تعدد‭ ‬الأسئلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬للقاص‭ ‬المغربي‭ ‬رضا‭ ‬نازه

ذمة‭ ‬السؤال‭: ‬ إن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الأجوبة‭ ‬ضرورة‭ ‬حياتية‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الجواب‭ ‬يتطلب‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬بالضرورة،‭ ‬فكيف‭ ‬نريد‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬أجوبة‭ ‬بدون‭ ‬طرح‭ ‬أسئلة؟‭ ‬والسؤال‭ ‬نصف‭ ‬الجواب‭ ‬كما‭ ‬يقال‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تسعى‭ ‬له‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬شغل‭ ‬القاص‭ ‬رضا‭ ‬نازه‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬الأولى‭ ‬هذه‭ ‬الصادرة‭ ‬سنة‭ ‬2015،‭ ‬هو‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬سيكون‭ ‬شقا‭ ‬أو‭ ‬موضوعا‭ ‬لهذه‭ ‬القراءة‭.‬

الأسئلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬أسئلة‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬أجوبتها‭ ‬في‭ ‬متن‭ ‬قصصها،‭ ‬وأحيانا‭ ‬يتركها‭ ‬القاص‭ ‬بدون‭ ‬جواب،‭ ‬بل‭ ‬يبتغي‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الصمت‭ ‬إشراك‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬السؤال‭ ‬وَهَمِّ‭ ‬السؤال‭. ‬الصمت‭ ‬عن‭ ‬السؤال؛‭ ‬عن‭ ‬الاجابة؛‭ ‬صمت‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬التفكير،‭ ‬صمت‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬صياغة‭ ‬أسئلة‭ ‬متعددة‭ ‬وافتراض‭ ‬أجوبة‭ ‬متعددة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬منظورات‭ ‬مختلفة‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬الجنسيات‭ ‬والعقليات‭ ‬والثقافات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬المتون‭ ‬القصصية‭ ‬للمجموعة،‭ ‬ونلمسه‭ ‬جليا،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬شخصيات‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬المغربي‭ ‬والفرنسي‭ ‬والسويسري‭ ‬والألماني‭ ‬واللبناني‭ ‬والمصري‭.. ‬ولا‭ ‬عجب‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬كذلك‭ ‬جميع‭ ‬الطبقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الهرمية،‭ ‬من‭ ‬المثقف‭ ‬والطالب‭ ‬والجراح‭ ‬والطبيب‭ ‬والمدير‭ ‬والسائق‭ ‬والحارس‭/‬‮»‬العساس‮»‬‭ ‬وغيرهم‭. ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬القاص‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬تنوع‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الكاتب‭ ‬والتوغل‭ ‬في‭ ‬الأجوبة‭ ‬ومقاربتها‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬مختلفة‭.‬

اعتمد‭ ‬القاص‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬هذه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالعتبات؛‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬عتبة‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬عنونها‭ ‬بـ«توطئة‭ ‬وتنويه‮»‬‭ ‬يكشف‭ ‬فيها‭ ‬القاص‭ ‬عن‭ ‬اختياره‭ ‬لعنوان‭ ‬مجموعته‭ ‬وخلفيته‭ ‬التاريخية‭ ‬بشكل‭ ‬مقتضب‭. ‬ومعروف‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬بإمكانه‭ ‬عدم‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬خلفيات‭ ‬عنوان‭ ‬كتابه‭ ‬تاركا‭ ‬المجال‭ ‬للقارئ‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬ذلك‭ ‬بنفسه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬رضا‭ ‬نازه‭ ‬عمد‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬فرض‭ ‬عين‭ ‬لحاجة‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬يعقوب‭.‬

اعتمد القاص في مجموعته هذه على ما يسمى بالعتبات؛ في أول عتبة عنونها بـ«توطئة وتنويه» يكشف فيها القاص عن اختياره لعنوان مجموعته وخلفيته التاريخية.

