أتابع منذ سنوات طويلة مقالات الكاتب والصحافي توماس جورجسيان. إعجابي بها يعيدني بالإضافة إلي موضوعاتها، إلى أيام البهجة التي عرفتها طفلا، بين من أطلقوا عليهم جاليات أجنبية، في الإسكندرية التي كانت تختصر العالم بما فيها من أرمن ويونانيين وإيطاليين وشوام ويهود وغيرهم، حتى جاءت سياسة عبد الناصر في الخمسينيات والستينيات، وجرى ما جرى من إخراجهم من البلاد، مما كان موضوع روايتي» طيور العنبر» التي نشرتها عام 2000. لا أنسى محلات الأرمن في الإسكندرية الذين ينتمي إليهم توماس من مصورين وغيرهم، وظللت احتفظ لسنوات طويلة بأول صورة لي، وأبي يقدم لي في المدرسة. الصورة التي صورها لي أرمني كان يقف بالكاميرا قريبا من مسجد أبي الدرداء. أي إطلالة على الأرمن في مصر تحتاج كتبا، ولقد كتبت عن ذلك وتحدثت عنه كثيرا، وجاء كتاب توماس جورجسيان يعيد ذلك كله إلى الذاكرة.
الكتاب عنوانه» إنها مشربية حياتي .. وأنا العاشق والمعشوق» صادر منذ أسابيع من دار الشروق المصرية في حوالي مائتي صفحة من القطع الكبير. بعد مقدمة رائعة للدكتور محمد أبو الغار وأخرى لتوماس، تدخل إلى الفصول العشرة للكتاب. الفصول الأولى منها عن نشأته بين أمه وأبيه وزواجه من الأمريكية ليز التي التقاها في مصر وتزوجها عام1987، وإبنته وحياتهم بين مصر وأرمينيا وأمريكا. الفصول الأخرى تشكل حياته في الصحافة في مصر، ومراسلا وكاتبا من أمريكا التي استقر بها، وكيف لا يغيب عن مصر كتابة وحضورا.
الكتاب سيرة حقا، لكنه فيض من المحبة، وبلغة تتدفق منها المشاعر الإنسانية بالود والألفة. من هنا جاء عنوانه. فالعاشق والمعشوق هو طائر الحب، والمشربية مفردة في قاموس التراث المعماري، تطل منها على المحروسة التي هي مصر أو القاهرة، يقيمها النجار من خشب متداخل عاشق ومعشوق، كما تعكس النظر منها أو إليها، وما أكثر ما عكست قصصا للحب في الأدب والحياة. العنوان دلالة على إنه ابن مصر وعشقها.
يبدأ توماس الفصول بعنوان «قاهرتي التي تعيش معي». وكعادته في الكتاب يضع صورة تحت عنوان كل فصل تلخص كل شيئ، كأنها المشربية التي سيطل منها، فيكون الفصل شرحا وتفسيرا لها، ولمن فيها عبر الزمان والمكان. هنا صورته طفلا في مدرسة كالوسديان الأرمنية ومعه عدد من التلاميذ، وبينهم أخته التي كانت مدرّسة في المدرسة. القاهرة الواقع والخيال والذاكرة والحلم واللقاء والفراق على وعد بلقاء جديد. تتالى ثماني فقرات طويلة بعنوان «قاهرتي» فيها عبق المكان والنشأة. وسط البلد والأرصفة وساندوتشات الفول من العربات الواقفة علي النواصي، وفرشة الصحف على الأرصفة، ومدارسه منذ الحضانة الأرمنية في شارع الترعة البولاقية في شبرا، والتعليم الابتدائي والإعدادي بمدرسة كالوسديان في شارع الجلاء، التي فيها عشق اللغات والإبداع، ثم بيوت الأرمن في وسط البلد وشبرا والظاهر وغيرها، مما يشكل قاهرته الأرمنية. شارع الجلاء حيث توجد أول محطاته الصحافية، بدءا من القراءة في جريدة هوسابير الأرمنية التي صدر عددها الاول عام 1913 وكتب فيها أول كتاباته، ثم بعدها جريدتي الأهرام والأخبار ومن فيهما، وسيأتي هذا بتفصيل رائع فيما بعد. تأتي صورة ثانية تتصدر الفصل الثاني أو إطلالة من مشربية ثانية. صورة عائلية تضم عائلته في نهاية الأربعينيات قبل مولده، وفيها جده توماس وأخوه صامويل وحولهم بقية العائلة مثل أبيه كيروب بن توماس، وتاريخ اللجوء إلى مصر. مذابح الدولة العثمانية للأرمن وكيف وفدت عائلته وأبيه معها طفلا عام 2015 فلازمه الصمت في حياته أكثر من الكلام، معبرا به عما عاشه ورآه. جيل بلا طفولة. حديث عن بقية الأفراد وتطورهم ومآلهم في الحياة بين مصر وأرمينيا، وكما قيل فالصورة بألف كلمة ومن ثم تأتي حكاية كل من فيها تتسع كالحياة. من أجمل ماجاء في الكتاب قول أبيه لهم في بيتهم عن قيمة سقف البيت الذي يظللهم، فالبيت وطن لمن يدرك معني الفرار من المذابح، وسقفه استقرار وطمأنينة. يأخذنا الفصل إلى مشاهير الأرمن في مصر مثل المصور «فان ليو» مصور المشاهير وغيره، وكذلك صاروخان مؤسس فن الكاريكاتير وشخصية «المصري افندي» وفنانين مثل نيللي ولبلبة وفيروز وأنوشكا وغيرهم، ورجال سياسة مثل يوسف افندي الذي جاء إلى مصر بزراعة اليوسفي الذي سمي بإسمه أو نوبار باشا. في السينما أيضا المنتج تاكفور أنطونيان الذي قدم أفلاما عديدة يذكرها، وفؤاد الظاهري الذي أسمه فؤاد جرابيد بانوسيان أعظم مؤلف موسيقى تصويرية للأفلام، وموسيقار عالمي أرمني عظيم مثل خاتشادوريان الذي زار مصر وعزف فيها. يأتي فصل جديد بصورة والدته مع أبنائها في فرح أخيه بعنوان « عن أمي اتحدث وعن أبي أتذكر..» الأم الحاضرة بقوة وعمق في حياته اسمها روزيت ديكران مرزيان، توفيت في سبتمبر عام 2006 وكانت الملكة في مملكتها في شبرا حيث بيتهم، راعية الطفولة وأحلام الصبا والشباب، وتفاصيل رائعة عن كل ذلك. ثم الأب الذي رحل عن الدنيا قبلها عام 1989. الأب الذي كان صمته أبلغ حديث. سنوات الثمانينيات وكيف انتهى توماس من دراسة الصيدلة، لكنه اتجه إلى الصحافة وحصل فيها على الماجستير من الجامعة الأمريكية. وسيأتي ذلك كله بالتفصيل فيما بعد، كما ستأتي سنوات عمله في صيدلية «مترو» في شارع عماد الدين، وكيف كانت عالما من الخبرات البشرية، وأسماء رائعة ممن وفدوا عليها، وشيئ من الصيدلة وأعمالها، وكلية الصيدلة في الجامعة وظهور جماعات الإخوان المسلمين، وأفكار مثل تحريم الأدوية المركبة التي تحتوي على الكحول وغيرها. يأتي فصل عن إبنته مارجريت تتصدره صورة لها طفلة. كيف ولدت في أميركا ونضجت هناك، وكيف كانت رحلتها ورحلته خلطة أمريكية أرمنية مصرية عصرية، هي اللؤلؤة التي ولدت في الرابع والعشرين من ديسمبرعام 1996. كيف تصادف أن الرابع والعشرين من ديسمبر هو يوم ميلاد ابنته وقبلها أليس كبرى أخواته البنات، وجوهار أو الجوهرة إبنة موفيسيس جورجسيان البطل القومي الأرمني حفيد عم والده الذي يسرد حياته ونضاله. ثلاث بنات ولدن في يوم واحد رغم اختلاف السنين.
