توم بولدوين في «سيرة كير ستارمر»: رئيس الوزراء يسعى إلى موقف بريطاني عادل في الشرق الأوسط

سمير ناصيف
حجم الخط
0

يختلف كثير من المعلقين على السياسة الدولية حول مواقف رئيس الحكومة البريطانية الجديدة كير ستارمر في الأمور المتعلقة بالشرق الأوسط وتوجهاته في هذا المجال، فبعض منهم اتهموه بالانحياز إلى الموقف الإسرائيلي وآخرون قالوا إنه غير مكترث لهذه القضية عموماً.
ولكن يبدو أن هذا الزعيم الجديد لحزب العمال البريطاني ورئيس الحكومة البريطانية الحالية والمدعي العام السابق في المحاكم البريطانية يلعب ورقة صعبة جدا في هذا المجال. بيد أن خبرته السابقة في الدعاوى الصعبة والمعقدة ربما تدفعه إلى عدم الإعلان عن مواقف بيضاء أو سوداء في هذا الشأن، كما أن تاريخه كشخص آت من طبقة بريطانية متوسطة ومشاركته في مناسبات سابقة في شبابه في معارضة الحرب الأمريكية البريطانية على العراق عام 2003 قد يؤكدان انه من معدن عمالي إنساني ملتزم وأنه مدرك في الوقت عينه بأن عليه التعامل عالميا وخصوصا مع الولايات المتحدة الأمريكية وقيادتها الجديدة وشخصية الرئيس دونالد ترامب المتقلبة في شؤون العالم عموما وبينها شؤون الشرق الأوسط والعلاقات مع الخصوم والحلفاء.
صدر مؤخراً كتاب جرى تحديثه في الأسابيع الأخيرة بعنوان «سيرة كير ستارمر» للمؤلف البريطاني بولدوين الذي وصفه خبراء من المعتدلين البريطانيين كأميلي مايتليس، مسؤولة الأخبار السابقة في تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية بانه ثاقب وصائب، واعتبره مستشار الحكومة البريطانية السابق اليستر كامبل بأنه من المتوجب قراءته. ولعله بالنسبة للقراء في الشرق الأوسط والعالم العربي من الضرورة التركيز في هذا الكتاب عما ورد فيه عن منطقتنا وخصوصاً بعد عملية «طوفان الأقصى» التي تمت في تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وما تبعها من مواجهات ميدانية إسرائيلية فلسطينية ولبنانية وعربية.
يقول المؤلف بالدوين في الصفحة 367 من الكتاب إنه «بعد هذه العملية، اتخذ كير ستارمر موققا متشددا ضد مرتكبيها وفي طليعتهم منظمة (حماس) والشعب البريطاني أيد ذلك الموقف على حساب مواقف زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربن الذي كان ملتزماً المواقف الفلسطينية المقاومة ضد إسرائيل».
وكان ستارمر قد شجب قتل المدنيين مباشرة بعد الحدث وأيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ملقياً المسؤولية في هذا الأمر على منظمة «حماس».
غير أن ستارمر أكد حتى منذ البداية بأن أي رد إسرائيلي على هذا الحدث يجب أن يكون في نطاق الشرائع والضوابط الدولية (ص368) وخصوصاً عندما بدأ بعض نواب حزب العمال البريطاني المتعاطفين مع مطالب العرب والمسلمين بالتلويح بالاستقالة من حزبهم إذا اتخذ ستامر موقفا غير متحفظ تجاه ممارسات إسرائيل الانتقامية الوحشية. وبين هؤلاء نواب في فرع الحزب الإنكليزي ولدى قيادة فرعه الإسكتلندي خصوصاً تحت إشراف زعيمه الذي استقال لاحقاً أنس سنوار.
وحسب مؤلف الكتاب فإن ستارمر يدرك بأن قرار سياسات الدول الكبرى الفاعلة دولياً لم تعد في يد بريطانيا ولكنها في يد الولايات المتحدة في الدرجة الأولى وخصومها السياسيين روسيا والصين في الدرجة الثانية. وهذا الأمر تأكد لدى ستارمر بعد مشاركته في شجب الحرب الأمريكية البريطانية ضد العراق عام 2003 والتي شارك فيها ملايين البريطانيين ولكنها برغم ذلك فرضت فرضاً على جميع الذين عارضوها وتظاهروا ضدها في بريطانيا وغيرها.
المؤلف يشير أيضا إلى أن ستارمر وبرغم كونه عمل سابقاً في مراكز حساسة ومؤثرة في بريطانيا كالمدعي العام، فإنه لم يكن خبيراً في شؤون الشرق الأوسط، ولكن كان قد قرأ ما كان بوسعه عن مواقف زعماء حزب العمال السابقين الخبراء في هذا المجال وخصوصا وزير الخارجية السابق الراحل ارنست بيفين في حكومه أول رئيس وزراء بعد الحرب العالمية الثانية كليمنت آتلي. وهؤلاء الساسة كانوا من مناهضي الحروب غير العادلة والتي تحقق أهدافها ضد شعوب العالم الثالث بالقوة لفرض السياسات الامبريالية عليها.
