لا يمنع التوثيقُ والاعتماد على واقع وحقيقية الأحداث والشخصيات الرواياتِ من أن تكون ناجحةً ومتألقةً بكل ما للرواية من معانٍ، عندما يَنسجُ الروائي نصَّ روايته، بمغزل فن الرواية، ويبتكر لها أو يدَعَها بالأصح، إن كان واثقاً من سيطرة لا وعيه عليها، تسرحُ كما مهرةٍ أصيلةٍ، في سهلِ ما تبتكر من أعشاب الأشكال التي تتناغم مع مواضيعها. بما في ذلك عشب الخيال الذي يُعتبر ظاهراً نقيضَ التوثيق من جهة عدم حسبانه للواقع وحقيقةِ الأحداث والشخصيات، لكنه في الجوهر، وبما يتكشّف للقارئ بالإحساس ويتأكد بالدراسة، سرعان ما يتبلور توأماً للواقع، لا تتألّق الرواية التي تتغذى عليه في سهل أعشابها إلا بوجوده.
في نوع الروايات التي تعتمد مزاوجة الواقع بالخيال، يدفع عوّاد علي، الروائي العراقي الذي عُرف باعتماده الواقعَ أساساً في رواياته المرسلة ملائكةَ تعايشٍ للإثنيات المتناحرة، روايتَه الواقعية أساساً «توأم البحر»، إلى أقاصي حدائق بابل الخيال المعلّقة، وإنْ بتناقضٍ مع يباس آشور الذي يتمحور حوله خيال الرواية، لتشكِّلَ ما يُعرف بالفانتازيا.
وفي محاولة وتمنيات أن تمتلك الرواية عصا سحر إعادة التآلف بين الإثنيات، ويبدو أن هذا هو جوهر ما تصبو إليه، يقيم علي خشبة مسرحَ جحيمٍ لتجاذب وتنابذ واقع العراق الدامي، بتسليط بؤرة ضوئه على المسيحيين الآثوريين/ أحد أكبر ضحايا الطائفية، بمعاناة خطفهم وتفجيرهم ودفعهم للهجرة من قبل تنظيم الإرهاب داعش، وخصوصاً في الموصل. تحت الصمت المريب للسلطة الطائفية، كما لو كان تواطأً شيطانياً لدفعهم إلى الهجرة أو تصفيتهم إذا لم يفعلوا ذلك، حيث نعرف جمال تعايش كركوك من سرد المسيحي الآثوري نينوس عن صديقه المسلم عمران، الذي أحبّ أجواء الكنيسة، و «كان يستمتع بالشعائر والطقوس التي تقام فيها، والإصغاء إلى أنغام موسيقاها وتراتيلها، ويبدي سعادته بالاطلاع على تقاليدنا الاجتماعية، وينخرط أحياناً، بعد انتهاء المناسبة، في حوار مع راعي الكنيسة حول قضايا معقدة في عالم الكهنوت والليوتورجيا. ومهما بدا الأمر بعيداٌ عن التصديق فقد كان يحاور برويّة وعقلٍ مفتوحٍ جعلني أعيد النظر ببعض المسلّمات التي أؤمن بها».
مثلما سنعرف بعد ذلك، في فانتازيا مزاوجة الواقع بالخيال، التي تبدأ من الفصل الثامن في الرواية، دمارَ هذا التعايش وتصويره، باختطاف أميرة الخيال الآشورية شميرام أثناء عرسها مع ابن الحاضر الواقعي نينوس. والإشارة إلى أن الشرطة لا تفعل شيئاً تجاه أعمال خطف الآثوريين من قبل الإرهابيين والميليشيات المسلحة، حيث:
«قال الضابط، الذي بدا لي وجهه شبيهاً بوجه نافخ البوق المرافق للملك آشور:
ــ نحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً.
ثم تثاءب ونهض من كرسيّه، كأنه يشير إلينا أن ننصرف، لكننا لبثنا في مكاننا.
قلت له:
ــ كيف لا تستطيعون أن تفعلوا شيئاً وهي عملية إرهابية؟
نظر إليّ نظرة المباغض المستهين، وقال:
ــ اذهب وبلِّط البحر.»
