التونسيون لم يعد يُغريهم خطاب الوهم والتناحر الأيديولوجي والمعارك الهامشية، بل يهمّهم الالتفاف حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية، باعتبارها الأولويات الجوهرية في ذهن الذين يرغبون في تنمية عادلة وتحقيق مطالب الثورة، بعيدا عن الاستقواء بالأجنبي وفرض واقع سياسي خارج إرادة الشعب.
فرصة الانتقال من طور الأزمة إلى مرحلة استقرار الدولة وتثبيت مؤسّساتها، والمضيّ نحو الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي بعناوين رئيسة، هي محاصرة الفساد وإصلاح منظومة الحوكمة، ومراجعة السياسات العامة، تبقى قائمة بتوفر الإرادة والعمل الوطني الصادق، فالتعريف الواضح للمصلحة الوطنية لا بدّ من أن يكون بالمثل مرشدا إلى السياسة القائمة على المبادئ والقيم، والمتفاعلة مع وجدان الشعب الذي يستحق حياة كريمة.
وكلما اختارت النخب طريق الخلافات على أساس المرجعية والأيديولوجيات والمصالح الحزبية الضيقة، وابتعدت عن العمل الوطني الفعال، والموجه للواقع الاجتماعي والاقتصادي، فإنها ستهدم ذاتها، بالقدر الذي تهجر فيه المشروع الوطني الذي نادت به الثورة التونسية. وهي ثورة لم تكن لها قيادة مفعمة بالتوجيه التعبوي، أو كانت وراءها كيانات حزبية يمكن أن تستثمر ذلك أدبياّ، وإنّما كانت ثورة إرادات شبابية طامحة، وتطلّعات شعب حالمة بمستقبل أفضل يقطع مع الاستبداد والسلطوية وأساليب الحكم القديمة. والفوضى السياسية وغياب الرؤية تغذي بالتأكيد الانهيارات غير المسبوقة للمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، فما بالك بمواصلة الدولة إلى الآن تخلّيها عن دورها المركزي في التخطيط الاستراتيجي في المجال التنموي ومراعاة التوازن الطبقي والجهوي. بلد يصل إلى هذه المرحلة يستحق الإنقاذ قبل أن يفوت الأوان، وتنفجر الأوضاع الاجتماعية، فالفضائل الممكنة أو المتخيّلة لا تسوّق نظريّا، بل تُترجم عمليّا بالنظافة والترميم، والتوجّه لخدمة المصلحة الوطنية والاخلاص للأمانة. وعندما لا تجدّد المؤسسات السياسية والاجتماعية نفسها على قاعدة النقد الذاتي والمراجعات، فإنّها تفرز بشكل متواصل أجهزة بيروقراطية فاسدة، تتحول إلى بورجوازية ريعية تنهب مؤسسات الدولة، ويصبح الشعب بمثابة خصم أمامها. وهذا ما حدث في تونس، واستماتت بعض المكونات السياسية في المحافظة عليه. وكأنّ الحكم بالنسبة لهم يعني على الدوام السيطرة على الدولة من أجل أغراض حزبية فئوية، وترسيخ ثقافة الابتزاز، وتمتين رابطة المصالح مع رجال الأعمال ولوبيات الفساد. ومن الأفضل في هذه المرحلة شديدة الخطورة من تاريخ تونس، البحث عن استقرار سياسي والمحافظة على كيان الدولة، والعمل على تعزيز الثقة بين المؤسسات والشعب، ولا يكون ذلك إلّا عبر أخلقة العمل السياسي، وما يقتضيه من التحلّي بالمسؤولية والابتعاد عن الصدام غير المبرّر، والتناقض المفضوح في المواقف، والحدّ من البراغماتية والمنافع الضيقة، وتوجيه الاهتمام صوب القضايا الاجتماعية والاقتصادية وتنمية الجهات المحرومة وتحسين أوضاع الناس المعيشية.
المكونات السياسية في تونس وجب عليها الوعي بواجبات العمل الوطني، والدفع نحو استيعاب دولة المواطنة في إطار من التجانس والوحدة الوطنية
المكونات السياسية في تونس وجب عليها الوعي بواجبات العمل الوطني، والدفع نحو استيعاب دولة المواطنة في إطار من التجانس والوحدة الوطنية، على اعتبار أنّ الدولة في وجه من وجوهها هي مشروع سياسيّ ذو طابع مؤسّسي، وهي التي تحرص على ضمان مجتمع يسوده الوفاق ضمن الحدّ الأدنى من القواسم المشتركة. والانتقال الدّيمقراطي الحقيقيّ يقتضي تغيير سياسات الحكم التي تسبّبت في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والبحث عن منوال تنمويّ مغاير، خارج رابطات المصالح، غير خاضع للأجندات الخارجيّة، والتدخل في الشأن الوطني السيادي، يكون في خدمة المصلحة الوطنية، ويتفاعل مع تطلعات الشعب وأمانيه دون غيرها. وما يجب أن يستوعبه الجميع هو أنّ رفض مطالب التغيير والمواطنة الاجتماعية العادلة على مدى عقود طويلة، ومن ثم تعطيل هذا الاستحقاق بعد الثورة، يؤكد أن المهمات الحقيقية لبناء المجتمع المنشود لم تنجز بعد. وهي الهموم الكبرى، لا بالنسبة إلى عملية بناء المجتمع الجديد فحسب، بل بالنسبة إلى استقرار الدولة الجديدة أيضا. والشعب لا يمكن أن يظلّ رهينة بيد المضاربين السياسيين وأصحاب الصفقات في سوق الكساد السياسي وتضارب المصالح. والمرحلة تستوجب إرساء مؤسّسات دولة مستقرّة وفاعلة، ومحاربة الفساد هيكليّا، ترسيخا للانتقال الديمقراطي وللعدالة الاجتماعية، بعيدا عن أساليب تطويع الثورة وتعويم المفاهيم، وجعل الانتقال شكليّا لا يتجاوز الظّاهر، ضمن أزمة مفاهيم يتمّ من خلالها التّلاعب بآمال شعب طمح في الكرامة وفي وطن محفوظ السيادة. والوضع في البلاد لا يمكن فعلا معالجته بالطرق التقليدية، فهو يحتاج إلى بلورة تصوّر جديد يقوم على إدخال إصلاحات سياسية جوهرية، بحثا عن منحى مختلف يتجاوز منطق النهب وسلوك الغنيمة وافتكاك مؤسسات المجتمع وخيراته، وعن تجذّرٍ مؤسّساتي حقيقي له وزنه في الواقع ضمن إرادة واعية، ومن أجل عدم العودة إلى منظومة أدّت بتونس إلى انهيار غير مسبوق، هناك فرصة لإعادة بناء الدولة وإصلاح ما تم الإجهاز عليه طوال السنوات الماضية. ومن لم يحترم القانون والشفافية في تسيير الدولة على نحو يشي بمركّب المنفعة، لا يحق له أن يسوّق نفسه باعتباره مدافعا عن الديمقراطية والحريات العامة والثورة، وليترك الفرصة لغيره بعد أن أخذ فرصته، ومن يثبت عدم جدواه يستعاض عنه بسواه. تونس تنشد الأفضل، ولا تستحق أن يخذلها العالم ولا يدعمها في تجاوز محنها الاقتصادية والاجتماعية. وإن لم يكن من ذلك بدّ، على الأقل يتركها وشأنها، من دون تشويش أو تعكير للأجواء على جميع الأصعدة. وهي ككلّ دولة عربية تحتاج التغلّب على التاريخ السّلطوي الذي يبدو صعبا بسبب تجذّر المصالح، وتفاعل العائلات السياسية والاقتصادية التي تجمعها رابطة منافع وثيقة تشكّل جوهر الدولة العميقة. وضمن مرحلة جديدة في تاريخ البلاد تقوم على الإرادة الشعبية لا على شرعية وهميّة لفظها التونسيون والتونسيات، لأنها لا تعبّر عن إرادتهم الحقيقية، يبقى الرهان هو احترام الثوابت الكبرى في علاقة بحقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية، والدفع أكثر نحو التشاركية المواطنية، سواء في علاقة بالحكم أو بمحركات التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.. وأن يمضى التغيير إلى أبعد نقطة ممكنة تخدم الشعب، من دون اهتزازات في الاستقرار العام، أو انجراف لفوضى لا يتحملها البلد المنهك بطبعه، أو نيل من قواعد دولة القانون.
كاتب تونسي
حسنا، كلام جميل يصلح وصفة لكل البلدان العربية، و غير العربية. لكن، ماذا عن تونس. أين الخلل.في الرئيس ام في الأحزاب كلها، ام في بعضها، ام في النقابات، ام في العسكر..ام كلهم..تونس حالة خاصة. و لهذا وجب تحديدسبب الداء لتحييده.
هل علينا إن نصدق كلّ ما قيل ومايقال عبر الخطابات اللاذعة المتشتجة بلاحجة ولا برهان؟ ألا تقتضي المصلحة الوطنية في أوقات الأزمات والسنين العجاف وحدة وطنية وحوار وطني حكيم مع جميع الأطياف ؟ ألا تقضي المصلحة الاقتصادية تطمين المستثمرين والمانحين والسياح ؟ بينما التناقض واضح بين وضع استثنائي مستمر (خطر داهم وحالة طوارئ) من جهة وتحضيرات مرموقة لاستقبال الموسم السياحي، من جهة أخرى. الشعب يريد حياة كريمة بينما أهل السياسة يريدون ربّما صناعة التاريخ.
تماما. دام حضورك