تونس… خرافات الانتخابات والنشاط السياسي

كثيرا ما يكون تناول المسائل التي تدور في فلك المشهد السياسي؛ الانتخابات؛ البرامج الحزبية؛ الوصول إلى السلطة؛ الإدارة الاجتماعية… بمناهج تسطيحية وبمعزل عن الواقع الاجتماعي السائد. وهنا لا نقصد بالواقع الاجتماعي ذلك المعنى الذي يدور في فلك التركيبة الطبقية ومنوال التنموية والبنية الاقتصادية والبطالة فحسب، بل المعنى يتجاوز ذلك نحو البنية الذهنية والثقافية السائدة اجتماعيا في ما يخص التعامل مع كل ما هو مرتبط بالأسس النظرية والعملية للسياسة المدنية، ومفهوم الدولة والسلطة والإدارة الاجتماعية.
يُجمع علماء الاجتماع في تونس على أن هناك استقطابا ثنائيا، وأن هذا الاستقطاب تعود جذوره إلى مرحلة التحديث المجتمعي البورقيبي الذي أحدث انقساما ثقافيا وذهنيا بين أصحاب الميولات الدينية من جهة وأصحاب الميولات الحداثية من جهة أخرى. ولو أننا نتحفظ حول الطرح الذي يقول بوجود ‘حداثة’ ونزوع نحو ‘الهوية’ في تونس. والواقع أن المشهد أكثر تعقيدا من ذلك، فهناك كتلة اجتماعية واسعة تتميز إما باليأس وإما بالمهادنة والميل نحو الرغبة في الحفاظ على السائد. وهذا يعود إلى ارتباط كل ما هو سياسي وحزبي في المخيال الشعبي التونسي بالانتهازية والفساد والوشاية، وكذلك لاعتبارات ثقافية تعود إلى الدينامية السياسية الصورية، وثقافة الزعيم الواحد التي كانت سائدة في تونس قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011.. وهذا ما جعل الكتلة التقدمية والفاعلة أقلية ووزنها محدود.
هذا المشهد الاجتماعي ـ السياسي السائد سيساهم خلال المرحلة المقبلة في إجهاض أي نزوع نحو بناء ديناميكة اجتماعية سياسية حقيقية تقوم على التناغم والتفاعل بين المجتمع والدولة والنظم الإدارية والقانونية، مما سيؤدي إلى إجهاض بناء الأسس الأخلاقية والمبادئ الضرورية للتنمية المجتمعية والاقتصادية والثقافية. وبالإضافة إلى ذلك، هناك اعتبارات أخرى متعلقة بالنمط المجتمعي التونسي الذي كثيرا ما يقع حصره في حرية المأكل والمشرب والملبس، وأحيانا الإغراق في تسويق شعارات ‘الحريات الفردية’ التسطيحية. فرغم ‘الحداثة’ الصورية السائدة في تونس، يبقى نمط المجتمع التونسي مشتقا من العشائرية والطرائقية التي تفضي إلى ثقافة متجذرة في العقل الفردي والجمعي، بما يحيل إلى الإسقاط على الأشخاص والتعامل بمنطق الفضيلة والنوايا الحسنة في النظرة إلى الإدارة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فالدينامية السياسية الاجتماعية الفاعلة تتطلب حداثة حقيقية واستبطانا لعلوية المؤسسات والمخططات الاستراتيجية العلمية، مع وجود عقيدة اجتماعية ودولة تجعل من الاستقامة هي الأساس والفساد هو الشذوذ. وذلك من أجل تحويل الانتهازية إلى استغلال للفرص، والتواكل إلى تعاون، والخبث إلى ذكاء، والسرقة إلى تحصيل، والنفاق إلى وضوح، وتكديس الثروة إلى خلق الثروة… فتوريد وسائل العيش العصرية من الغرب لا يعني الحداثة.
كثيرا ما يسود الحديث عن أن المنافسة الحزبية ستكون على أساس البرامج والرؤى السياسية الاستراتيجية. والواقع أن هذا الطرح يحمل كثيرا من الشعبوية والتسطيح، فلا بنية الأحزاب، ولا البنية الاجتماعية والثقافية والذهنية، ولا تقاليد الدولة البيروقراطية تسمح بذلك. فخلال الانتخابات الفارطة قدمت جميع الأحزاب برامج كانت في مجملها جميلة ورائعة من حيث تسويق النوايا الطيبة على الأقل. لكن مع وصول أحزاب معينة إلى السلطة، رمت برامجها جانبا لأنها وجدت نفسها خارج اللعبة وفي تناقض ونشاز مع الواقع الإداري وتقاليد الدولة والبيروقراطية التي لا يمكن التخلص منها بسهولة وفي وقت قياسي، باعتبار انصهارها مع الآليات الاقتصادية والمجتمعية والثقافية السائدة، ولاعتبارات أخرى يطول شرحها.
ويبدو أن نفس الأخطاء ستعاد مستقبلا، فالبرامج بالنسبة للأحزاب هي عمل انتخابوي فوقي سطحي طوباوي لا يأخذ بعين الاعتبار الواقع الداخلي والخارجي، ولا يتعامل مع المعطيات الدقيقة. وعادة ما يكون رسم البرامج نتاجا طبيعيا وضروريا لقرب موعد الانتخابات. رسم البرامج الحزبية الجدية هو عمل ديناميكي طويل المدى، يعتمد على الذكاء والمعطيات الدقيقة الشاملة على المستوى الجهوي والمركزي والإقليمي والعالمي.
بنية وطبيعة الأحزاب في تونس لا تسمح بإنجاز برامج جدية وفاعلة، وهذا يعود لاعتبارات ذاتية متعلقة بالتقاليد الانتهازية التي تقوم على اللجوء إلى أسهل الطرق لكسب ود الناخب (اللعب على ورقة الدين والهوية؛ اللعب على ورقة العلمانية وادعاء الحداثة؛ ادعاء الوسطية والاعتدال مقابل إلحاق تُهم التطرف والفوضوية بالأطراف السياسية التي تدعو للتغيير والتقدم؛ تشويه الخصوم السياسيين؛ السفسطة واللعب على التجهيل؛ الوعود الزائفة؛ المال السياسي، تسويق شعارات ‘كسر’ الاستقطاب الثنائي..). وكذلك لاعتبارات موضوعية متعلقة بطبيعة المجتمع التي تميل نحو المهادنة والحفاظ على السائد، والإسقاط على الأفراد والتعامل بمنطق الفضيلة والنوايا الحسنة. وعادة لا يطلع المواطن على البرامج ولا يعطيها اهتماما لأنها فوقية ومسقطة، وليست نتاج ديناميكية حزبية مجتمعية قائمة على الربط الفكري بين المجتمع وواقعه من جهة والدولة والإدارة والنظام والمعطيات الدقيقة الشاملة من جهة ثانية.
حتى لا تجد الأحزاب نفسها في تناقض ونشاز بين ما تحمل من برامج ورؤى وبين الواقع الإداري والبيروقراطي، عليها العمل لتفكيك هذه الشيفرات من خلال التواصل مع العمق الإداري والبيروقراطي للدولة، اعتمادا على المرسوم المتعلق بحق النفاذ إلى الوثائق الإدارية وغيرها من الآليات مع اشراك المواطن في هذه الحركية. فالمواطن سيقترب من العمل الحزبي ويتعاطف معه إذا استنتج وجود عمل جدي وفاعل، فالبرامج الحزبية ليست حبرا على ورق وليست نتاجا طبيعيا لقرب موعد الانتخابات، بل هي كيان حي متفاعل بين المجتمع وواقعه اليومي من جهة والإدارة والدولة والنظام من جهة ثانية، في إطار المعطيات الدقيقة على المستوى الجهوى والمركزي والإقليمي والعالمي. وما زالت الأحزاب في نشاطها تعتمد على الشعبوية والتسطيح والإسقاط، ولم تنخرط في العمل الجدي. ولعل ما تسمى ‘التيارات الثورية’ هي المطالبة بالقيام بتغييرات جذرية على مستوى عملها القاعدي والقيادي من أجل الخروج من الركود السياسي عبر تحريك المواطن للانخراط في العمل السياسي، وحتى تكون فعلا شعبية وليست شُعبوية …

‘ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د.علي سليماني:

    شكرا للكاتب. مقال ممتاز وعميق. نحن في حاجة إلى مثل هذه المقالات في زخم الغوغاء الصحفية.

اشترك في قائمتنا البريدية