول إن مثل هذا اللقاء، لو قُدّر له أن يتمّ، من شأنه أن يشكّل صفعة كبرى لنتنياهو الذي تباهى باستمرار بأن صداقته الحميمة مع ترامب تجعله أكثر قدرة من منافسيه على ضمان تبنّي الإدارة الأمريكية لأجندة اليمين الصهيوني ووضعها العداء لإيران في رأس أولوياتها.
ومن حُسن حظ نتنياهو أن الجمعية العامة القادمة للأمم المتحدة في نيويورك، التي هي أول مناسبة محتملة للقاء بين ترامب وروحاني، سوف تبدأ يوم الثلاثاء القادم في السابع عشر من الشهر الجاري، أي في اليوم ذاته الذي سوف تجري فيه الانتخابات الإسرائيلية. هذا يعني أن اللقاء بين ترامب وروحاني إن حصل، فلن يتمّ قبل الانتخابات الإسرائيلية. ويمكننا أن نتكهّن بأن نتنياهو قد ناشد ترامب بإلحاح بألّا يعلن عن اللقاء المذكور، لو أصرّ على عقده وأتيح له ذلك، قبل موعده هو مع المصير.
كاتب وأكاديمي من لبنان
/بعد أن باتت إيران الدولة الإقليمية الوحيدة التي تُشهر عداءً حاداً لدولة إسرائيل/..
وواقع الحال يقول، شاء الكاتب أم أبى:
/بعد أن باتت إيران الدولة الإقليمية الوحيدة التي تُشهر عداءً حاداً لدولة إسرائيل في الظاهر، ولكنها على النقيض تُضمر ولاءً شديدا لهذه الدولة الصهيونية من وراء الكواليس/.. !!