‭ ‬وأنا‭ ‬بدوري‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القراءة؛‭ ‬أطرح‭ ‬السؤال‭ ‬لماذا‭ ‬هذه‭ ‬التوطئة‭ ‬والتنويه‭ ‬اللذين‭ ‬لجأ‭ ‬إليهما‭ ‬القاص‭ ‬في‭ ‬مجموعته؟‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬يبتدئ‭ ‬مباشرة‭ ‬بعد‭ ‬الغلاف‭ ‬أو‭ ‬الإهداء‭ ‬بأول‭ ‬نص‭ ‬قصصي‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬عادة‭ ‬أغلب‭ ‬القصاصين‭ ‬والكتّاب‭ ‬عامة؟‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬بإمكان‭ ‬القاص‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬التعليل‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬العنوان،‭ ‬والجواب‭ ‬الممكن‭ ‬هو‭ ‬حاجة‭ ‬القاص‭ ‬لطرح‭ ‬الأسئلة،‭ ‬فتوطئته‭ ‬لم‭ ‬تأتِ‭ ‬عبثا‭ ‬أو‭ ‬تقزيما‭ ‬لمعلومات‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬خلفية‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬أهل‭ ‬الذمة‮»‬،‭ ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬خلفية‭ ‬العنوان‭ ‬التاريخية‭ ‬هناك‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬عمد‭ ‬إليها‭ ‬القاص‭ ‬بُغْيَة‭ ‬إبراء‭ ‬ذمته‭ ‬من‭ ‬همّ‭ ‬الجواب،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬رضا‭ ‬نازه‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لنا،‭ ‬لا‭ ‬تسألني‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬أنا‭ ‬بدوري‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬جواب‭ ‬وأجوبة‭ ‬محتملة،‭ ‬أو‭ ‬تساءل‭ ‬معي‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬العزيز‭.. ‬فالمبدع‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بالأجوبة‭ ‬بل‭ ‬يسعى‭ ‬لطرح‭ ‬الأسئلة‭. ‬

ويعدُّ‭ ‬أبو‭ ‬الفلسفة‭ ‬سُقراط‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استخدم‭ ‬السؤال‭ ‬الفلسفي‭ ‬الذي‭ ‬يولد‭ ‬أسئلة‭ ‬أخرى،‭ ‬فالسؤال‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬يولِّدُ‭ ‬الأفكار،‭ ‬وهو‭ ‬خطاب‭ ‬المستقبل‭ ‬الساعي‭ ‬للاكتمال‭ ‬والوصول‭ ‬للجواب‭ ‬الشافي‭. ‬والأسئلة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬تضمر‭ ‬أسئلة‭ ‬فلسفية‭ ‬مستمرة‭ ‬عبر‭ ‬الزمان،‭ ‬فكل‭ ‬جواب‭ ‬لأي‭ ‬سؤال‭ ‬فلسفيّ‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬في‭ ‬سؤال‭ ‬جديد‭ ‬يُطرح،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عرّفه‭ ‬الفلاسفة‭ ‬بفن‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬وتأجيل‭ ‬الجواب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سعت‭ ‬إليه‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬كما‭ ‬أشرتُ‭ ‬سابقا‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬طرحها‭ ‬القاص‭ ‬في‭ ‬توطئته‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

■‭ ‬هل‭ ‬يصح‭ ‬مفهوم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭ ‬عنوانا‭ ‬لمجموعة‭ ‬قصصية؟

‭ ‬من‭ ‬النادر‭ ‬جدا‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬إبداعي‭ ‬معين‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭ ‬المبدع‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬هل‭ ‬يتوافق‭ ‬العنوان‭ ‬مع‭ ‬الكِتاب‭ ‬المنجز،‭ ‬فالشائع‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭ ‬المبدع‭ ‬بين‭ ‬نفسه‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬أقرب‭ ‬أصدقائه‭ ‬بين‭ ‬أساتذته،‭ ‬بينما‭ ‬رضا‭ ‬نازه‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬أوراقه‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أمام‭ ‬الجميع‭ ‬والجمع‭ ‬العام‭ ‬أشد‭ ‬وطأ،‭ ‬فهي‭ ‬بالإضافة‭ ‬لذمة‭ ‬معكوسة‭ ‬هي‭ ‬ذمة‭ ‬مكشوفة‭ ‬علنا‭ ‬كذلك‭.‬

