يعد المنجز الإبداعي «أتراك تشرقين غدا؟» للكاتبة المغربية فاطمة الزهراء مرابط كتابة سردية ذات خطاب يحمل دلالات ويجسد رؤية أنثوية للعالم وقضايا المرأة، ويعيد تشكيل وضعية شهرزاد في السرد القصصي المعاصر، هذا الوضع الذي ظل راسخا في ذاكرة السرد العربي، ويَبرز كلما توسلت المرأة بسرد الحكاية في معطى نصي تتمثل فيه صور متعددة لشخصية المرأة على اختلاف مستوياتها. وقد اخترنا رصد تمثلات المرأة في السرد القصصي المغربي انطلاقا من هذه المجموعة القصصية، لكونها تزخر بصور متعددة استطاعت أن تعبر عن واقع المرأة المعاصر وما يواجهها من تحديات في سبيل فرض وجودها الذاتي، كي تحقق توازنا في علاقتها مع الآخر ومع المجتمع.
المرأة الباحثة عن الذات
في قصة «الرقصة الأخيرة» تنكشف صورة امرأة مطلقة تم تشخيص حياتها الاجتماعية وعلاقتها برجل فرض عليها واقعا غير الذي كانت تحلم به قبل الزواج. تبتدئ القصة بقول الساردة (وهي تخاطب الشخصية): «هل أتعبك الطرق على الباب المغلق، الذي لا حياة فيه؟». تسجل القصة بدايتها بهذه العبارة التي تحتمل معنيين: معنى يوافق سياق السرد والحكي في النص، وهو خاص بشخصية القصة التي تطرق باب «سي الحسين» لعلها تجد عنده حلا لمشكلها. ومعنى يوافق وضع المرأة المطلقة بشكل عام؛ فالباب المغلق كناية عن الضياع الذي ساقها إلى مصير لم تكن تحسب له حسابا. تتساءل ما ذنبها حتى تكون كيانا عاجزا أمام قرارات الآخرين: «ألأني لم أخضع لرغبة رجل يغير مواقفه كما يغير قمصانه؟ أم لأني أطمح لحياة لا توجد إلا في خيالي؟». تصور القصة امرأة تبحث عن الذات في رحلة يشكل تفاصيلها الألم، ألمٌ يمثل نزيف جرح داخلي، وهو ما يحرك عملية السرد، للبوح باللوعة الدفينة والتعبير عن الرغبة في الانفصال عما يتعالق بذاكرتها من صورة امرأة مخدوعة، لم تكتشف قدرتها على المجابهة والاختراق، إلا بالرغبة التي قادتها – في طريق البحث- إلى لعبة التوحد بالبحر كعنصر مُطهر: «يغريك بالارتماء بين أحضانه» والارتماء هنا لا يعني الانتحار، لأن الانتحار هروب من مواجهة الحياة، وهو انهزم، في ما البحر بالنسبة إليها كائن متجدد مُطهر، تقول الساردة: «الأمواج وحدها تبعث فيك الروح، تحسسك بالولادة الجديدة». فاتحاد جسدها بجسد البحر يعادل انفتاح ذاتها على الخارج. والبحر فضاء رمزي لميلاد جديد، تعلن فيه صرخة التحدي: «لن أكون إلا أنا» فهي ولادة ذات ثائرة متمردة، تنفصل عن حمولة الماضي الأليم، وتنطلق نحو الآتي بذاكرة ثائرة.
المرأة/الزوجة: الجسد والأنوثة
إن القاصة لا تتوانى في عرض صورتين متقابلتين، قصد وضع المقارنة؛ حيث تنبني هذه المقارنة على قلق دفين لا تعلنه إلا الكتابة السردية. وطبيعة هذا القلق هو الوضع العام للمرأة في المجتمع، بين تيارين متناقضين، فإن كانت تعرض صورة المرأة المنقبة التي تصف لباسها على لسان الساردة بـ«الخيمة المتحركة» «لا شيء يميز الواحدة عن الأخرى» في المقابل تعرض صورة «نساء «الميني جيب» والفساتين الضيقة التي تسيل لعاب الرجال في المقاهي والشاشات المنزلية». وفي مقارنة أخرى بين صورتين للمرأة: صورة الزوجة التي تعتني بمنظرها ومظهرها محافظة على أنوثتها، مقابل صور الزوجة التقليدية التي تهمل أنوثتها، وتناست أنها قبل أن تكون امرأة فهي أنثى. تقول على لسان السارد: «لم لا تترك أمك شعرها منسدلا على كتفيها مثل سعاد؟ لم لا ترتدي اللباس الضيق في المنزل؟! أليست امرأة مثل باقي النساء؟ هل الزواج يجبر المرأة على التخلي عن أنوثتها؟ سعاد أيضا متزوجة ومع ذلك متأنقة ورائحتها زكية وضحكتها رنانة تزلزل القلوب القوية والضعيفة». نرى أن السرد هنا يرسم صورة الزوجة المهملة لأنوثتها من خلال وصف أنوثة سعاد، إنه تصوير لصورتين في صورة واحدة.