وحتى قبل عملية «طوفان الأقصى» حاول ستارمر التفاعل مع سياسات قادة إسرائيل وخصوصا المعارضين لبنيامين نتنياهو ولكنه لم يحقق النتائج المثمرة في هذا المجال حسب المؤلف.
وهذه المحاولات من ستارمر تسببت في خسارة حزب العمال بعضاً من مؤيديه من الشباب المتحمسين البريطانيين ضد تجاوزات إسرائيل. ولكن ستارمر ظل على تصميمه بأن رفض نتنياهو حل الدولتين في القضية الفلسطينية يشكل سياسة سلبية غير مقبولة، وانه سيؤدي إلى عواقب في المستقبل (ص371).
ومن أجل تطوير ودعم مواقفه في الشأن الفلسطيني الإسرائيلي والعربي عموماً، اختار ستارمر الخبيرة البريطانية في الشؤون الأمنية الدولية سو غراي مستشارة له في هذا المجال. وأصبحت غراي المسؤولة عن جميع العاملين في القرارات الهامة في حكومته. ونجحت في أولى مهماتها في ترميم العلاقة بين ستارمر وصادق خان عمدة لندن الذي شنت الأوساط الصهيونية البريطانية حملة ضده لأنه لم يكن متشدداً مع المتظاهرين في لندن ضد التنكيل الوحشي الإسرائيلي بسكان غزة. كما فعلت غراي الأمر نفسه بالنسبة لعلاقة ستارمر مع عمدة مانشستر آندي برنهام الذي كان بدوره عمالياً مؤيداً لحق التظاهر ضد الإجرام الإسرائيلي في غزة (ص373).
وفي الوقت الذي كان ستارمر فيه يحاول اتخاذ مواقف معتدلة عموما في الشرق الأوسط، عمل أيضاً على ضبط الجحافل الضخمة من المهاجرين إلى بريطانيا عبر السواحل الفرنسية كي لا يُتهم بانه قائد ضعيف في هذا المجال. ووجه اتهاماته إلى السماسرة الذين ينظمون هذه العمليات، وحاول إنشاء تعاون وثيق مع الاستخبارات الفرنسية في هذا المجال.
بيد أن سعي ستارمر إلى إقصاء بعض النواب السابقين من المؤيدين لغريمه السابق جيريمي كوربن في قيادة الحزب كادت أن تخسره عددا كبيرا من ناخبي الأقليات البريطانية لولا تدخل سو غراي ونصيحتها له بعدم فعل ذلك وخصوصاً عندما حاول إقصاء دايان آيوت، أول نائبة عمالية سوداء عن الترشح باسم حزبه، ولكنه عاد عن قراره وآيوت هي نائبة حالية في مجلس النواب.
علماً أن حزب العمال خسر خمسة مواقع في الانتخابات التشريعية الأخيرة أمام المرشحين المستقلين من مؤيدي فلسطين وملتزمي التوجه غير العنصري ضد المسلمين في بريطانيا وبينهم جيريمي كوربن الذي عاد إلى المجلس بصفة نائب مستقل.
غير أنه يبدو ان سو غراي دفعت الثمن بعدما شن صهاينة بريطانيا ومؤيدوهم في الإعلام البريطاني حملة ضدها وضد معاشها الشهري الكبير نسبياً متهمين ستارمر بأنه خاضع لها فاضطر إلى نقلها من منصبها الاستشاري المباشر معه إلى مجلس اللوردات البريطاني. ومؤخراً عين كمستشار للأمن القومي جوناثان باول، أحد أبرز خبراء الشأن الدولي البريطاني وخصوصاً انه وضع أسس اتفاق أيرلندا الشمالية (اتفاق الجمعة العظيمة) وأصبح باول الآن من المقربين جدا من ستارمر.
ومن قرارات ستارمر الأخيرة الهامة جدا سحب معارضة بريطانيا لقرارات المحكمة الجنائية الدولية بخصوص إدانة بنيامين نتنياهو ومعاونيه في ارتكابات مخالفة للقانون الدولي في غزة والمنطقة. وكان تبرير ستارمر أن «هذه القرارات تعود للقضاة وليس للسياسيين» (ص420).
أما بالنسبة لعلاقة ستارمر بالاتحاد الأوروبي فيبدو انه يحاول في وقت واحد عدم المواجهة مع المجموعات والجهات التي صوتت مع الانسحاب من أوروبا ولا مع الجهات الأخرى التي ترغب في العودة إلى علاقات جيدة مع قيادات وسياسات القارة الأوروبية. وبالتالي فهو يؤيد كل ما تؤيده أوروبا في شأن حكم القانون الدولي كونه جاء من منطلق قضائي قانوني.