‭*‬هل‭ ‬الحماية‭ ‬‮«‬الذمة‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬حدثا‭ ‬أم‭ ‬هي‭ ‬نمط‭ ‬متصل‭ ‬مستمر؟

ـ‭ ‬إن‭ ‬افتراض‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬سيرورة‭ ‬الذمة‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬‮«‬المغاربة‭ ‬المحميين‮»‬‭ ‬سابقا‭ ‬وهل‭ ‬مازالت‭ ‬مستمرة‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬فإن‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بشكل‭ ‬ذكي‭ ‬يحمل‭ ‬سردا‭ ‬مشوقا‭ ‬ولغة‭ ‬ثرية،‭ ‬وتتجلى‭ ‬هذه‭ ‬السيرورة،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬‮«‬محضر‭ ‬ذمة‭ ‬معكوسة‮»‬‭ ‬الذمة‭ ‬حاضرة‭ ‬بشكل‭ ‬معاكس‭ ‬بين‭ ‬بطلي‭ ‬القصة،‭ ‬وفي‭ ‬نص‭ ‬‮«‬جذور‭ ‬معكوسة‮»‬‭ ‬كذلك‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬يتكرر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لبطل‭ ‬القصة‭ ‬عمر‭ ‬الكنتاوي‭. ‬فنجد‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الذمة‮»‬‭ ‬الحماية‭ ‬المعاكسة‭ ‬كشكل‭ ‬مضموني‭ ‬نمط‭ ‬متصل‭ ‬ومستمر‭ ‬في‭ ‬سيرورة‭ ‬زمنية‭ ‬وأحداثية‭ ‬مختلفة‭.‬

■‭ ‬‭ ‬هل‭ ‬نجحت‭ ‬المجموعة‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬المفهوم‭ ‬المستمر‭ ‬بقطع‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬شكله‭ ‬البدائي‭ ‬أو‭ ‬أشكاله‭ ‬الأخرى‭ ‬المتوالدة‭ ‬المتوالية؟

‭ ‬إن‭ ‬إجابتي‭ ‬المفترضة‭ ‬هنا‭ ‬نعم،‭ ‬لماذا؟‭ ‬لأن‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬شخصت‭ ‬المفهوم‭ ‬بدقة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬معاكسة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأحداث‭ ‬والوقائع‭ ‬والتناقضات‭ ‬القائمة‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬الشخصيات‭ ‬القصصية،‭ ‬كأنها‭ ‬مرآة‭ ‬لوثيقة‭ ‬أهل‭ ‬الذمة‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬شخصيات‭ ‬القصص‭ ‬لكن‭ ‬بشكل‭ ‬معاكس‭ ‬أي‭ ‬لا‭ ‬حماية‭ ‬ترجى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الذمة‮»‬‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬مستمرة‭.‬

■‭ ‬أيهما‭ ‬أسبق؟‭ ‬المفهوم‭ ‬أم‭ ‬الخبر؟

‭ ‬طبعا‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬صياغة‭ ‬لفظ‭ ‬بدون‭ ‬حدث‭ ‬معين‭ ‬ولحصول‭ ‬الحدث‭ ‬يتوجب‭ ‬خبرا‭ ‬والعكس‭ ‬صحيح،‭ ‬فالخبر‭ ‬مرتبط‭ ‬بالحدث‭ ‬والحدث‭ ‬مرتبط‭ ‬بالخبر‭. ‬

هنا‭ ‬وبطريقة‭ ‬تلقائية‭ ‬يجيبنا‭ ‬القاص‭ ‬عن‭ ‬سؤاله‭ ‬حين‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يُنكَر‭ ‬فضل‭ ‬المؤرخ‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬المفاهيم‭ ‬المفسِّرة‭ ‬الملهِمة،‭ ‬لكن‭ ‬فضل‭ ‬القاص‭ ‬سابق،‭ ‬إذ‭ ‬هو‭ ‬حكم‭ ‬الأخباريّ،‭ ‬وأنتَ‭ ‬خبير‭ ‬أن‭ ‬الأخباريَّ‭ ‬هو‭ ‬مُوَرّدُ‭ ‬مادةِ‭ ‬المؤرخ‭ ‬الخام‭. ‬والناقدُ‭ ‬بصير‮»‬‭.‬

