انتقل الجدل حول عملية «طوفان الأقصى» ومن ثمّ حرب الإبادة الإسرائيلية ضد قطاع غزة، إلى مستويات جديدة، مع تصاعد التحذيرات من حرب إقليمية، لن تسلم منها أي من دول المنطقة. والحرب الإقليمية في حالة المشرق العربي قد لا تعني فقط صدامات عسكرية بين قوى مسلّحة نظامية وشبه نظامية، بل أيضاً أشكالاً مختلفة من النزاع والاقتتال الأهلي. لم تعد المسألة إذن تعاطفاً خطابياً، أو حتى تضامناً سياسياً منظّماً، مع قضية مترسّخة في المخيّلة السياسية العربية، بل توترا اجتماعيا شاملا، يؤثّر في فئات متعددة، ويتصاعد تدريجياً مع كل حدث. ولهذا انعكاساته بالطبع على نمط الخطابات السائدة، والسجال حولها. يمكن القول إن الحرب الدائرة أعادت صياغة كل المسائل الأساسية في العالم العربي، ومنها الموقف من الأنظمة الحاكمة، الدين، القومية، التاريخ، العلاقات بين شعوب المنطقة، وتصوراتها عن الذات والآخر، إلخ.
قد يكون ارتفاع مستوى الاستقطاب السياسي والفكري حالة «طبيعية» إذن ضمن هذا الشرط، وهو يتراوح بين تسفيه الرأي الآخر وحامليه، مروراً باتهامهم بالخيانة والعمالة، وصولاً إلى محاولة أذيتهم جسدياً. وبالتالي فإن الدعوة إلى «الحوار الهادئ» أو «العقلاني» ستنقلب هي نفسها إلى جانب من جوانب الاستقطاب: سنرى متحدّثين يسفّهون غيرهم بتعصّب، ويعتبرونهم جانباً من المشكلة والأزمة، لأنهم غير «هادئين» في طرحهم. ألا يمكن التهرّب من كل ذلك الاستقطاب؟
ربما لا تكون الدعوة إلى حوار فعلي ممكنة في شرط الحرب، فلدى الاضطرابات الاجتماعية الكبرى، غالباً ما يُعاد ترتيب المواقع والانحيازات والرؤى، بشكل حدّي وعنيف، وهذا لا يقتصر على الموقف السياسي المباشر، بل حتى على العلاقات الشخصية والخيارات الحياتية الخاصة، سبق لدول عديدة في المنطقة أن شهدت حالاً مماثلاً، مع انتفاضات «الربيع العربي» بموجتيه، ونحن الآن أمام إعادة ترتيب جديدة، ستؤثر على ثقافتنا وعلاقاتنا الاجتماعية بشكل كبير.
يمكن أيضاً ملاحظة الشرط التواصلي، الذي يجري ضمنه الاستقطاب المذكور: لقد بات عدد أكبر من الناس قادراً على التعبير المباشر، بالكتابة والصوت والصورة؛ وفي إمكان الأفراد بناء شبكاتهم الافتراضية الخاصة مع آخرين، يتبادلون معهم الآراء والاتهامات، وأحياناً الشتائم؛ ومتابعة كثير من «المؤثّرين» الذين لم يعودا اختصاصيين في مجالهم بالضرورة، أو حتى فاعلين في الشأن العام على النمط الكلاسيكي، وبالتالي فإن تعبيرات الغضب والحقد والتظلّم، ستجد مجالاً أكبر للانتشار، وستؤدي بالضرورة إلى ردود فعل أكثر تطرّفاً وعشوائية.
قد لا يكون من المبالغ فيه القول إن الحرب وصلت اليوم إلى عمق لغاتنا، بألفاظها ومفاهيمها، والتهرّب منها غير ممكن إلا بالصمت، لكن في حال اخترنا الكلام، فهل من المجدي خوض معركة ثقافية، موازية للأعمال العسكرية والاضطرابات الاجتماعية؟ وإلى أين يمكن أن تصل بنا تلك المعركة؟
قضية جامعة
سبق لممارسات وعمليات فصائل فلسطينية التسبب باضطرابات اجتماعية وطائفية شديدة، وحروب طاحنة، وصلت في أحيان ليست بالقليلة إلى حد الإبادة الجماعية، كما حدث في الأردن ولبنان، لكن اللافت أن «القضية الفلسطينية» نفسها لم تكن موضع النزاع الأساسي، فحتى الأطراف العربية التي قتلت فلسطينيين، أو تعرّضت للقتل بسلاح فصائل فلسطينية، لم تشكّك بشكل علني ومنهجي بالحق الفلسطيني، إلا في حالات محدودة. بل إن بعض مجازر المخيمات ارتُكبت بحجة الدفاع عن «القضية». عموماً كانت فلسطين، بتأويلاتها المتعددة والمتعارضة، خطاباً جامعاً لفترات طويلة، يمكن بناء جانب من شرعية أنظمة حاكمة على أساسه. وظلّت القضية مركزية أيديولوجياً، حتى بعد توقيع مصر أول معاهدة سلام عربية، إذ عملت دول عدة، ومنها سوريا والعراق والسودان وليبيا، بأنظمتها العسكرية الحاكمة، على تأكيد «الصمود والتصدي» بوجه أي تفريط بمركزية القضية؛ كما اتفقت أغلبية التيارات القومية واليسارية والإسلامية على دعم ذلك «الصمود» وما يزال ذلك الاتفاق مؤثّراً بشدة على ثقافتنا المعاصرة.
