في 17 تشرين أول/أكتوبر 2023 قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي – بقصف جوي – مئات المرضى والأهالي النازحين الذين كانوا يحتمون بساحات المستشفى المعمداني في غزة. نالت الجريمة قدراً كبيراً من الغضب العالمي والاحتجاج، رغم تبني الغرب الرسمي الرواية الإسرائيلية بتحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية الجريمة. وفي 13 نيسان/أبريل الحالي قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المستشفى نفسه، ودمرت عدة أقسام فيه، وأخرجته عن الخدمة، غير أن الجريمة – هذه المرة – مرت مرور الكرام، إن جاز أن نصف الجرائم بالكرم.
هناك عوامل عدة أدت إلى عدم تفاعل الرأي العام الدولي مع الجريمة الثانية، بعد تفاعله مع الجريمة الأولى، وبالطبع فإن من ضمن تلك العوامل حجم الضحايا في القصف الأول، غير أن هناك عاملاً مهماً ينبغي الالتفات إليه، وهذا العامل يتعلق بالطبيعة البشرية التي يمكن أن تألف الأحداث وتتعايش معها، وهذا ما يدركه المجرمون الذين يعولون على اعتياد الناس للجرائم، وإلفهم لها، وتعايشهم معها، مع مرور الوقت، الأمر الذي جعل استهداف منشأة مدنية أمراً يمكن تقبله، بسبب «إلف النفوس»، حسب تعبير ابن حجر العسقلاني الذي قال إن «النفوس تألف ما تكرر عليها، فإن كان خيرًا ألفته، وإن كان شرًا لم تستنكره».
إنه التعود، تطبيع الجريمة، «تبلد الإحساس»، وغيرها من كلمات مفتاحية فيما يخص التعامل مع الأخبار التي تصلنا من قطاع غزة الذي لا تتوقف الحرب الإسرائيلية عليه إلا لتبدأ، والذي لم تعد إسرائيل تخفي حقيقة بنك أهدافها فيه، وهي الأهداف التي تدور حول استنساخ تجارب 1948 في التطهير العرقي، كهدف أساسي، يتسنى لإسرائيل وداعميها – من خلاله – التخلص من هذا الصداع الذي روي عن إسحاق رابين مرة أمنيته أن يصحو يوماً ليجد غزة قد ابتلعها البحر.
خلال عام تقريباً كانت المظاهرات لا تتوقف في مدن وعواصم العالم: ومن لندن لباريس لبرلين ونيويورك وواشنطن ومدن في أمريكا اللاتينية إلى استراليا وآسيا وأفريقيا، كانت حركات الاحتجاج تتسع، إلى أن بلغت الحرب الإسرائيلية ذروتها باستهداف لبنان، وما حدث من تراشق إسرائيلي إيراني مباشر، أو من خلال ميليشيات طهران، الأمر الذي جعل إسرائيل تبدو ضحية لعدة قوى تريد «محوها من الخارطة»، حينها بدأ العد التنازلي لحجم المظاهرات وحركات الاحتجاج، مع الإيهام بوقف الحرب، واعتياد الناس لحجم الجريمة، بمرور الوقت.
بنيت الاستراتيجية الإسرائيلية في الحرب على أساس أن التوجهات الدولية تتغير، وأن القوة تعيد تعريف القيم، وأن المصالح تعيد صياغة القوانين، وأن ذاكرة الشعوب مثقوبة، سريعاً ما تتسرب منها الأحداث والتواريخ والتعاليم والوصايا
خفت حدة المظاهرات المنددة بالجريمة الإسرائيلية في غزة إذن، لم تعد المظاهرات بذلك الزخم، لأسباب عدة، من أهمها «تطبيع الجريمة»، هذا التطبيع الناشئ عن تكرار المشاهد الإجرامية، بشكل مستمر، الأمر الذي سوغ التعايش معها، إذ لم يعد الإحساس بها بالقدر ذاته من التوهج، حيث إن الإحساس بالجريمة كغيره من الأحاسيس يضعف بعوامل عدة، منها تغير التصورات والأفكار والقناعات، نتيجة للضخ الإعلامي والدعاية المضادة، ومنها تقلب الأهواء والأمزجة الذي يلعب دوراً في تغير درجات الإحساس بالجريمة، وكذا توالي الأحداث، وانتقال دائرة الاهتمام الإعلامي والسياسي من بلد إلى آخر، دون إغفال عامل الزمن ودوره في برود الحس أو خفوت توهجه، مع ما يمكن أن يصاحب العوامل المذكورة من تبلد في المشاعر والأحاسيس، ينتهي إلى التطبيع والتعايش ليس مع المجرم وحسب، ولكن مع الجريمة ذاتها.
في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة كان كثير من أعضاء الكنيست الإسرائيلي والوزراء والقادة العسكريين والسياسيين يصرحون ويتصرفون تصرف من لا يهتم بالرأي العام العالمي، كما أنهم أبدوا قدراً كبيراً من الاستخفاف بالأمم المتحدة، وكانوا يؤكدون على أن مصلحة إسرائيل فوق القانون الدولي، وأن المنظومة الدولية برمتها تسير في اتجاه معادٍ للسامية، لمجرد أنها تدين جرائم جيش الاحتلال، وكانت التصريحات والتصرفات الإسرائيلية تصب في مجرى المحاولات المبرمجة لإعادة صياغة الوعي، وإعادة تعريف النظم والقوانين والمبادئ.
وقد بنيت الاستراتيجية الإسرائيلية – في هذا الشأن – على أساس أن التوجهات الدولية تتغير، حسب مجريات الأحداث، وعلى اعتبار أن القوة يمكن أن تعيد تعريف القيم، وأن المصالح والمنافع تعيد صياغة القوانين والاتفاقيات، وأن ـ وهذا مهم ـ ذاكرة الشعوب مثقوبة، سريعاً ما تتسرب منها الأحداث والتواريخ والتعاليم والوصايا، وأن ـ وهذا هو الأهم ـ الناس يتعودون على مشاهد القتل ويألفونها، ومن ثم تتضاءل نسبة تفاعلهم معها، أو استبشاعهم لها، مع مرور الوقت.
وبعد – بل وخلال – قرابة 18 شهراً من الضخ الإعلامي لمشاهد الدمار والقتل والتهجير والتطهير وغيرها من الجرائم التي تمارسها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة، تشكل مسار سلبي في التعاطي الجماهيري مع الجريمة، مسار ميّز تعاطي كثيرين ملّوا رؤية مناظر الدم، وتعللوا بأنهم لم يعودوا يحتملون ذلك، وأنه ليس في يدهم شيء يفعلونه، وأن الأمر أكبر من قدراتهم، فانصرفوا لمشاهدة ما يبهج من أخبار تعيد لهم التوازن النفسي، وتبعث على البهجة، بدلاً من الاهتمام بمشاهد القتل والدمار التي تسبب الحزن والاكتئاب.
ومع الوقت أصبح كثيرون لا يبالون بما يجري من جرائم بشعة في غزة، حيث لم تعد الجريمة تحرك فيهم ساكناً، بعد طول فترتها وتكرار مشاهدها، وهي حالة من «التبلد العاطفي» أصابت كثيرين، بفعل تكرار مشاهد الجريمة، ومراكمة حالات الإحباط واليأس، والشعور بالعجز.
كان الفقهاء المسلمون يتحدثون عن «إلف المنكر»، وهي حالة شعورية يتعايش فيها الإنسان مع الذنوب والجرائم، حتى يصبح «المنكر (الجريمة) معروفاً والمعروف (الاحتجاج ضدها) منكراً»، حسب الحديث النبوي، ذلك أن الجرائم «إذا توالت وكثُرت مباشرتها، أنِستْ بها النفوس، وإذا أنست بها النفوس قلّ أن تتأثر بها»، حسب تعبير أبي الحسن الزيات الذي أشار إلى «تأنُّس القلب» بالمنكرات، وهذا ما يبدو أنه الوصف الذي ينطبق على تعاطي الرأي العام العربي والإسلامي والدولي، إزاء واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ البشري.