سؤال‭ ‬الهوية‭:‬

يشكل‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬سؤالا‭ ‬مرتبطا‭ ‬بسؤال‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬ترابطية‭ ‬وجودية‭ ‬فلسفية‭ ‬تقتضي‭ ‬توفر‭ ‬الأنا‭ ‬والآخر‭ ‬معا‭. ‬وقد‭ ‬اشتغل‭ ‬القاص‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬على‭ ‬عنصر‭ ‬الهوية‭ ‬من‭ ‬نواحٍ‭ ‬عدة‭ ‬منها‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬وإشكالية‭ ‬الآخر؛‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية؛‭ ‬اضطراب‭ ‬الهوية؛‭ ‬قضية‭ ‬الانتماء‭ ‬لهوية‭ ‬معينة‭ ‬أو‭ ‬الاستلاب؛‭ ‬ثم‭ ‬اللغة‭ ‬كمكون‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬الهوية‭. ‬ويحدد‭ ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬الهوية‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تصان‭.. ‬إلا‭ ‬بأن‭ ‬يتمسك‭ ‬الشعب‭ ‬بثقافته‭ ‬التي‭ ‬ورثها‭ ‬عن‭ ‬أسلافه،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬العقيدة‭ ‬وفي‭ ‬اللغة‭ ‬وفي‭ ‬الفن،‭ ‬وفي‭ ‬الأدب،‭ ‬وفي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النظم‭ ‬الاجتماعية‮»‬‭ ‬فالهوية‭ ‬ملازمة‭ ‬للإنسان‭ ‬مكونة‭ ‬لشخصيته‭ ‬ومحددة‭ ‬لمعالمه‭ ‬بشكل‭ ‬ثابت‭. ‬ما‭ ‬يمنح‭ ‬إبداعه‭ ‬طابعا‭ ‬خاصا،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬مسخا‭ ‬للآخرين،‭ ‬لهذا‭ ‬تعدّ‭ ‬شرطا‭ ‬ملازما‭ ‬للفرد،‭ ‬يؤثر‭ ‬في‭ ‬الجماعة‭ ‬ويمنحها‭ ‬سمة‭ ‬خاصة‭ ‬بها،‭ ‬لذا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬فصل‭ ‬‮«‬الأنا‮»‬‭ ‬عن‭ ‬الـ»نحن‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬الهوية‭ ‬تحقق‭ ‬شعورا‭ ‬غريزيا‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬الجماعة‭ ‬والتماهي‭ ‬بها،‭ ‬فتتبادل‭ ‬معها‭ ‬الاعتراف،‭ ‬وبذلك‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اختزالها‭ ‬في‭ ‬تعريف‭ ‬صافٍ‭ ‬وبسيط‭ ‬‮«‬‭.‬

وعن‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬بين‭ ‬الأنا‭ ‬وإشكالية‭ ‬الآخر‭ ‬فقد‭ ‬جنحت‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬لهذا‭ ‬السؤال‭ ‬عبر‭ ‬طرح‭ ‬متنوع‭ ‬لغويا‭ ‬وثقافيا‭ ‬وسلوكيا‭. ‬نذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬محضر‭ ‬ذمة‭ ‬معكوسة‮»‬‭ ‬فنجد‭ ‬تصويرا‭ ‬لصراع‭ ‬بين‭ ‬شخصيتين‭ ‬مغربيتين،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬والمشادة‭ ‬الكلامية‭ ‬بينهما‭ ‬تطفح‭ ‬هوية‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهما‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬البلد‭ ‬الأم‭ ‬الذي‭ ‬ينتميان‭ ‬له‭. ‬فالأول‭ ‬مغربي‭ ‬أمريكي‭ ‬والثاني‭ ‬مغربي‭ ‬سويسري،‭ ‬خلف‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬تنكشف‭ ‬لنا‭ ‬ثقافات‭ ‬أخرى‭ ‬ينتمي‭ ‬إليها‭ ‬كل‭ ‬منهما‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬النِّزال‭ ‬بينهما‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬كشف‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الانتماء‭ ‬الجغرافي،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬يستنجد‭ ‬بها‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ضمان‭ ‬حقوقه‭ ‬وحمايته‭ ‬ورد‭ ‬اعتباره،‭ ‬لأن‭ ‬الهوية‭ ‬تحددها‭ ‬عدة‭ ‬شروط‭ ‬وليس‭ ‬الدين‭ ‬واللغة‭ ‬والمحيط‭ ‬الجغرافي‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تتعدى‭ ‬ذلك‭ ‬لتشكل‭ ‬شخصية‭ ‬لها‭ ‬بصمة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الآخر‭. ‬ونجد‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬هوية‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تغيير‭ ‬لملامح‭ ‬الوجه‭ ‬عبر‭ ‬عمليات‭ ‬التجميل،‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬عيب‭ ‬خِلقي‭ ‬أو‭ ‬حادث‭ ‬مروّع‭ ‬خلّف‭ ‬أضرارا‭ ‬بشعة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الوجه،‭ ‬بل‭ ‬لغرض‭ ‬‮«‬جمالي‮»‬‭ ‬فقط،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬‮«‬بريستيجي‮»‬‭ ‬ربما‭.. ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬الجميلة‭ ‬والنووي‮»‬‭. ‬يقول‭ ‬السارد‭: ‬‮«‬كأنما‭ ‬خُلِقا‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬صُنْعَهُما‭ ‬قد‭ ‬أعيد‮»‬‭.  ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬يحاول‭ ‬السارد‭ ‬أن‭ ‬يفهمنا‭ ‬أن‭ ‬بطلي‭ ‬القصة‭ ‬‮«‬غيتة‮»‬‭ ‬و«ريان‮»‬‭ ‬أصبحا‭ ‬يمتلكان‭ ‬وجها‭ ‬جديدا‭ ‬وهوية‭ ‬جديدة‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬رغباتهما،‭ ‬خصوصا‭ ‬أن‭ ‬بطلي‭ ‬القصة‭ ‬أحبا‭ ‬شكلهما‭ ‬الجديد‭ ‬ولهما‭ ‬استعداد‭ ‬لعمليات‭ ‬أخرى‭ ‬إن‭ ‬استدعى‭ ‬الأمر‭ ‬ذلك‭!‬

هناك اضطراب في الهوية في شخصيات قصة «أداة نداء» إذ أن الشخصيات محكوم عليها أن تلبس هوية فرنسية داخل مقر عملها بحكم تعاملهم مع زبائن فرنسيين

ونجد‭ ‬اضطرابا‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬شخصيات‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬أداة‭ ‬نداء‮»‬‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬الشخصيات‭ ‬محكوم‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تلبس‭ ‬هوية‭ ‬فرنسية‭ ‬داخل‭ ‬مقر‭ ‬عملها‭ ‬بحكم‭ ‬تعاملهم‭ ‬مع‭ ‬زبائن‭ ‬فرنسيين،‭ ‬فحتى‭ ‬أسماؤهم‭ ‬فرض‭ ‬عليها‭ ‬التغيير‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬عربية‭ ‬إلى‭ ‬أسماء‭ ‬فرنسية‭ ‬أو‭ ‬أجنبية‭ ‬عموما‭. ‬ونجد‭ ‬بطل‭ ‬القصة‭ (‬إدريس‭) ‬يصاب‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الفصام‭ ‬حين‭ ‬يتم‭ ‬النداء‭ ‬عليه‭ ‬بين‭ ‬اسمه‭ ‬الأجنبي‭ ‬العَمَلي‭ ‬‮«‬إيريك‮»‬‭ ‬واسمه‭ ‬الحقيقي‭ ‬‮«‬إدريس‮»‬‭. ‬يقول‭ ‬السارد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬إحدى‭ ‬الشخصيات‭: ‬‮«‬راه‭ ‬مازال‭ ‬داخل‭ ‬فْ‭ ‬‮«‬إيريك‮»‬‭ ‬مْسِيكِينْ‭..‬‮»‬‭. ‬

وفي‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬مازال‭ ‬يتمشى‭ ‬قاصدا‭ ‬محطة‭ ‬الترامواي‭ ‬الأقرب‭. ‬شاردا‭. ‬مازال‭ ‬لم‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬شرنقة‭ ‬‮«‬إيريك‮»‬‭. ‬

