تعافي اللغات الأم

حجم الخط
4

هل يمكن للغة العربية أن تتعافى مما علق بها من شوائب وأثقال وأعباء تراثية، وسط تراجع رهيب في استعمالها، أمام الزحف الشرس للغة الإنكليزية على العالم؟ أعتقد إن لم نواجه أنفسنا بالسؤال ونعترف بأننا نعيش معضلة تتسع بشكل سريع، فإنّنا لن نفكّر في الحلول أبدا، حتى يفوت الأوان. فنحن اليوم أمام سيطرة التكنولوجيا والجانب المعرفي على المشهد اليومي للإنسان، وهذا يعني أن النّاقل اللغوي مرتبط ارتباطا وثيقا بمنابع المعرفة، التي نفتقدها منذ دهر، بحكم انفلات المادّة العلمية من أيدينا، وانتقالها إلى أوساط مناسبة أكثر لازدهارها.
لا أدري أي مصطلح بالضبط يتناسب مع مجاراة العصر، لجعل اللغة العربية تحافظ على انتشارها، هل هو رقمنة اللغة أو حوسبتها؟ كون المصطلح أيضا يشكّل عقبة أمام تجدد القواميس اللغوية للغات الحية الأكثر انتشارا في العالم، وتخلُّف العرب عن هذه الخطوة المهمة، إذ لا تزال العربية تؤكّد حضورها كأداة تخاطب شفهية، محافظة على مكانتها السّادسة عالميا، لكنّها على المستوى الكتابي، بدأت منذ سنوات تفقد صلابتها، وقد لعبت أسباب كثيرة دورا مهما في ذلك، لكن الأقوى على الإطلاق هو تأثيرات العولمة على العالم أجمع، ما جعل لغات رسمية لبلدان كثيرة تتراجع في عقر دارها لصالح اللغة الإنكليزية.
في تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو، أُرجعت أسباب تراجع استعمال اللغات الأم في بلدان أوروبية وعربية كثيرة، بسبب مناهج التعليم، التي تعتمد تقديم المعلومة العلمية باللغة الإنكليزية، لكنها لم تشر إلى نقطة مهمة تتعلق باختيار الموضوعات في المناهج المدرسية، فنحن مثلا نبدأ بتعليم تلاميذنا الشعر الجاهلي، وكأننا نحمل السلم بالمقلوب، فنقدم للطالب لغة غريبة عن لغته اليومية، لغة تضحكه وتتعبه في الوقت نفسه لشدة تعقدها، يبحث عن معانيها في قواميس اللغة القديمة، لغة الشنفرى والسٌّليْك بن السّلكة، وتأبّط شرًّا، والأطيلس الأعسر البقمي، من صعاليك وغيرهم من شعراء ذلك العصر.
ترى هل أتعب الغرب في مدارسه الابتدائية الأطفال بلغة شكسبير؟ باكرا نتعب أبناءنا بلغة يشعرون بأنّها غريبة عنهم، فيما تقدم لهم وسائل التسلية بكل أنواعها لغة أخرى أكثر سهولة مدعومة بالصورة الحلوة والموسيقى الجميلة. هذا إن عدنا للمناهج المدرسية، أما إن خرجنا من المحيط المدرسي، فإن أهم عامل مدمر للغة العربية فهو العامل السياسي.
لقد لفتت نظري شعارات المتظاهرين في السودان والعراق، وهي تكسر حاجز اللغة العربية المعممة في المدارس والمعتبرة لغة رسمية للبلاد، فقد رُفِعت شعارات باللغتين الإنكليزية والفرنسية، وقد طرحت السؤال على بعض أصدقائي، إنّها ليست شعارات مرفوعة في الجزائر لنعتبر الأمر عاديا، إنها من بلدان أخرى لها منابعها العربية الأوفر، فلماذا يرفع العراقي لافتة بالفرنسية؟ المحتمل أن الأجيال الجديدة أدركت أن لغة الأنظمة العربية ليست العربية في الحقيقة، فالعربية مجرّد حبر على ورق، لأن الحياة السياسية في أروقة تلك الأنظمة لها لغاتها الأجنبية التي استمر استعمالها حتى بعد استقلال تلك الدول، وهي أيضا لغة عائلات الطبقات الحاكمة، والثرية، ولنقل بالمختصر هي لغة السلطة والمال، وهذا ما جعل اللغة العربية تنحسر شيئا فشيئا لتصبح لغة الفقراء والطبقات الاجتماعية التي لا حول لها ولا قوة، وأعتقد أن مربط الفرس هنا، فكل هذه الفروق تثقل كاهل اللغة العربية، وتقدمها لأهلها على أنها اللغة الخالية من كل أنواع الفرص.