إن القاصة فاطمة الزهراء المرابط ترفض، من خلال شخصياتها القصصية، تلك الصورة التقليدية للمرأة، المحاصرة بسلطة العقلية الذكورية. وفي المقابل تؤمن بصورة المرأة/الزوجة/ الأنثى التي يبادلها الزوج الحب لاستمرارية علاقة الزواج على مستوى من التفاهم والتكافؤ الشعوري والعقلي.
إن قصص «أتراك تشرقين غدا؟» تقوم بتصوير الشخصية في بعدها الجسمي وأقوالها وحركاتها ومشاعرها، فتكَوِّن مرآة عاكسة لصورة الشخصية، كما تقوم بوصف الأخلاق والعادات الذاتية للشخصية ليحيلنا هذا الوصف إلى مكامن النفس، وهذا ما يقودنا إلى استخلاص أن الصورة في العمل الأدبي هي صورة بصرية وذهنية أيضا لأنها إعادة إنتاج عقلي لتجربة عاطفية وإدراكية.
المرأة المغتربة
في تناولنا لصورة المرأة المغتربة في قصص المجموعة، نجد أن الاغتراب عند شخصية قصة «اغتراب» أخذ في بداية النص شكله النفسي والذاتي نتج عن عزلة اجتماعية، تقول الساردة: «هي عادتها كلما طردها المجتمع من مخمله السرمدي، أسدلت ستائر الغرفة. لا ترغب في رؤية أشعة الشمس وهي تسلط نورها على ملامحها الكئيبة، لا للضوء، نعم للظلام، أسدلت جفنيها واستسلمت لسلطة النوم الأبدي». هذا الشاهد السردي يقدم صورة لامرأة تركن إلى ظلام العزلة، لعدم قدرتها على الاندماج والتكيف الاجتماعي، فتتساءل الساردة: «كيف قادتها الأقدار إلى الباب المغلق؟ لم عليها أن تكون مطيعة مستسلمة، حتى يقبل بها الآخر؟». فالأنا لا تعاني عزلتها داخل نفسها وحسب، بل تعانيها كذلك وسط الآخرين. ذلك نتيجة ضعف الروابط العاطفية، فالفرد في حالة انفصاله عن الآخرين يميل إلى الجمود، ويقل تفاعله مع غيره. وقد يرجع ذلك إلى انعدام التآلف أو ندرة التعاطف وانفصال الروابط الاجتماعية، فيركن إلى صراعاته الداخلية من جهة وصراعاته مع المجتمع المناقض لمبادئه من جهة أخرى، «وحينما تتجرد «الأنا» من العالم المألوف للحياة اليومية، تشتاق إلى وجود أكثر عمقا وأشد أصالة، وتتردد بين عزلتها وحياة المجتمع اليومية» ومثل هذه الصراعات قادت الشخصية إلى الشعور بضياع الغاية فسيطرت عليها فكرة الانتحار كحل وهمي للخلاص من وضع قائم. فبالرجوع إلى أول عبارة في القصة نجدها تشير إلى هذه الحالة، وتعلن عن رغبة الشخصية في إنهاء حياتها، تقول: «سأموت.. لمعت الفكرة في خيالها» وهي بداية تحمل دلالة استسلام لواقع أزَّم حياتها وحاصرها في عزلة اجتماعية ونفسية. والملاحظ أن القاصة لا ترضى لشخصياتها النسائية الانهزام أمام تحديات المجتمع والقيود، لأن السرد ظل مسترسلا مبتدئا من نقطة تعلن الهزيمة، إلى أن بلغ غايته فكسر أفق التوقع.
وقصة «أصوات» زاخرة بالصور التي تعبر عن اغتراب المرأة، سواء من خلال مواقف الشخصيات أو حوارها، وهي شخصيات متخيلة في نص روائي تمردت على الساردة في حلمها وحاكمتها بتهمة تحكمها في مصير الشخصيات النسائية. عالم متخيل خارج عن منطق المألوف، بيد أنه يقول الواقع أو يتقاطع مع الواقعي لهذا ساهم هذا التوظيف في رسم صورة المرأة المغتربة الباحثة عن الإنصاف معبرة عن ذلك بالتمرد.
المرأة المتمردة
يعد التمرد محاولة إخضاع أمر معين إلى وضع جديد يتفق مع رؤية الشخص المتمرد. وقد يختلف شكل التمرد من شخص إلى آخر، حسب أهداف المتمرد وغاياته. لهذا فهو نوعان كما جاء في مجموعة «أتراك تشرقين غدا؟»: التمرد الأول ديني، والثاني اجتماعي، وفي أحيان كثيرة يتداخل النوعان مع بعضهما حتى يظهرا نوعا واحدا. وإن وعي المرأة واتساع دائرته يجعلها تطرح تساؤلاتها حول دورها في الحياة، ووضعها في ثقافة مجتمع تسيَّد فيه الرجل، هذا الوضع جعل المرأة تؤمن بذاتها كإنسان. ولهذا السبب فإن المرأة في نصوص المجموعة تعبر عن موقفها بالتمرد على التقاليد والأعراف، التي ترى أنها قزمت من دورها في الحياة، وشلت حركتها وحريتها وتفكيرها. هذا التمرد يمثل فكرة عند شخصية قصة «هلوسات منتصف النهار» سببت لها مشاكل اجتماعية منذ نعومة أظافرها، ومنذ بدأ قلق السؤال يراودها، ولا تجد إجابات في محيطها غير القمع أو الترهيب. وقد عرضت قصة «هلوسات منتصف النهار» صورة امرأة ذات فكر ثائر على كل الموروثات الاجتماعية، بما فيها ما يرتبط بالتدين العام الذي يعم المجتمع، وهو تدين تراه لا يتساوق مع روح الدين ومضامينه وغاياته وإنما هو عبارة عن مظاهر صارت مع الممارسة عادات تناقض جوهر الدين، تقول مثلا: «شهر الإيمان» رددت في أعماقي، وأنا أراقب زميلاتي في العمل، وجوههن تحولت إلى ضفادع ممسوخة، بعدما اختفت المساحق الملونة وحلت محلها الظلال السوداء تحت الجفون النائمة، كم أتحسر على تفكيرهن التافه. «الحلال.. حلال، والحرام.. حرام في كل زمان ومكان». كما أن قصة «مخاض» تُساق على سبيل ترسيخ صورة المرأة المتمردة، لتجعلها أكثر جلاء، وإن كانت القصة تعالج قضية المرأة عموما وتنتقد ثقافة المجتمعات التقليدية التي لم تنفك من نزعة الانتصار للمولود الذكر. تنقلنا القصة إلى صورة جنين/أنثى تعبر في حديثها عن ذاتها بوعي زائد يرسم ملامح خطاب ثوري على التقاليد والأفكار القديمة، تقول: «ويتساءلون لم لا تساير المرأة ركب التنمية، كنت أسخر من نفسي، وأنا أتذكر أقوال جدتي الأثرية». ثم تقول وهي تخاطب والدها: «خرجت لأنعم بالحرية، فاحذر منذ الآن.. لا تفكر في تقرير مصيري، سأبكي إلى أن أموت، سأضرب عن الطعام، سأتمرد، سأعتصم». وهذا الخطاب الذي ساقته الكاتبة على لسان الأنثى/الجنين، إنما هو تمرد على بعض الأوضاع التي تعاني منها المرأة في المجتمعات التي ما زال يغلب عليها التمييز بين الجنسين، فمن رزق بأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم.
إن قصص «أتراك تشرقين غدا؟» تقوم بتصوير الشخصية في بعدها الجسمي وأقوالها وحركاتها ومشاعرها، فتكَوِّن مرآة عاكسة لصورة الشخصية، كما تقوم بوصف الأخلاق والعادات الذاتية للشخصية ليحيلنا هذا الوصف إلى مكامن النفس، وهذا ما يقودنا إلى استخلاص أن الصورة في العمل الأدبي هي صورة بصرية وذهنية أيضا لأنها إعادة إنتاج عقلي لتجربة عاطفية وإدراكية. فهي أداة للتعبير عن الشخصية، ووسيلة للتفكير وطرح الرؤى. وتقدم القاصة صورة صادقة للطبيعة البشرية للمرأة في حياتها المتنوعة، في إطار لا تظل فيه الصورة ثابتة لكونها مرتبطة بطبيعة الشخصيات التي تتغير في شكلها كما تتغير في باطنها لأنها تتغير مع نمط الحياة.
٭ كاتب مغربي