أبعد من تبليط البحر:
أمام استحالة فعل شيء يردّ الإرهاب والتهجير الواقعي، حتى في الرواية الواقعية، يقيم علي عرساً شاعرياً لتزاوج الإثنيات في الواقع، والثنائيات المتضادة في الرواية، على خشبة واقع مدينة كركوك العراقية، التي تم اكتشاف غنى أرضها بالنفط. كي يكون لعنتَها، وتفكُّكَ تسامُحها، ومصدرَ تعاسةِ إثنياتها التي عاشت جنة التزاوج الحلو الغني بتداخل وتفاعل ثقافاتها، قبل أن ينقلب إلى جحيم طلاق هذه الإثنيات، بفعل غزاتها الخارجيين، وتحريضهم أنيابَ دواخلها الكامنة في المعتقدات على البزوغ وأكل بعضها، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.
وفي ذلك يلجأ علي إلى تكوين روايته في بنيةٍ تتضمّن واحداً وعشرين فصلاً بأرقامٍ ومن دون عناوين، ويعتمد في تبسيط تشويقه على مبدأ توسيع الرؤية بضيق العبارة، وجعل الرواية قصيرةً، بقصديةٍ يُصرّح بها على لسان بطلته التركمانية أسين، التي ترسل إلى بطله السارد نينوس: «روايةً، وفي داخلها ورقة مكتوبة بخط يدها تقول «… إذا كانت لديك رواية أخرى للكاتب نفسه أعرنيها، شريطة أن تكون قصيرةً، لأنني لم أعد أستطيع هضم الروايات البدينة». أضحكتني عبارتها الظريفة أول الأمر، ثم رأيت أنها محقّة، فالقارئ في زمننا ما عاد يتحمّل الإطناب».
ويضع علي روايته في منظومةٍ سرديةٍ بسيطة كذلك، تعتمد راوياً واحداً يرتدي قناعه، بصيغة سرد المتكلم هو نينوس. ويعتمد في زمن السّرد على قَصْرِه بالامتداد المستقيم من الماضي إلى الحاضر، دون مداخلة الماضي بالحاضر والمستقبل. لكنه عوضاً عن ذلك، ودون أن يتخطّى تداخل الأزمنة وإلغاء الزمن وفق العوالم الموازية، يخترق الزمن مُحضِراً الملك آشور ناصر بال المختلَف في أنه باني مدينة أرابخا/ كركوك، إلى زمن الحاضر، بحصر الاختراق في مفهوم بطله عن الاختراق الذي شهده باحتمالين: «إما أن تكون أرواحهم حلّت في أجسام آخرين عن طريق التناسخ، أو أنهم كائنات بحرية حوّلتهم قوة سحرية تسكن في أعماق البحر إلى بشرٍ بهذه الهيئة».
في منح الألق لمزاوجاته، يلجأ علي إلى مسرح العبث، الذي يظلّل الرواية بطريقة الحوار، فيقفز إلى ما فوق الواقع، ليس بمزاوجته إبداعياً بالخيال فحسب، بل ومزاوجة هذه المزاوجة بالكتابة نفسِها كبطلة من أبطال الرواية، مثلما يزاوج رواية بطله السارد بروايته في ما يعرف بالرواية داخل الرواية.
ويصعد علي أكثر بروايته إلى التألّق في توسيط عِقدها بثيمة البحر، توأمِ ساردها نينوس، الذي يعاني الواقعَ المستحيل اختلالاً، فيشكّله خيالاً يوجَدُ في مدينة كركوك التي لا يوجد بها بحرٌ، بعد إعادته لها إلى أصلها الآشوري «أرّابخا». ويُعرّفنا عن هذا البحر منذ بدايات الرواية أنه «لا وجود له على الخارطة.»، مثيراً تساؤلات قارئه ومذكراً إياه، بجملتيه في تقديم الرواية، الأولى التي يوردها عن الروائي جنكيز إيتماتوف: «كل من وُلد رجلاً عليه أن يتآخى مع البحر منذ الصغر حتى يعرفه»، والثانية عن الشاعر نوري الجراح: «كان البحر نافذتي وصوتيَ والشراع».
ويصعد علي بثيمة بحر الخيال الذي لازم بطل روايته كتوأم له، وربما لازَمَه كذلك، من الحكاية التوثيقية إلى الرواية المتألّقة، في مزاوجة هذه الثيمة باختراق الزمن، ومزاوجة روايته برواية بطله، حيث نعرف أن نينوس دارس علم الآثار للحصول على الماجستير، روائيّ يحاول بتحريض شفائيٍّ من صديقه عمران، كتابةَ روايةٍ يبلور فيها استيهاماته التي حدثت بعد شرب ثلاثة أرباع قارورة نبيذ. ويؤمن أنها حقيقةٌ، عن رؤيته خرقَ الملك آشور ناصر بال لزمنه الماضي إلى حاضر كركوك، مع عائلته وحاشيته، كي ينقذ المدينة التي طوّرها من الذين يحاولون تجفيف ضرعها بأطماعهم الرخيصة التي يتخللها قتل التعايش بين إثنياتها. وهذه الرواية كما سيكتشف القارئ ربما هي ذاتها «توأم البحر»، الذي أدهشه منذ طفولته في الثامنة امتدادُه على مدى البصر، وأغراه أن يعقِد «معه صداقةً أزليةً» إذ بدا: «وكأنه صفيحةٌ مغناطيسيةٌ وأنا قطعةٌ من حديد».
صقلٌ بضوء التشويق:
في منحها المزيد من ألق الخيال الذي يُقلِع فيه البحر: «ببطء، مخلفاً وراءه هاويةً لا متناهية الاتساع»، وعلى متنه مركب أميرة الخيال الآشورية شميرام، التي تترك لنينوس شبيهتها الآثورية المهجّرة ماريانا. وبالعمق والتحليل النفسي للشخصيات النسائية بخاصة، مع التداخل بمفاهيم عالِم النفس آدلر، الذي تُفضّله صديقة نينوس بالجامعة، الأرمنية سيرانوش، على فرويد ويونغ، «وتنحاز إلى نظرته للإنسان نظرة حقيقية عميقة كما هو، حسب رأيها». بذلك يفتح علي أبواب روايته على عالم النساء اللواتي يعانين أكثر من غيرهنّ جور عوالم الذكور، مثل الآثورية الصبيّة ماريانا، وأمّها جانيت زوجة الضابط السابق الذي قاوم الميليشيات الطائفية في الموصل، واستشهد، لتلجأ إلى صديقه الضابط يونس، في كركوك، بعد حلّ المجرمين كريمر وبوش للجيش العراقي، ومعاناتِها طمع هذا الصديق بها كذلك.
ومثل شخصيات الأم والجارات، مع فتح نوافذ الإيروتيكية الأنيقة المحببة والعميقة في ارتباطها بالدوافع والمآلات والمصائر، في علاقات الشاب نينوس بالنساء وبالأخص المراهقة هيلين الكلدانية ذات السبعة عشر عاماَ، الجميلة المغوية العابثة التي تتعرض للتحرش بقرص حلمتها من شاب أغواه تحرّر لباسها، والتي تكفّل نينوس بمساعدتها على الدراسة. وكانت:
«في نهاية كل درس تفتح الموسيقى، وتسقيني كأس عصير، أو كأس نبيذ أحمر محلّي معتّق، من غير عِلْم أمها، وتقول لي «خذ معها قبلة ناعمةً يانينو»، وتحيط رقبتي بذراعيها، مغمَضة العينين كالقطة، وتلثم شفتيَّ، فتلسعني أنوثتُها المتوهّجة، ويُسكرني عبق عطرها، ويرفعني إلى ذرى شاهقة، ويغريني لاقتيادها إلى السرير ونيل مشتهاي منها…»
وختاماً لا يكفي هذه الرواية القصيرة الطويلة بعوالمها ورؤاها، حقّها الذي يمكن أن تعوّضه قراءتها، يمكننا الإشارة إلى ختام نفسها المفتوح على تهديد نينوس الماثل، وربما قتله الآتي، من قبل الإرهابيين على تمسّكه بالبقاء في أرض أجداده.
عوّاد علي: «توأم البحر»
دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2023
168 صفحة.