تناقض ديمقراطي: ما ثقافة «الشعب المسلم»؟

تحوي أغلب الدساتير العربية بنوداً، قد تكون محيّرة بعض الشيء لفقهاء القانون الجديين، تتراوح بين «الإسلام دين الدولة»، أو «دين رئيس الجمهورية»؛ وصولاً لاجتهادات مستحدثة، مثل الدولة «جزء من الأمة الإسلامية، وتعمل على تطبيق مقاصد الإسلام الحنيف»، كما في الحالة التونسية. وبالطبع، الفقه، أو الشريعة، مصدر أساسي للتشريع، أو مصدره الأساسي. كُتبت مئات الدراسات عن مثل هذه البنود، وكانت مثاراً لصراع سياسي وثقافي، لم ينقطع يوماً في أغلبية دول المنطقة، ولكن يبدو أن هناك مسألة يثق بها المشرّعون والحكّام بشدة، ولا ينكرها حتى معظم معارضيهم، وهي أن الشعب مسلم، وغالباً جزء من أمة هي «الإسلام»، ولكن ماذا يعني هذا حقاً؟
قد يكون المعنى أن هناك كتلة بشرية، هي الأغلبية المطلقة من السكّان، الإسلام أهم ما يعرّف ثقافتها، وبالتالي فعلى الدول أن تضع هذا بعين الاعتبار في دساتيرها، لتؤكد تلك الثقافة على مستوى السلطة التنفيذية (دين رئيس الدولة)، وكذلك على مستوى السلطتين التشريعية والقضائية (الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع)، كذلك يجب على الدولة أن تعيد إنتاج «الإسلام»، عبر أغلب أجهزتها ومؤسساتها، بما في ذلك التعليم والإعلام والثقافة الجماهيرية، بدرجة تتراوح طبيعتها وشدتها بين بلد وآخر، وتتصارع حولها القوى السياسية، والسلطة والمعارضة. قد يكون هذا تعريفاً بسيطاً للإسلام السياسي، فقد تحوّل الدين الإسلامي، الذي يصعب تحديد ماهيته الدقيقة، أنثروبولوجياً وعقائدياً، إلى مُعرّف لمجموعة سياسية حديثة، هي «الشعب»، ومرشد لعمل أجهزه سلطوية مركزية، هي أجهزة الدولة القومية.
إلا أن التناقض في هذا المنظور، وربما في الإسلام السياسي كله، هو أن ذلك يعني «علمنة» الدين الإسلامي، أي جعله أيديولوجيا مرتبطة بالسيادة الحديثة، تُعنى بتحديد ما اهتم به المفكرون القوميون حول العالم، أي السيادة والشعب والأمة وهوية الدولة، ولا علاقة كبيرة له بالشؤون الفقهية والتعبديّة التقليدية؛ الأهم أنه يجعل «الشعب»، وليس الله أو الكنيسة أو الحاكم المتغلّب، صاحب السيادة نظرياً، ولكن بعد أن يؤكد أنه «شعب مسلم»، أو جزء من أمة إسلامية. ولكن، ماذا إذا لم يعد «الشعب» يرى نفسه «شعباً مسلماً»؟ هل هذا الخيار مطروح أصلاً؟
الإجابة غالباً «لا»، فالإسلام، بوصفه هويةً أو روحاً، أمر مترسخ وأبدي في «الشعب»، الذي لا يمكن أن يكون إلا مسلماً، حسب المنظور نفسه. أما خارج هذا المنظور، وبعيداً عن الأرواح، فـ»الشعب» لا خيار له سوى أن يكون مسلماً من الناحية السياسية، لأن هنالك مؤسسات دولة مركزية، تعلّمه، وتحاكمه، وتربيه، وتنظّم شؤونه الشخصية والحيوية، وتمنع ارتداده، بناء على النسخة التي اعتمدتها من «الإسلام».
مرة أخرى، قيام الدولة القومية الحديثة بإدارة الدين، بوصفه من شؤونها السيادية والسياسية؛ وتثبيت نسخة منه في مدوّنة قانونية موحّدة ومركزية، هو شكل من أشكال علمنة الإسلام.
أكثر من انتبه لكل هذه التناقضات هم منظرو الحركات الإسلامية الأكثر راديكالية، من سيد قطب، مروراً بالخميني، وصولاً إلى المنظّر «الإصلاحي» في نتظيم القاعدة مصطفى ست مريم (أبو مصعب السوري). فالحاكمية لله، وجعلها بيد «الشعب»، حتى لو كان مسلماً، هو نوع من الشرك. كيف تترك شؤون الشرع، والحكم به، بيد العامة؟ وما الذي يضمن أن يبقى «الشعب» مسلماً، أو حتى أن يكون إسلامه صحيحاً؟ ماذا إذا ابتعد عن الدين، لدرجة أن يطالب بتشريعات وسياسات تحوي بدعاً، أو حتى كفراً بواحاً؟
فلنسأل أسئلة الإسلاميين الراديكاليين نفسها، فهذا قد يعيننا على فهم كثير مما يحدث في بلداننا، خاصة بعد سيطرة التنظيمات الإسلامية على دمشق، وسعيها لإنتاج «نموذج»، قد يؤثر في المنطقة، وكل حركات الإسلام السياسي حول العالم.

المكوّن الأبرز

التركيز على أن الإسلام «المكوّن الثقافي الأبرز في حياة الأمة»، ليس مجرد مقولة إنشائية، بل هو طرح سياسي مركزي في أيديولوجيات معظم الحركات الإسلامية، بل حتى بعض حلفائها، ممن يسمّون أنفسهم «مدنيين»، أي تيارات يسارية وليبرالية، دخلت في تحالف أو توافق طويل، لا ينتهي، مع الإسلاميين. مشكلة هذه المقولة/الطرح أنه من الصعب استخلاص أي معنى منها، فمدى اتساع دلالة مفردات مثل «الإسلام» و»الأمة»، قد يعني أنه يمكن تمرير أي مشروع، أو ممارسة سياسية، بمجرد أن نلصق عليها مظهراً إسلامياً ما، فتصبح «مكوّناً أبرز».
المعنى الجدي الوحيد، ربما، هو محاولة إنتاج جماعة سياسية، تؤسس خطابها الأيديولوجي، وروايتها التاريخية، على أنها «المكوّن الأبرز»، أي تجعل نفسها الجماعة المهيمنة، عبر طرح نفسها ممثلاً لثقافة «الأمة». في المجتمعات متعددة الطوائف بالذات، يؤسس هذا لإنتاج الطائفة المسيطرة سياسياً، والتي لا تعترف أنها طائفة بين طوائف، بل «الأمة» بحد ذاتها. يؤدي ذلك أيضاً إلى نوع من التمثيل الهرمي، فـ»الإسلام»، وهو الأبرز في الأمة، تمثّله الطائفة الأكبر؛ والطائفة تمثلها قوة إسلام سياسي ما، تلطف هيمنتها بجمع «مدنيين» حولها. كل هذه آليات كلاسيكية لإنتاج «الأغلبية»، مارستها الحركات القومية في الغرب والشرق، منذ القرن التاسع عشر، وارتبطت بإجراءات كثيرة، من إعادة إنتاج لغة وتقليد وثقافة «الشعب»، لتتناسب مع «روح الأمة»، وصولاً لإقصاء أو عزل فئات معيّنة، لعدم اتفاقها مع هوية الأغلبية. وفي الحالات الأكثر تطرفاً، إلغاء «الأقليات» الناتجة عن صناعة «الأغلبية»، ثقافياً، أو حتى ديمغرافياً.
في حالة الحركات الإسلامية فإن إعادة إنتاج «ثقافة الأمة» لا يمكن أن تمرّ إلا عبر الأسلمة، أي صياغة القوانين، التي من المفترض أنها إسلامية، وتسييد الرموز والمظاهر الإسلامية على الحيز العام. إذا سألنا: ما الإسلام الذي يتحدث عنه كل هؤلاء الإسلاميين؟ فربما الإجابة الأدق: إنه نتاج سياستهم الخاصة في الأسلمة، سواء بواسطة المؤسسات التي تملكها قواهم السياسية، أو عبر جهاز الدولة، في حال وصلوا إلى الحكم. وهذا يعني أن الأسلمة تحدد «الإسلام»، وليس العكس.
سبق لأحمد الشرع، قائد «هيئة تحرير الشام»، الحديث عن رغبته بـ»كيان سني»، عندما كان حكمه مقتصراً على أجزاء من محافظة إدلب، إلا أنه صار الآن مسيطراً على ثلثي الأراضي السورية على الأقل، وهي مساحة مليئة بالطوائف والإثنيات، ولذلك فإنه ليس مضطراً لذلك الكيان بعد اليوم، فقد بات بإمكانه أن يصبح «المكوّن الأبرز»، أي صاحب الدولة، القادرة على الأسلمة، وإنتاج الجماعة السياسية المتغلّبة؛ ومؤسِّساً لـ»نظام أقليات» في ذمته. ولكن هل يمكن للشرع، حتى لو حقق كل هذا، تجاوز تناقض «الشعب المسلم»؟