الأجيال الجديدة أدركت أن لغة الأنظمة العربية ليست العربية في الحقيقة، فالعربية مجرّد حبر على ورق، لأن الحياة السياسية في أروقة تلك الأنظمة لها لغاتها الأجنبية التي استمر استعمالها حتى بعد استقلال تلك الدول

فشل السياسيون العرب فشلا ذريعا للترويج للغة العربية، ببرامج مشوهة، حرمت أجيالا بكاملها من تعلم لغة ثانية، في ما فرضت العربية بقسوة لتكون اللغة الوحيدة للمواطن البسيط. مع أن فرص جعل المجتمع متعدد اللغات ثابت الهوية كانت سهلة ومتاحة ولاتزال… ثراء اللغة العربية ليس في كون الأسد لديه ثلاثمئة اسم، فقارئ اليوم لن يستفيد شيئا إن عرف أن الأسد اسمه الأخنس أو البيهس، أو الدّرواس، ثراؤها بالتأكيد يكمن في مجاراتها للعصر، وهذا وجه من أوجه القصور فيها، لأنّها فقيرة من حيث إنتاج المصطلحات، والانتقال إلى المستويات التعليمية العالية، كل القصص والأغاني والقصائد من العصر الجاهلي إلى يومنا هذا، لن تفيدنا لنقل المعرفة وإعطاء الدروس، هذا إلى جانب غياب أكاديمية للغة العربية تعمل على صونها وإثرائها، فهناك ثقافة بأكملها تحملها اللهجات الكثيرة المنتشرة في العالم العربي، لكن اللغة العربية ظلّت مترفِّعة عليها لأسباب أيديولوجية محضة، ما جعلها اليوم تفسح المجال للغات المفهومة أيًّا كان أصلها.
الجهود الفردية التي أثمرت بجمع المفردات العربية في معاجم، لا تشبه أبدا التّجمعات العلمية التي أنشئت منذ القرن التاسع عشر وربما قبله، للعمل على المصطلحات وتسهيل تلقي اللغة، لتصبح لغة علمية. فما وصلت إليه بعض اللغات العالمية، خاصّة الإنكليزية منها لم يأت من الهباء، بل من مجهود يفوق المحاولات الفردية قليلة التأثير، التي لا تعيرها المختبرات الجامعية أي اهتمام، كونها في الغالب ترتبط بمؤسسات خاصة مثل دور النشر، التي تستهدف زبونا بدون مراعاة مستقبل اللغة كلغة.
حتى الشعراء والكتاب والمفكرون الذين نالوا أهمية على المستوى العربي، مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش، وأدونيس، ففي الحقيقة توسع دائرة قرائهم لم تكن بسبب اللغة، بل لأسباب أخرى تعلّقت بتمردهم على السّائد، أو لمواقف سياسية معينة، يمكن اعتبار محفوظ واحدا من أهم الكتاب العرب، بعد نيله جائزة نوبل، ولكن الاستثمار لغويا من خلال نتاجه الأدبي بقي بعيدا عن المؤسسات التعليمية، التي في الغالب تعتبر أدبه غير صالح لتنشئة الأجيال الشابة، فيما قصيدة لزهير بن أبي سلمى، على سبيل المثال يراها المشرفون على وضع البرامج الدراسية، أنّها لن تفسد أخلاق اليافعين، وقد تحميهم من الانحلال الأخلاقي، كون أغلب كلماتها لن ترسخ في ذاكرة الأغلبية، ولن يبقى منها غير ما يضع الموت صوب أعينهم، وهذا جيد لمجتمعاتنا التي تمجّد الموت ألف مرة قبل ذكر أهمية الحياة.
ارتباط اللغة العربية بالخطاب الديني الترهيبي، والشعري المحمّل ببطولات أغلبها وهمي، وقصص أشبه بالأساطير منها للواقع، كلها قادت أبناء عصرنا إلى ابتكار لغة تخصهم، حتى أصبح لها حضور طاغ في وسائل الإعلام بكل أنواعها، وهي خليط من اللهجات العربية والإنكليزية. أمّا طغيان هذه الأخيرة فلأن يومياتنا تعج بالمنتج الأجنبي، من مأكل ومشرب وملبس ومواد زينة وأجهزة كلما اتقنّا استعمال بعضها غزت السوق، أجهزة أحدث منها لا يمكن فهم تقنياتها بدون إتقان اللغة الإنكليزية. يمكن متابعة أي برنامج تلفزيوني عن الموضة، ليُفهم بالضبط ما أقصده، إذ حتى ألوان الحمرة تتدرج إلى عدد لا يمكن حصره في تلك المعروفة بتدرجاته من بندقي إلى عقيقي إلى فارسي وصيني وغيرها، فقد ابتكرت أشهر الماركات العالمية تدرجات جديدة مع أسماء لها، وهذا يعني أن ما يبتكره الآخر لا ترجمة له سوى بأخذه كما هو ولو بتعديلات بسيطة.
غير ذلك فقد حمل العرب المهاجرون اللغة العربية خارج فضائها الجغرافي، وهذا مكسب يجب عدم إهماله، ويبدو أن المؤسسات الغربية رحبت بالضيفة اللغوية المقبلة من الشرق، وبدأت تخصص لها مراكز في بعض البلدان لتعليمها بشكل حديث وعلماني، بعيدا عن أي اعتبار ديني أو عرقي، وهذا في حدّ ذاته بارقة أمل لتطوير أدوات تلقيها، وعامل مهم قد يؤدي بها للتّعافي مما لحق بها من أضرار.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للشاعرة بروين
    مفهوم اللغة الام عندنا يعني الفصحى بينما الصحيح هو ان لغة الام هي اللغة المتداولة في البيت والشارع والمدرسة ولو بدرجات متفاوتة وهذا ليس الامر ليس موجود لدينا اما العربية كلغة فاول مشكلة لا يمكن التخلص منها وهي صفة القدسية والتي جعلتها جامدة بمكانها والامر الاخر هو التخلف العلمي والتكنولوجي والابداع بصورة عامة فاي منتج جديد باي مجال فان صاحبه يعطيه اسمه الاول ومن ثم ينتقل لالاخرين وبالتالي نعزز مفردات اللغة واشتقاقاتها فتبقى الللغة كاي كائن حي لابد للماء والهواء والغذاء ليستمر وغذاء اللغة هي مفرداتها الجديدة

  2. يقول S.S.Abdullah:

    لاحظت المثقف والسياسي بشكل عام خريجي مناهج علم الكلام، لا يعلم أن العولمة والإقتصاد الرقمي الإليكتروني،

    ساهم بشكل عملي في عنوان (تعافي اللغات الأم)، والسبب هو مفهوم توطين الوظيفة والموظف في النظام البيروقراطي بعد الترتيب الجديد للعالم الذي فرضه جورج بوش الأب بعد عاصفة الصحراء/أم المعارك، في مؤتمر مدريد للسلام،

    في الذكرى الخمسمائة لطرد (اليهودي والمسلم ممثلي ثقافة الآخر) من دولة الحداثة لثقافة الأنا (نظام المال الربوي والتأمين عليه) أولاً ومن بعدي الطوفان بلا مسؤولية حتى أخلاقية، في سبيل استلام راتب آخر الشهر كامل بلا أي نقص،

    في علم لغة القرآن، الذي نتج عن جمع كل قراءات ألسنة العرب، في تدوين نص واحد للغة تُكتَب كما تُقرأ، ساهم في تصميم الأحرف (أبو الأسود الدوؤلي)، وفي تصميم الصيغة البنائية للكلمة والجملة (الخليل بن أحمد الفراهيدي)، لسان المجتمع (العامية) شيء، ولغة أي مهنة (الفصحى) شيء آخر، ولغة تدوين حقوق الأنا والآخر حتى داخل النحن كأسرة إنسانية شيء ثالث،

    على أرض الواقع إشكالية عقلية الزعطوط، (المزاجية الانتقائية)، (الگوترة)، هي نفس مشكلة أي عقلية أساسها (الفلسفة)، بينما لا تجد ذلك واضحاً في عقلية أساسها (الحكمة)،

  3. يقول dalil:

    إن أجمل مافي العربية أن أقرأ لامرؤ القيس أو عنترة أو زهير بن أبي سلمى بعد عشرين قرن أفهمه كما لو أننا نعيش نفس العصر…..وأن علماؤنا المعاصرون يتابعون بالمرصاد كل جديد فيرتجموه العربية دون إشكال ….والمسؤولية أن الأنظمة في الوطن العربي ليست لها الإرادة السياسية لسبب أو لآخر لتدريسنا كل العلوم والمعارف مهما كانت تعليماتها باللغة العربية …..وأن تستعمل اللغات الأجنبية ملفات بحث فقط….وهذا هو السبيل الوحيد للمحافظة على هويتنا العربية الإسلامية السنية

  4. يقول عثمان سعدي رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية:

    الأستاذة بروين ، شكرا مقال رائع. المشكلة في رايي أن اللغة العربية خارج العصر السبب أن العصر مطبوع بالعلم والتقانة ، الطب والتقانة بالجامعات العربية يدرسان بالإنجليزية مشرقا وبالفرنسية مغربا، باستثناء سوريا التعليم بها بالعربية. أي لغة تستمد عصريتها من علوم وتقانة العصر وما دامت هذه تدرس باللغة الأجنبية فالعربية خارج العصر. حتى ترويض المصطلح وصنعه يأتي من تدريب الطالب الجامعي على الإبداع علميا وتقانيا.

اشترك في قائمتنا البريدية