ننتقل بعد رحلة عظيمة مع العائلة والتاريخ إلى رحله في الصحافة بدءا من قراءاته حتي كتاباته. يأتي الفصل بعنوان « حواديتي مع القلم والورقة» بصورة له في جريدة الهوسابير شابا مع صديق عمره ورفيق دربه زافين ليلوزيان، الذي صاررئيسا للتحرير. الرحلة لا يتسع لها المقال من فرط الجمال. من طرائفها كيف كان هناك طقس عائلي يتم مع الأطفال بمناسبة ظهور أول سن من أسنانهم، فيضعون الطفل وسط أدوات ومُنتجات ترمز إلى مهن مختلفة، فراح هو الطفل توماس يحبو حتي أمسك بيده القلم وسط صرخات وتهليلات من حوله، وصار كما قالت له أمه قد أصابته لعنة الصحافة منذ طفولته. لكنها اللعنة الفائقة الجمال. كيف كان يقرأ وكيف كان يكتب بالأرمينية ثم العربية ثم الإنكليزية والحيرة بينها. كيف اكتشف مجلة صباح الخير وكتب فيها. وتأتي الأحاديث الضافية عن عظماء الصحافة بين صحيفتي الأهرام والأخبار ومجلة صباح الخير. مصطفي أمين ومحمد حسنين هيكل وصلاح جاهين وتوفيق الحكيم و نجيب محفوظ ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وحسين فوزي السندباد المصري في التاريخ، وكمال الملاخ وصفحة الأهرام الأخيرة التي سماها «من غير عنوان» فصارت تُقرا قبل الصفحات الأولى، والفنان والشاعر بيكار الأرمني ولويس جريس وعلاء الديب وغيرهم. حديثه عنهم أقام خيمة من الجمال حولي وذكرني بكثير من حياتي. يستمر مع أدباء عرفهم مثل سميح القاسم وأمل دنقل، وهكذا في أطول فصول الكتاب الذي حمل عنوان «التدوير على الأحباب» والتدوير هنا تعني البحث من ناحية، والمرور عليهم من ناحية. ينتهي الكتاب بحياته في واشنطن، ولا يريد في النهاية للحكي أن ينتهي ولا نحن نريد، لكن انتهى الكتاب الذي يظل ساكنا روحك بالبهجة والجمال والتواضع الإنساني الجميل.
كاتب مصري
عندما يتحدث الكاتب المحترم عن الإسكندرية فهو يعزف لي على وتر حساس جدا.
ذكرتني بأيام الدراسة أجمل ايام حياتي بهندسة الإسكندرية والهزار تحت المية.
بمناسبة الحكي عن ارمن الإسكندرية، هل لا زال مطعم وكافيه الشباب “بتسيريا” في محطة الرمل موجود؟
كان وقتها المكان الراقي الأنيق المفضل للطلاب العرب الوافدين وكان مشهورا بجرسونه الأرمني الشهير الكبير السن وقتها والانيق جدا الحاج أندريا.
روعة سردية تعج بالنستولوجيا والحنين والتقدير ولكني صدمت عندما زرت وعائلتي الاسكندرية في العام 2011 وصدمنا عندما لاحظنا ان شوارعها الفسيحة الجميلة /خارج الفندق/ تعج بالقاذورات والمخلفات دون اهتمام بازالتها وهذه ظاهرة محلية غير حضارية اطلاقا وغير مبررة علما باني قارنتها بشوارع عمان النظيفة البهية…ودمتم جميعا سالمين