ثقافة الاستئصال: هل سنصل يوماً إلى حريّة الأكثرية؟

شاع في كثير من أوساط اليسار العالمي، المناهض لـ»النيوليبرالية» أو «الأوليغارشية»، في السنوات الماضية، شعار «نحن الـ99%»، على اعتبار أن الثروة والنفوذ ممركزان بيد الـ1% من السكّان الأكثر حظاً في العالم، وبالتالي فإن مواجهة الرأسمالية تعني، بشكل من الأشكال، مواجهة تلك الأوليغارشية المتحكّمة بالعالم، من مضاربين ماليين ومديري شركات متعددة الجنسية، وسياسيين متعاونين معهم. بدا هذا شعاراً جماهيرياً سهلاً، يمكن تعميمه حول العالم، وبناء التحالفات والائتلافات على أساسه، من احتجاجات «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2011؛ وحتى الحركات السياسية التي تُصنّف «شعبوية يسارية»، مثل «فرنسا العصيّة» و»بوديموس»، التي تعمل على بناء تحالف متعدد الفئات والمطالب، باسم «الشعب»، الذي يشكّل ذاتاً سياسية، ضد «هم»، أي أعداء الشعب، من أقلّية رأسمالية متحكّمة؛ مروراً بما سمّي «نسوية الـ99%»، أي النسوية اليسارية، التي ترفض ما تراه توجهاً «نيوليبرالياً» في الحركات النسائية المعاصرة. بدا آنذاك أن اليسار المعاصر وجد نفسه أخيراً، واستعاد القدرة على حشد «الشارع»، والعودة إلى الواجهة السياسية.
إلا أن أوساطاً في تيارات يسارية أخرى، خاصة المتجذرة فلسفياً في مناهضة الفاشية والنازية، شعرت بنوع من «الألم في المعدة» من ذلك الشعار، حسب التعبير الألماني الشهير، الدال على عدم الارتياح وتوقّع الكوارث. إذ رأت أن ذلك النمط من الشعبوية اليسارية، الذي يفسّر الأزمة بأقليّة متحكّمة، يكرر أساسيات أسوأ تقليد تاريخي في مناهضة الرأسمالية: معاداة الساميّة.
لم يَدّعِ أي من رافعي الشعار أن الـ1% المتحكمين في العالم هم اليهود، ولكن بنية تفكيرهم قد تتطابق بشكل كبير مع مناهضي الرأسمالية القدماء من معادي السامية، وهم كانوا جانباً مهماً من الجمهور النازي والفاشي (على الهامش: أيّد ما يسمى «الحزب النازي الأمريكي» طروحات حركة «احتلوا وول ستريت»، بوصفها تنبّه، حسب وجهة نظره، إلى هيمنة المصرفيين اليهود). الرأسمالية هنا أشبه بذات شريرة، تقبع فعلياً خارج مجتمعات أغلبية البشر، تدمّرها اجتماعياً وقيميّاً، تستغلها اقتصادياً، وتساهم بقمعها سياسياً، بل غالباً هي المسؤولة عن عرقلة ارتقائها الروحي والتاريخي. هذا يعني أننا إذا استأصلنا الأقلية الشريرة، أو على الأقل حطّمناها سياسياً واجتماعياً، وأعدنا تربيتها، لـ»تحريرها من نفسها». أي باختصار، إن وجدنا لها «حلاً نهائياً»، فستتخلص مجتمعاتنا من كثير من آلامها وأمراضها المزمنة، وتعود إلى طبيعتها الأصيلة، وعلاقاتها العضوية، وتنطلق نحو الحريّة. ليس الأساسي هنا هوية تلك الأقلية، سواء كانت يهودية أو غير يهودية، بل فكرة أن استئصال الأقلية سيُنهي معاناة، ويحلّ تناقضات مجتمع الأكثرية، بل يسمح له بتجاوز كل العوائق لكي يكتسب الهوية، والحضور السياسي والاجتماعي المثالي، الذي يحلم به الراغبون بالاستئصال. اليهودي كان في كثير من الأحيان رمزاً أو وثناً للفساد والتلوّث؛ للرأسمالية والاستغلال والتلاعب بالشعوب وقيمها، إلا أن المنطق العميق لمعاداة السامية قادر على إنتاج اليهود، أو بالأصح «أشباه اليهود»، حتى في البيئات الخالية من الطوائف اليهودية.
وبديلاً عن شعار «نحن الـ99%»، الذي يفترض تلقائياً أن «هم الـ1%»، يصرّ النقّاد على التقليد الماركسي الأكثر عمقاً: «الرأسمالية» تجريد نظري عن نظام، لا يوجد بشكل صافٍ، بل ضمن تشكيلات اجتماعية – اقتصادية، تحوي عناصر متنوعة ومختلطة، أحيانا غير رأسمالية أو قبل رأسمالية. والأهم أن الرأسمالية ليست ذاتاً، وكلنا «متورطون» في نظامها، نعمل وننتج ونتواصل ضمن أطره، ونعاني من تناقضاته البنيوية، وإذا تمردنا عليه، فنتيجةً لتلك التناقضات، ومن داخلها، ولن يكون تمرداً على «خارج»، إن استأصلناه ستعود إلينا براءتنا الأولى. ليست الرأسمالية تحكّم هوية أو أفراد أو جماعة، سواء كانت اليهود أو الـ1% أو الأقليات، بل مجموعة معقدة من العلاقات والقوى والأنساق والبنى، هي من ينتج الذاتيات، ويكسبها المعنى والموقع، وليس العكس. وما ينطبق على «الرأسمالية» هنا، يمكن تعميمه على أي نظام، أو «شر» آخر، مهما كان اسمه وطبيعته، سواء «الإمبريالية» أو « الكولونيالية» أو «الأبوية» أو «أنظمة الاستبداد».
وبعيداً عن منظور نُقّاد «اليسار المعادي للسامية»، بحسب تعبيرهم، فإن مسألة حرية «الأكثرية»، التي لا تكون إلا بإنهاء تسلّط أقلية ما، يحتاج إلى مزيد من التفحّص، خاصة في منطقتنا: ماذا بعد سقوط «الأقلية»، إن حدث؟ هل ستستمر الأكثرية، وتحقق غاياتها وأحلامها التاريخية؟

نحيب «الأكثريين»

الأكثر أهمية في المنظور النقدي المذكور أعلاه، أنه يغيّر طبيعة الجدل وأسئلته من الأساس، إذ لا يعود المرء مضطراً لمناقشة صحة أو كذب وقائع، مثل القوة المالية لليهود، أو تمركز الثروات لدى نسبة مئوية من سكان العالم، أو سلطة أقليات معيّنة، للهجوم أو الدفاع عن تلك الفئات، فكل هذا ليس الموضوع، وإنما الموضوع النظام نفسه، الذي تُنتج ضمنه الثروات والسلطات والهويات. هذا يعني أن معاداة السامية، وأشباهها من عقائد، كاذبة، حتى لو احتوت على وقائع صادقة، لأن الوقائع لا تنطق وحدها بالحقيقة، ولا بد من النظر في المنهج والإطار والموقع، التي تم ضمنهما انتقاء وصياغة تلك الوقائع. والسياق في حالة العقائد الاستئصالية هو بالضبط تعيين الأقلية/العدو، الضروري للتغطية على تناقضات تشكّل «الشعب» أو الأمة نفسها. هذا يعني أن الأكثرية، التي تعتبر حامل الشعب أو الأمة، لا يمكن أن تحافظ على صفتها هذه، إن فقدت الأقليات. سيبقى معادو السامية يشتكون من هيمنة «اليهودية العالمية»، حتى لو أبادوا ملايين اليهود، وسيسعون إلى إنتاج وتجميع الوقائع، التي تدعم منظورهم؛ ومثلهم سيواصل أصحاب مقولة «الأكثرية المضطهدة» تذمّرهم من «الأقلوية»، أو مؤامرة «تحالف الأقليات»، مهما امتلكوا من سلطة، أو ارتكبوا من مجازر، وسيكررون سردهم الطويل عن «المظلومية»، إلى ما لا نهاية.
عدم الانتباه إلى مشكلة البنية والنظام، المولّدة للأزمات، قد يقود إلى مفارقات غريبة، فإذا افترضنا أن أكثرية ما نجحت بالاستئصال الكامل لقوة، أو قدرات، أو حتى وجود أقلية مُشيطَنة، فغالباً سيُنتج النظام تمايزات وتصنيفات جديدة، قد تكون تكراراً ساخراً للقديمة، كأن يتهم أبناء «الأكثرية» بعضهم بأنهم يشبهون الأقلية البائدة، أو تلوثوا بها، أو يكررون ممارساتها، أو كانوا متواطئين معها في ما مضى. وفي كل الأحوال لن تعدم «الأكثرية» السبل لإنتاج أقلياتها، ما قد يجعلها تلتهم نفسها في نهاية المطاف؛ وتتفكك إلى أقليات متصارعة، خائفة من الآخر، ولا يفارقها شعور الاضطهاد. عملية «الأقللة» هذه، أي إنتاج الأقليات، ووسمها بصفات معينة، أو اتهامها بالاستئثار بامتيازات ما، متضمّن في الإنتاج الأيديولوجي لمقولة «الأكثرية»، وسردها عن ذاتها، ولا سبيل لتلافيه إلا بالنقد الجذري لذلك النمط من المقولات والروايات، وبيان مدى تهافت الطرح، الذي يفسّر القمع، أو الاستغلال، أو التهميش، بإرادة أو مؤامرة ذات أقلويّة شريرة، أشبه بورم في الجسد الطبيعي السليم للأمة أو الشعب أو المجتمع.
«الشر» ليس إذن ذاتاً تقبع في الخارج، كما أن الفصل بين داخل وخارج تعسّفي وغير منهجي، وأقرب لنظريات المؤامرة. ولكنّ هذا لا يعني أيضاً أن «كلنا فاسدون»، ولا ضرورة أصلاً لهذه المقولة في سياقنا، لأن تحديد الفاسد والمذنب والمسؤول هو اختصاص نظام القانون بالدرجة الأولى، القائم على ركيزة أساسية، هي الذات القانونية المُفَردَنة، الطبيعية أو الاعتبارية. وتطبيق مقولاته على التحليل الاجتماعي والتاريخي ليس أكثر من خلط منهجي، خاوٍ من المعنى والقيمة. مع التذكير أنه لا يمكنك قانونياً أن تحاسب هوية أو جماعة، فقط أفراداً، أو مؤسساتٍ ذات شخصية اعتبارية.

الإنسانية الزائفة

هنالك مسألة أخرى، تنبّه لها عادةً «دراسات معاداة السامية»، وهي اختصاص بحثي كامل، يكاد لا يكون له أثر باللغة العربية: معادو السامية ليسوا بالضرورة معادين للمساواة، أو للتحرر، بل قد يكونون مطالبين بهذا كله، وحَمَلَة «نزعة إنسانية»، إلا أنها إنسانية زائفة بالضرورة. يعتبر هذا النوع من «الإنسانيين» أن أمتهم، والأمم المجاورة، تحمل قيماً إيجابية، على رأسها المساواة بين البشر، ولكن هنالك أقلية أو أقليات معيّنة، تعيق تحقق هذه المساواة، بما تملكه من نفوذ وسيطرة. إنها تقبع هناك في الأعلى، على قمة هرم السلطة، أو النظام العالمي، ولذلك فالخلاص منها عمل ثوري وتحرري، ويحمل الخير للإنسانية جمعاء.
يصل «الإنسانيون» إلى نتيجة مفادها، أنه لا بد من الانتصار على الأقلية/العدو الخارجي، وإدماج كل الفئات المتنوّعة داخلياً في جسد الأمة. هذا يعني أن المساواة تتضمّن الإلغاء بالضرورة، إلغاء «الخارجي» الأعلى، وتذويب «الداخلي» المختلف. إذ تُعتبر أي طائفة أو مجموعة، تعبّر عن اختلاف ما، أقرب لـ»يهود الداخل»، وهي عبارة استخدمها النظام العراقي السابق؛ أو ربما يكونون بشراً مشوهين، نسوا انتماءهم للأمة، ولا بد من تقويمهم، وتحريرهم من اختلافهم، كي يستحقوا المساواة، ولذلك أمثلة في مسيرة التحديث التركي، إبان عهد أتاتورك، وكذلك قبله وبعده، حين اعتُبرت إثنيات معيّنة «أتراكاً مشوّهين»؛ وكذلك في حكم البعث السوري، الذي تحدّث كثيراً عن «عرب بائدة»، يجب أن تتذكّر عروبتها.
لا يبدو أن المنطقة قد نجحت بتحقيق أي قطيعة مع هذا التراث «الإنساني» أو «التحرري» الزائف، فهي ما تزال تعتبر أن «الحرية» أو «الوطنية» أو «دولة المواطنة» لا تمرّ إلا بالإدماج الكامل في جسد الأكثرية المفترضة، وإذا لم يتم الإدماج، فعلى الأقليات أن تتوقع استئصالاً مؤلماً، هو ليس أكثر من «رد فعل طبيعي»، على رفضها لكل تلك «المساواة». بالطبع لا يمكن للإنساني الزائف طرح أسئلة على الذات، من نوع: ما ذلك الاندماج الذي يأتي تحت التهديد؟ وبأي حق تطالب «الأقلية» بأن لا تتصرف بوصفها كذلك، ما دُمتَ تعاملها بمنطق «الأكثرية»؟
ربما لا يمكن الوصول إلى نزعة إنسانية متسقة دون السعي الدائم لنقد وتجاوز دعاوى «الأكثرية»، أو على الأقل التخفيف منها، وهذا يعني أن البناء الأيديولوجي للأمة الأحادية غير قابل لإنتاج أي حرية أو مساواة فعلية، والأجدى دمقرطة «الأمة»، أي العمل على ضمان أنها لا تقوم على غلبة أي قومية أو دين أو طائفة، تميّز نفسها بوصفها «القوم الأكثرية»، التي تحمل الوطن، وتصوغه على صورتها ومثالها. يمكن تسمية هذا الحل بـ»الوطنية الدستورية»، وهي وريث جيد لأفضل ما في قيم النزعة الإنسانية، والتنوير، والنظرية النقدية، ومشروع الحداثة نفسه، وفيها لن يجد المواطنون أي مشكلة في القول، إنهم فئات ومواقع وشعوب متعددة، وليس شعباً واحداً من الأزل إلى الأبد، يملك الحق التاريخي باستئصال كل من يشكك في ذلك.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

    حسنا فعل الكاتب أن وصف الواحد في المئة بصفتهم اليهودية، علما أنهم لا يستخدمون هذا في أدبياتهم ويعمون عنها إلى درجة التخويف من ذكرها. ولمناهضيهم من اليساريين أعلام يهود كذلك، وليس كارل مارس إلا واحدا منهم. ولكن هل في اليهودية نزعة عقدية تدعوهم إلى السيطرة والتواري؟ ولماذا خصهم الله في التنزيل بقسط وافر من البيان بصفتهم الدينية لا بصفات أخرى ينتحلونها؟ وللتذكير، فإن المفاصلة عن الآخر وفق هوية قسيمة لهؤلاء الأشرار أفضل لمعرفة الصبغة التي تليق بنا، ولا مانع من ألوان أخرى تطعم بها اللوحة الجميلة، على ألا تتشظى كالفسيفساء في “وطنية دستورية” فقط من أجل ألا “يجد المواطنون أي مشكلة في القول، إنهم فئات ومواقع وشعوب متعددة، وليس شعباً واحداً”.

  2. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي محمد سامي الكيال. الوطنية الدستورية هي حل مناسب للدولة الحديثة التي تذكرني بالأيام الأولى للثورة السورية حيث كان هناك مايشبه الإجماع على هذا المطلب. لكن، وكما يبدو الحال عليه اليوم، عن أي دستور نتكلم! لأن هذا ماسيعطي الوطنية الدستورية معناها في النهاية.

اشترك في قائمتنا البريدية