في الواقع نظرة على الثقافة المصرية نفسها، بعد اتفاقية كامب ديفيد، ستبيّن أن النظام الحاكم ربما سعى إلى «الخروج» من القضية عسكرياً وسياسياً، لكنه لم يقم بـ»تصفيتها» أبداً من ناحية ثقافية، لا في الإعلام الجماهيري، ولا المناهج التعليمية، ولا الخطاب الديني الرسمي. وربما تكون مصر أحد أهم مصادر الصور والرموز والكتابات المعادية لإسرائيل في العالم العربي. اليوم، ما تزال القضية «مركزية» ما دامت محرّكاً لكثير من الصراعات على امتداد المنطقة، لكنها لم تعد تبدو «جامعة» كالسابق. تتعالى الأصوات المشككة، والناقدة، التي تصل في بعض الأحيان إلى تأييد إسرائيل، أو الحديث عن أثر «تخريبي» للقضية على امتداد تاريخها. وقد يمكن تفسير هذا بعوامل متعددة، على رأسها الدمار الكبير، الذي طال الحواضن البشرية والاجتماعية الأساسية لـ»القضية الفلسطينية» مثل سوريا والعراق؛ وممارسات الميليشيات، التي ترفع شعار المقاومة من اليمن حتى لبنان؛ وكذلك دور الإسلام السياسي في خلق شعور بالنفور من «القضية» بين فئات متعددة.
وقد يعني هذا نتيجة خطيرة، ليست على الإطلاق في مصلحة الشعب الفلسطيني: «القضية» ما تزال مركزية لهذه الدرجة في المنطقة ليس فقط بسبب تعبيرها عن الحق الفلسطيني، بل أيضاً لارتباطها بوقائع كارثية، مثل الخراب والميليشياوية والإسلام السياسي. وهذا يفسّر أيضاً ضعف قدرتها على تحقيق نوع من الإجماع، حتى على مستوى الخطاب. يُلغّم النزاع حول «القضية الفلسطينية» اليوم كثيراً من مفاهيم اللغة العربية المعاصرة: مفردات مثل «الصمود» و»العزّة» و»الأرض» بل «القضية» نفسها، كثيراً ما تُردد في سياق ساخر؛ فيما المفاهيم الأكثر تركيباً، مثل «المشروع الصهيوني» «الاستعمار» «التحرر الوطني» باتت فاقدة للمعنى بالنسبة لكثيرين؛ وقد وصل الصراع حتى إلى المفاهيم الدينية، إذ لم يعد من النادر أن نسمع تجديفاً بمكانة «الأقصى» وبمبدأ «الدفاع عن المقدّسات». تحاول فئات كثيرة، من المثقفين والمتدينين والناشطين، تثبيت معاني تلك الألفاظ، إلا أن هذا بات يتطلّب عنفاً لغوياً ومعنوياً، أكثر من المعهود في كل تاريخ القضية.
يصعب تجاوز كل هذه الوقائع، والقول إن «القضية» بخير كما كانت، فعندما يجد البشر أنفسهم وسط صراع، يحبُّ البعض وصفه بـ»الجيوستراتيجي» يدفعون أثمانه بشكل مباشر، ودون أن يكون لهم أدنى قرار فيه، بل كثيراً ما تأتي قرارته من دول أجنبية مثل إيران، وميليشيات موالية لها، فإن محاولة تثبيتهم على أي معنى ستكون شديدة التعسّف، ولن تؤدي إلا لزيادة الاستقطاب، وليس «التوعية» بالقضية مجدداً.
عجز التواصل
تفقد اللغة، في شرط استقطابي كالذي نعايشه، كثيراً من قدرتها التواصلية، بمعنى إمكانية إنتاج المشتركات والمعايير والقيم، وتمسي أشبه بميدان معركة، فيه كثير من الأفعال الكلامية الأقرب للعنف. لا يهتم معظم المتخاصمين حالياً بفهم ما يريد الطرف الآخر قوله فعلاً، بل بإسكاته عبر حشد أكبر عدد ممكن من النعوت والاتهامات وعبارات التحقير، وصولاً إلى وصمه والتشهير به. وهذا السلوك اللغوي/الاجتماعي، ليس بسبب الجهل أو التعصّب وحدهما، بل لانعدام أي إطار تواصلي، يمكن للبشر فيه تداول الأفكار، والتعبير عن رغباتهم ومصالحهم ومعتقداتهم، بطريقة تضمن الحد الأدنى من تعدديتهم. توجد أطراف ترى أن الحق واضح، وواحد، ومحدد سلفاً، وعلى البشر أن يكيّفوا أنفسهم معه، أياً كان واقعهم وموقعهم الاجتماعي، ورؤاهم عن واقعهم وموقعهم، وهذا بالطبع سيولّد كثيراً من «المقاومة» والعنف المضاد.
قد يكون كل هذا العنف اللغوي ظاهرة سلبية، لأنه دليل على العجز عن التواصل في الشرط الراهن، وكذلك لأضراره المعنوية والمادية على أفراد كثر؛ إلا أنه من ناحية أخرى قد يساهم في خلق مجال للتعددية، إذ كثيراً ما تتعرّف أطراف اجتماعية على ذاتها، من خلال قدرتها على ممارسة العنف اللغوي المضاد، ضد جهات تمارس عليها القمع. وبالتأكيد لا تخاض المعارك على مستوى اللغة وحده، فهو أحد جوانب صراع اجتماعي مركّب.
علمنة «القضية»
يمكن إذن القول إن الاستقطاب الحالي في العالم العربي يساهم بالفعل في «علمنة القضية» وهذا لا يعني إقصاء الرموز الدينية عنها، وإنما جعلها مجالاً لتداول عام، متعدد المشارب والفئات، رغم عنفه الحالي. الأمر الذي لم يكن متحققاً عندما كانت القضية المركزية «جامعة» حقاً، بمعية دول وحركات سياسية أقرب للشمولية. من المستبعد اليوم حضور طرف، قادر على تحديد ماهية «القضية» وفرض تحديداته، ما لم يستخدم السلاح بشكل مباشر. وبما أن القضية الفلسطينية عادت إلى الصدارة، بوصفها عقدة تجمع كثيراً من المسائل الأخرى، فقد تكون «علمنتها» بهذا الشكل، مقدمة لبروز طروحات جديدة، في كل المجالات، أكثر «دنيوية» بمعنى أنها تحمل أصوات أفراد وفئات، لم يعد باستطاعتها القبول بأفكار متعالية، ما يدفعها لانتهاك «مقدسات» لطالما اعتبر حضورها بديهياً أو طبيعياً، على رأسها التشكّل التاريخي لكل دول المنطقة في فترة الاستعمار، وما بعده؛ ومعاركها القومية؛ ومفاهيمها عن شعوبها، وأعدائها وأصدقائها.
لن يمكننا الآن الحديث عن «فلسطين» بهدوء، لكن ربما تشير الضجة الحالية إلى أسئلة تأخّر طرحها جداً، ولم يعد من الممكن تأجيلها.
كاتب سوري
حرب صليبية صهيونية قذرة جدا تشنها عصابة الشر الصهيو أمريكية البريطانية الألمانية الغربية الحاقدة الغادرة على شعب فلسطين منذ 1948 والآن يريدون تهجير الفلسطينيين من غزة العزة و الضفة الغربية يا عينيا، حلل وناقش ✌️🇵🇸☹️💪🚀🐒🚀
مدهش وبليغ من الكاتب الباحث الكيال ، أرجوا ملاحظة انني افضل ان انعت الكاتب الكيال بصفة الباحث ، لأن مقالاته هنا ليست مجرد مقالات صحفية ، انها أكيداً اكثر من ذلك بكثير
الحديث بهدوء عن فلسطين مناقض للصراع الجدلي في الميدان.ممكن ان تكون في ألمانيا وهناك تتكلم بهدوء.اما وتنور الإبادة مشتعل فلا وألف لا حتى مطلع الفجر الابيض.
الظلم، هو أساس أسلوب الحكم، في أي نظام ديمقراطي، لا فرق بين أسلوب حكم (آل البيت) الملكي، أو أسلوب حكم (شعب الرّب المُختار) الجمهوري، على أرض الواقع 🤣🤭🫣
أي لا عدالة، في نظام الشفاعة والمحسوبية أو الواسطة (حق الفيتو/النقض) للأمم المتحدة وكل مؤسساتها، الفاسدة/المغشوشة برشوة المال السياسي🤣🤭🫣
بمعنى آخر، لا يوجد سياسي/ديمقراطي، يستخدم أسلوب صادق، ومن يظن غير ذلك، جاهل في السياسة أو الديمقراطية أو العدالة أو خلاصة حكمة لغة القرآن وإسلام الشهادتين، على الأقل من وجهة نظري 🤨😉
🤑🙊🙉🙈🇺🇳📟📓✒️