كاتب يمني
ليس لي من تعليق سوى استحضار قول لأبي تمام الطائيّ في الخليفة المعتصم بالله العباسيّ؛ وقد قاد حملة لفتح من سامراء إلى عموريّة:{ السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ…في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ…بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في …مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ …وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً …بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ
أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما …صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ …تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً …لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ …عَجائِباً زَعَموا الأَيّامَ مُجفِلَةً …عَنهُنَّ في صَفَرِ الأَصفارِ أَو رَجَبِ …وَخَوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمَةٍ …إِذا بَدا الكَوكَبُ الغَربِيُّ ذو الذَنَبِ }.
أصبحت جرائم إسرائيل شيئاً طبيعياً ولم يعد أحد يحرك لها ساكناً
قامت إسرائيل خلال الشهور الماضية بضخ كميات كبيرة من معلومات الدعاية المضادة لتسويق روايتها عن الحرب على غزة.
هذا أيضاً أسهم في التسويق للرواية الإسرائيلية ضمن الدوائر السياسية والأكاديمية.
اقتباس:
“كان الفقهاء المسلمون يتحدثون عن «إلف المنكر»، وهي حالة شعورية يتعايش فيها الإنسان مع الذنوب والجرائم، حتى يصبح «المنكر (الجريمة) معروفاً والمعروف (الاحتجاج ضدها) منكراً»، حسب الحديث النبوي”
في المقال يخلط بين النصوص الدينية والتحليل السياسي.
قال رسول الله (ص): – إنَّ أولَ ما دخل النَّقْصُ على بني إسرائيلَ أنه كان الرجلُ يَلْقَى الرجلَ فيقولُ : يا هذا اتَّقِ اللهَ ودَعْ ما تَصْنَعُ فإنه لا يَحِلُّ لك ثم يَلْقَاهُ من الغَدِ وهو على حالِهِ فلا يَمْنَعُهُ ذلك أن يكونَ أَكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وقَعِيدَهُ فلما فعلوا ذلك ضرب اللهُ قلوبَ بعضِهم ببعضٍ ثم قال : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلى قولِه فَاسِقُونَ .
للأسف ما حصل لبني إسرائيل يحصل لكل المسلمين الآن فأصبحت المجتمعات المسلمة تتقبل الفسوق والمنكر فترى مثلاً الكثيرات من المسلمات بحجابهن يحضرن إلى الملاهي والحفلات حيث الغنى والفجور والخمور. وعندما أصبحت مجتمعاتنا مثل مجتمعات اليهود والغرب أصبحت ما يحدث في غزة شيء عادي بل يلومون الضحية ويساندون المجرمين الصهاينة.
كما جاء في أحد التعليقات، هذا خلط صارخ بين النص الديني والنظر السياسي
وبالتالي ما يُرى هنا سوى “تعليلات” غيبية لا يُعول عليها لا من قريب ولا من بعيد
ولله في خلقه شؤون
عندما تقتل إسرائيل عشرات الآلاف في غزة، دون أن يتحرك ضمير العرب والمسلمين والعالم، فهذا هو بالفعل التبلد الشعوري الذي عبر عنه الكاتب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مهما تطاولت إسرائيل على شعوب المنطقة، ومهما استمر الدعم الغربي لها، ومهما استمرت معاناة الفلسطينيين فإن التاريخ يعلمنا أن مصير الاحتلال إلى زوال، وأن الشعوب التي تقاوم تنتصر.
اتفق تماماً مع ما ذهبت إليه الأخت بنت النور.
لا مزيد على ما قالت. بارك الله فيك وكتب أجرك.
مقاومة الاحتلال مشروعة، ولكن ينيغي للمقاوم أن يوازن المصالح والمفاسد. ما جرى في غزة جريمة غير مسبوقة، وإسرائيل اليوم تستعرض قوتها في المنطقة، بعد أن ضمنت أن العرب لن يحركوا ساكنا.
ما ضاع حق وراءه مطالب.
لو كان لإسرائيل أن تقضي على الشعب الفلسطيني وحقوقه لفعلت منذ أكثر من سبعين سنة.
الحق منتصر ولا غالب إلا الله.