الحوكمة والسيادة

لم يهتم تنظيم «القاعدة»، في جيله الأول، بإنتاج أي «شعب»، أو جماعة سياسة شعبية، كان جهاده معولماً، عابراً لكل الحدود، ويلاحق العولمة الأمريكية من بلد إلى بلد، كشبح أو مسخ، ناتج عن تلك العولمة نفسها. تكفيه مجموعة من الجهاديين والاستشهاديين، لنصرة أمة غير متعيّنة، تمتدّ بلا حدود. إلا أن تجارب «القاعدة»، من الشيشان حتى العراق وسوريا، طوّرت من فكرها تدريجياً: هنالك مجتمعات، لا بد من التعامل معها، ولكل منها ظروف مختلفة جداً، وبالتالي فعلى جماعة المجاهدين، إما أن تقمع تلك المجتمعات، وهي تقاتل عدوها في الوقت نفسه؛ أو أن تجد طريقة للتفاعل معها، دون أن يحرفها ذلك عن الهدف الجهادي الأسمى.
هنا يقدّم مصطفى ست مريم اقتراحاً مهماً: يجب أن يكون المجاهدون محليين أكثر، متفهمين لأوضاع مجتمعاتهم، لا مقاتلين أممين يفرضون أنفسهم عليها. يجب بالأحرى مراعاتها، ولكن دون الاندماج بها تماماً، أو الخضوع لسيادتها. والحل هو مأسسة العمل الجهادي داخل المجتمعات المحلية، وصولاً لتحقيق أهداف سياسية وحربية معيّنة. لا سيادة شعبية هنا، ولا تحكيم للعامة في شؤون الشريعة والجهاد، وإنما إنتاج مؤسسات قادرة على تجذير العمل الجهادي في بيئات متعددة، عبر استيعاب الناس، وإعادة تربيتهم على الإسلام الحقيقي. يبدو أحمد الشرع تلميذاً نجيباً لست مريم، فهو لم يذكر مفردة «ديمقراطية»، أي سيادة العامة، أي مرة، بل تحدث كثيراً عن «إعادة بناء المؤسسات»، ربما لأن «الشعب المسلم» قد لا يجد نفسه في «ثقافة الأمة» التي يعتقد بها الشرع، ويراها «المكوّن الأبرز». رغم هذا فإن قائد «هيئة تحرير الشام» يتعرّض لضغوط من حلفائه والمجتمع الدولي، ويحتاج إلى اكتساب نوع من الشرعية المعلمنة، ولن يستطيع التهرّب من الحديث عن انتخابات، ودستور، و»توافق السوريين»، ما سيجعله، مرة أخرى، تحت ضغط تناقض «الشعب المسلم»، الذي قد لا يكون مسلماً للدرجة التي يتمناها.
تصعب معرفة الطريقة، التي سيتعامل بها المسيطر الجديد على دمشق مع ذلك التناقض، هنالك عدة احتمالات، من بينها أن يسعى لانتخابات أقرب للمبايعة، باعتباره «المحرر»؛ ويعمل على إقامة «نظام حماية أقليات»، حسب تعبير وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في المؤتمر الصحافي الذي عقده مؤخراً مع الشرع. ومزيج المبايعة ونظام حماية الأقليات، لا يبدو غريباً عن سوريا، فهو كان أساسياً في نظام الأسد الأب، أما «الحوكمة» فكانت من اختصاص الأسد الابن، في أول سنوات حكمه. هنالك احتمالات أسوأ أو أفضل بالتأكيد، ولكن تناقض «الشعب المسلم»، الذي كان «شعباً عربياً»، دولته مسلمة، في زمن البعث، قد لا ينتج أكثر من هذا.
ربما يحلم الشرع بحل التناقض نهائياً، على طريقة بعض أبناء جيله من الإسلاميين الراديكاليين، أي «الحوكمة» الإسلامية بديلاً تاماً عن السيادة الشعبية، ويسعى جديّاً لذلك؛ وربما ينهار حكمه، وينحل إلى حروب ميليشياوية لا تنتهي. في كل الأحوال فإن نموذج الشعب الواحد، المكوّن من «أغلبية» تعتبر ثقافتها «المكوّن الأبرز في الأمة»، لدرجة الحد من أبسط أساسيات حرية المعتقد والتعبير والعمل السياسي، لا يعد بكثير من التغيير. ومن البعث إلى «القاعدة»، بكل مسيرات «التطوير والتحديث» التي عرفاها، ما زلنا في المأزق نفسه. وربما كان لا بد من كسر هذه الدائرة المفرغة: إما إلغاء مفهوم «الشعب» وسيادته، على طريقة الإسلاميين الأكثر راديكالية؛ أو تجاوز الإسلام السياسي نفسه، أي مفهوم الدولة ذات الروح والدين.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أبو فراس:

    شكرا أستاذ محمد على هذا المقال الرائع. يفترِض كل ما تقوله اذعان المجتمع لاطروحات الجولاني وهو الآن والحق يقال لا يطرح شيئا وإنما يفعل فقط. السؤال في رأيي لماذا يتأخر المثقفون في الذهاب إلى دمشق و طرح كل الإشكاليات هناك. المرحله الآن مناسبه لهذا، لان القمع ان كان مشروع الجولاني فلا يستطيع ممارسته علنيا. لذلك ارى ان السلبيه وانتظار ما سيفعله الجولاني امر غير صحيح كوننا ننتظر منه ما لا يستطيع تقديمه: مشروع بناء وطن. فلنفترض حسن النيه و نأخذ بيد السلطه الجديده، لعل وعسى.

  2. يقول منار ديب:

    المسلمون يشكلون اقلية كبيرة في عدد من البلدان الغربية هل لهم حقوق الاقلية القانونية والثقافية والسياسية! وهل يحق لهم المطالبة بذلك ؟ هل يحق لهم تغيير الطابع الغربي المسيحي للبلدان؟
    مهاجرين! ليس هناك شعوب اصلية واخرى مهاجرة والدول كلها مصطنعة من مصر إلى إسرائيل إلى المانيا، اسبانيا كانت تحت الحكم العربي الاسلامي ويحق لاحفاد الموريسكيين المطالبة بها او الهجرة اليها بكثافة هربا من الدكتاتورية والفقر!!!

اشترك في قائمتنا البريدية