وهذا الأمر لم يؤثر على موقف ستارمر من القرارات القضائية للمحاكم الأمريكية السلبية حتى ضد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. وأدى ذلك إلى شن حلفاء ترامب الأمريكيين الأثرياء ومن النافذين حملة ضد ستارمر وحكومته. وهم الآن يدعمون خصومه في بريطانيا وبينهم زعيم حزب الإصلاح نايجل فراج الذي يسعى إلى أن يصبح قائد اليمين البريطاني ضد ستارمر. ولكن الأرقام ليست في مصلحته، إذ ان عدد نواب حزب العمال البريطاني هو 411 في مقابل 121 لحزب المحافظين و5 لحزب الإصلاح.
أما حزب الديمقراطيين الأحرار تحت قيادة إيد دايفي فلديه 72 نائبا أكثريتهم بالإضافة إليه من المقربين من ستارمر. أي أن ستارمر يمكنه استقطابهم إذا احتاج إليهم في المستقبل. وبرأي المؤلف فهذا الأمر يشير إلى أن أحزاب اليمين في بريطانيا حاليا ضعيفة جداً، على عكس ما تحاول تصويره بعض وسائل الإعلام المدعومة من مؤيدي اليمين الأمريكي (ص428).
ولكن كما يدرك ستارمر وكما قال في أكثر من مناسبة، عليه أن يكون على علاقة جيدة بالرئيس الأمريكي مهما كانت هويته إذا شاء أن يلعب دورا في السياسة الخارجية العالمية في الشرق الأوسط يكون فاعلاً ومؤثراً.
وهذا الموضوع سيشكل إحدى العقبات التي على ستارمر أن يتجاوزها بذكائه وخبرته، حسب رأي المؤلف.
العقبة الثانية الهامة هي في داخل حزبه. فهناك جهات يسارية فاعلة في داخل الحزب خصوصاً في النقابات العمالية التي تدعمه ما زالت تتعاطف مع الجناح اليساري بقيادة جيريمي كوربن وبعضها لم يغفر لستارمر كونه احتل مكان كوربن بحجة اتهام الأخير بالعداء للسامية في ظل حملة شنها ضد كوربن الزعيم العمالي السابق توني بلير والوزير السابق بيتر أندلسون الذي تم مؤخراً تعيينه سفيراً لبريطانيا في الولايات المتحدة.
بيد أن اختيار ستارمر للوزراء في حكومته الأولى أثبت كونه يملك ما يكفي من الحكمة لوضع الرجل والمرأة المناسبين في المراكز المناسبة بنظر المؤلف.
فوزير الدفاع نجل دنييس هيلي أحد أبرز وزراء دفاع بريطانيا السابقين، ووزير المواصلات نجل نيل كينوك زعيم حزب العمال المعتدل السابق ووزيرة الداخلية ايفيت كوبر زوجة ايد بولز وزير المالية السابق في عهد زعيم حزب العمال الوسطي السابق غوردون براون، وايد ميليباند نجل القائد اليساري السابق رالف ميليباند، وجميع هؤلاء لديهم الخبرة السياسية الكافية لدعم ستارمر.
ولكن الأمر الأهم كما ورد في هذا الكتاب في قسمة الأول، هو أن ستارمر يأتي من عائلة بريطانية مكافحة. وهو شق طريقه بنفسه ليصبح المدعي العام البريطاني الأول في كنف عائلة من ستة أولاد وأم توفيت في مرحلة مبكرة بعدما نصحها الأطباء بعدم الانجاب، ومن أب كان يسارياً متصلباً أنهى حياته معاديا للجميع بسبب شخصيته المعقدة.
أما بالنسبة لهوايات ستارمر حسب الكتاب، فكان شغوفاً بكرة القدم ومن الممارسين لهذه اللعبة، ومن مشجعي فريق آرسنال الانكليزي.
وبرأي ستارمر فإن أفضل لاعب كرة قدم في بريطانيا في العقود الأخيرة كان تييري هنري الفرنسي الذي كان نجم فريق آرسنال في العقد الماضي.
ولعله من المفيد أيضا ادراك أن ستارمر من مؤيدي حقوق الطبقة العاملة وتحسين أوضاعها، ولكن في الوقت عينه يراعي عدم ممارسة ضغوط مفرطة على الطبقة التجارية التي تساهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية.
ومع أن الصحف اليمينية تتهمه بانه يبالغ في مشاريعه لزيادة الضرائب على الطبقات المترفة وسحب بعض المكافآت المالية من جهات بريطانية لا تحتاجها فإنه حسب المؤلف شخص واقعي يدرك بانه إذا أراد تحسين وضع الخدمات الصحية المجانية والمكافآت للفقراء فعليه الحصول على الأموال من مصادر واقعية. وبالتالي فهو لا يغدق بالوعود التي يصعب تحقيقها براغماتياً ومالياً وواقعياً ولا يخشى الحملات الإعلامية ضده في هذا المجال.
Tom Baldurn: «Keir Starmer –  The Biography»
William Collins, London 2024
482 pages.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية