تقويض النظام الفيدرالي في العراق

دعا الكرد إلى النظام الفيدرالي في العراق، لأول مرة، في مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية عام 1992، وتكرست هذه الدعوة في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية عام 2002 وفي بيانه الختامي أقرّ المجتمعون أن النظام الفيدرالي يمثل صيغة مناسبة لحكم العراق ينبغي الاستناد اليها لحل المشكلة الكردية، لكن الواقع أن الدعوة إلى تبني النظام الفيدرالي لم تكن دعوة حقيقية يتبناها الجميع.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، كان واضحا أن الأمريكيين تبنوا فكرة النظام الفيدرالي للعراق بشكل صريح، فقد نصت المادة الرابعة من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي وضعوه على أن «نظام الحكم في العراق «اتحادي (فيدرالي)» يجري فيه تقسيم السلطات بين الحكومة الاتحادية «والحكومات الإقليمية والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية».
وفي سياق كتابة الدستور العراقي الدائم عام 2005 كان الفاعل السياسي الشيعي مصرا على تبني فكرة النظام الفيدرالي، رفقة الكرد، في ظل معارضة معلنة للفاعلين السياسيين السنة؛ فقد دعا عبد العزيز الحكيم (رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) بشكل علني، إلى إقامة إقليم يضم جميع المناطق الشيعية، وصرح هادي العامري (زعيم منظمة بدر) بأن «على الشيعة المضي قدما في إقامة فيدرالية في الجنوب وإلا سيندمون» وأن «المركزية» لم ينتج عنها سوى الموت!
هكذا تبنى الدستور، الذي كتبه في الواقع، الفاعلون السياسيون الشيعة والكرد، مبدأ النظام الفيدرالي، وقررت المادة 119 بأنه يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم، وعلى أن يسن مجلس النواب «في مدة لا تتجاوز ستة أشهر» قانونا لتحديد الإجراءات التنفيذية بتكوين الأقاليم بالأغلبية البسيطة لأعضاء المجلس فقط!
لكن ما جرى بعد ذلك أثبت أن الموقف من النظام الفيدرالي كان محكوما بالسياق السياسي؛ فالفاعل السياسي الشيعي تبنى النظام الفيدرالي لأنه كان يعتقد أنه لن يتمكن من فرض سطوته على حكم العراق ككل، وبالتالي لا بد له من ضمان سلطته على إقليم شيعي في الوسط والجنوب، لكنه شعر في النهاية أنه قادر على إحكام سيطرته على الدولة، بدأ برفض النظام الفيدرالي بشكل صريح، فقام رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي في الأعوام 2011 و2012 برفض طلبات تشكيل أقاليم تقدمت بها محافظتا صلاح الدين وديالى، مع أنه لا يملك صلاحية الرفض والقبول من الأصل! فقانون الإجراءات التنفيذية لتشكيل الأقاليم رقم 13 لسنة 2008 نص على أن على مجلس الوزراء إحالة أي طلب لتقديم الإقليم إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لإجراء الاستفتاء خلال 15 يوما من تاريخ الطلب، ومراجعة محاضر مناقشة القانون في مجلس النواب تكشف أن الغاية من تقديم الطلب إلى مجلس الوزراء وليس إلى المفوضية مباشرة كان لغرض «وضع التخصيصات المالية» لإجراء الاستفتاء حصرا!
في المقابل كان ثمة انقلاب في موقف الفاعل السياسي السني، الذي كان رافضا بشكل مطلق للنظام الفيدرالي، لكنه ولأسباب سياسية أيضا، تحول إلى موقف مضاد بعد احتكار الفاعل السياسي الشيعي للسلطة في بغداد، وأصبحت الدعوة للأقاليم تحظى بقبول واسع في الأوساط السنية!

انقلاب الفاعلين السياسيين الشيعة ضد النظام الفيدرالي لم يقف عند حدود رفض تشكيل أقاليم جديدة، بما في ذلك إقليم البصرة، بل تجاوز ذلك إلى محاولة تقويض النموذج الفيدرالي القائم في إقليم كردستان نفسه

لكن انقلاب الفاعلين السياسيين الشيعة ضد النظام الفيدرالي لم يقف عند حدود رفض تشكيل أقاليم جديدة، بما في ذلك إقليم البصرة، بل تجاوز ذلك إلى محاولة تقويض النموذج الفيدرالي القائم في إقليم كردستان نفسه. وقد بدأ الأمر بشكل ارتجالي باستخدام الضغوطات المالية عبر عدم تسليم الأموال المخصصة في الموازنة الاتحادية في الولاية الثانية للمالكي، ثم تحول الأمر إلى استراتيجية منهجية تُستخدم فيها المحكمة الاتحادية العليا أداةً أساسية في هذا التقويض!
وبدا واضحا أن ما كنا نقوله منذ سنوات طويلة عن صعوبة تطبيق النظام الفيدرالي في دولة ريعية قد تحقق، وأن التعارض المفاهيمي بين النظام الفيدرالي الذي يقوم على إضعاف المركز/ الحكومة الاتحادية، مقابل إعطاء صلاحيات واسعة للأقاليم، وبين واقع الدولة الريعية التي تجعل المركز/ الحكومة الاتحادية، أكثر قوة وسطوة بسبب سيطرتها على موارد الريع، وبالتالي التحكم بتوزيعه!
فقد توهم الفاعل السياسي الشيعي بأنه قد حسم صراعه مع الفاعل السياسي السني، وأنه استطاع تدجينه تماما، وهو الآن يتوهم أن بإمكانه إعادة صياغة العلاقة بين المركز/ الحكومة الاتحادية التي يحتكر قرارها، مع إقليم كردستان، بما في ذلك إعادة صياغة النظام الفيدرالي نفسه؛ سواء عبر إعادة تأويل النصوص الدستورية تبعا لعلاقات القوة، أو عبر استخدام المحكمة الاتحادية العليا لإعادة صياغة النص الدستور نفسه!
بل وصل الأمر إلى فرض وجهة نظر بغداد (اقرأ الفاعل السياسي الشيعي) في قضايا حصرية تتعلق بالإقليم، كما في قرار المحكمة الاتحادية الأخير بشأن قانون الانتخابات في إقليم كردستان؛ فالمحكمة لم تلتزم باختصاصاتها وصلاحياتها المتعلقة بعدم الدستورية، بل حولت نفسها إلى مشرّع يفرض نصوصا قانونية بعينها على الإقليم، وصل الأمر إلى تحديد المحكمة لعدد النواب في برلمان إقليم كردستان نفسه. وبالتالي ما قامت به المحكمة الاتحادية عمليا هو تقويض سلطة الإقليم في تشريع قانون انتخابات برلمان الإقليم!
والمفارقة هنا أن الفاعل السياسي الشيعي يستغل الصراعات الكردية البينية في عملية التقويض هذه، وهو ما كشف عن أزمة حقيقية داخل الإقليم سياسيا واجتماعيا، وهذا وحده ما يفسر الاندفاع الكبير للتصويت على انفصال الإقليم في استفتاء عام 2017 (صوّت 92.7٪ بنعم بمشاركة بلغت 72.1٪ من عدد الناخبين) لكنهم اليوم يبدون منقسمين تماما وهم يرون بغداد تقضم فيدراليتهم بشكل منهجي وتعيدهم تدريجيا إلى مركزية بغداد، وليس مستبعدا أن تقوم المحكمة الاتحادية بنقض قرارها رقم (54/ اتحادية/ 2017) المتعلق بالتعديلات الدستورية والذي قضى بأنه لا يمكن تطبيق أحكام المادة 126 من الدستور إلا بعد البت في التعديلات الدستورية الواردة في المادة 142. لتقرر هذه المرة إمكانية المضي بتعديلات دستورية وفق المادة 126 مباشرة، وهو ما يعني عمليا إمكانية أن يقوم «خمس» أعضاء مجلس النواب بتقديم اقتراح لتعديل الدستور، ومن ثم يمر هذا التعديل بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب وموافقة الشعب عليه بالاستفتاء العام، دون أن يكون لثلثي ثلاث محافظات القدرة على رفض هذه التعديلات كما تنص على ذلك المادة 142، وبهذا يفقد الإقليم أي قدرة على وقف تعديل دستوري قد يلغي النظام الفيدرالي، وبالتالي يلغي إقليم كردستان نفسه!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منبر نبيل بزونة:

    معناها الرجوع الى المربع الاول وهو ما يضمن وحدة العراق العظيم ..ككيان موحد متالف ذا سيادة وتقرير مصيره من دون تدخلات خارجية .. ليكون العراق القوي لاعب كبير اقليميا ودوليا والقضايا المصيرية القومية والعربية وذالك بعد طرد المحتل وذيوله واذنابه الذين لطالما عملوا على اضعافه وتفتيت وحدته ..ليرجع الى مقامه الاول في لعب دورا قياديا في ادارة الازمات الملحة على مستوى العالم العربي وعلى راس ذالك مقارعة الكيان الصهيوني ودعم القضية الفلسطينية واستجابتا الى تطلعات الاخوة الفلسطينية وحقهم في ارضهم وسمائهم وارضهم وبحرهم وطرد المحتل الصهيوني والوقف من الضد من الانظمة العربية المطبعة المتئسلمة

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    ” وفي سياق كتابة الدستور العراقي الدائم عام 2005 كان الفاعل السياسي الشيعي مصرا على تبني فكرة النظام الفيدرالي، رفقة الكرد، في ظل معارضة معلنة للفاعلين السياسيين السنة؛ فقد دعا عبد العزيز الحكيم (رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) بشكل علني، إلى إقامة إقليم يضم جميع المناطق الشيعية، وصرح هادي العامري (زعيم منظمة بدر) بأن «على الشيعة المضي قدما في إقامة فيدرالية في الجنوب وإلا سيندمون» وأن «المركزية» لم ينتج عنها سوى الموت! ” إهـ
    كانت المقاومة العراقية السنية ضد الأمريكان , بأوج قوتها بذلك الوقت !
    أما الآخرون فهم المتواطؤون مع أمريكا وإيران !!
    و لا حول و لا قوة الا بالله

  3. يقول ابو تارا:

    مخطط خبيث لتقويض سلطات وصلاحيات الاقليم والسبب خلافات وصراعات الساسة الكورد الداخلية واستغلالها من قبل المركز واداة التنفيذ المحكمة الاتحادية وينطبق على ساسة الكورد وخاصة الحزبين الكورديين الحاكمين المثل القائل وعلى نفسها جنت براقش

اشترك في قائمتنا البريدية