أما‭ ‬قضية‭ ‬حلم‭ ‬الانتماء‭ ‬لهوية‭ ‬معينة‭ ‬أو‭ ‬الاستلاب‭ ‬فنجدها‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬جذور‭ ‬معكوسة‮»‬‭ ‬مع‭ ‬‮«‬عمر‭ ‬الكنتاوي‮»‬‭ ‬الشاب‭ ‬المغربي‭ ‬ذي‭ ‬ثقافة‭ ‬ودراسة‭ ‬أمريكيتين،‭ ‬والذي‭ ‬يُمَنّي‭ ‬نفسه‭ ‬بالانتماء‭ ‬لقبيلة‭ ‬أمريكية‭ ‬معينة‭ ‬‮«‬كونتاكينتي‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬‮«‬الكنتاوي‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬الجد‭ ‬الأعلى‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬العم‭ ‬الأعلى‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬القرابة،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬تعليلات‭ ‬‮«‬عمر‮»‬‭ ‬الساخرة‭ ‬في‭ ‬انتمائه‭ ‬لأمريكا،‭ ‬حسب‭ ‬قصة‭ ‬الكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬أليكس‭ ‬هالي‭ ‬في‭ ‬‮«‬جذور‮»‬‭. ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الطرح‭ ‬يتبين‭ ‬لنا‭ ‬أننا‭ ‬نعيش‭ ‬بين‭ ‬قطبين‭ ‬‮«‬الانشداد‭ ‬إلى‭ ‬هوية‭ ‬وميراث‭ ‬وذاكرة‭ ‬تاريخية،‭ ‬ونعيش‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه‭ ‬واقع‭ ‬التهجين‭ ‬المستمر‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬اختراق‭ ‬فضاءاتنا‭ ‬بوسائط‭ ‬سمعية‭ ‬ـ‭ ‬بصرية‭ ‬وبترجمات‭ ‬وخطابات‭ ‬وأشياء‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة،‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬صيرورة‮»‬‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬حديثنا‭ ‬عن‭ ‬الهوية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬مكوناتها‭ ‬اللغة،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬اشتغل‭ ‬عليها‭ ‬القاص‭ ‬على‭ ‬عنصر‭ ‬اللغة‭ ‬الثانية‭ (‬الفرنسية‭) ‬كعنصر‭ ‬معيق‭ ‬في‭ ‬عميلة‭ ‬التعلّم‭ ‬أو‭ ‬مجال‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬نجد‭: ‬‮«‬أداة‭ ‬نداء‮»‬،‭ ‬‮«‬أو‭ ‬يهان‮»‬،‭ ‬‮«‬على‭ ‬ذمتي‮»‬‭. ‬نستنتج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬أن‭ ‬اللغة‭ ‬الأم‭ ‬ليست‭ ‬هي‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬الهوية،‭ ‬بل‭ ‬التمكن‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬أو‭ ‬لهجات‭ ‬أخرى‭ ‬تساعد‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬هوية‭ ‬متوازنة‭ ‬إن‭ ‬صحّ‭ ‬التعبير‭ ‬نفسيا‭ ‬واجتماعيا‭.‬

الهوية‭ ‬إذن‭ ‬بصمة‭ ‬الإنسان‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬إن‭ ‬توفرت‭ ‬لديه‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬أعماقها،‭ ‬وإن‭ ‬ضاعت‭ ‬منه‭ ‬بحث‭ ‬عنها،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬دائم‭ ‬عنها‭ ‬سواء‭ ‬وجدها‭ ‬أم‭ ‬فقدها‭. ‬لأن‭ ‬‮«‬السعي‭ ‬وراء‭ ‬هوية‭ ‬هو‭ ‬نضال‭ ‬وجودي‭ ‬يائس‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬أسلوب‭ ‬للحياة‭ ‬يمكنه‭ ‬الاستقرار‭ ‬ولو‭ ‬لحظة‭ ‬قصيرة‮»‬‭.‬

٭‭ ‬كاتبة‭ ‬مغربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية