في العراق: ثقافة للمحاصصة

حجم الخط
1

حاول البعث العراقي في عودته الثانية باستلام السلطة تموز/يوليو 1968 إعادة النظر بمجمل سياساته، وما ارتكب من أخطاء شنيعة في انقلابه الدموي شباط/فبراير 1963، التي لا يتسع المجال لسرد تفاصيلها هنا، ولربما اتضحت معالم تلك المراجعة منذ أيام يوليو الأولى، فقد كانت قيادته هذه المرة حذرة في انتقاء واجهات الحكومة وتشكيلاتها القيادية، فاختارت لإشغال وزارة ثقافتها، شفيق الكمالي الشاعر والفنان التشكيلي والقيادي في الحزب الحاكم أيضا، وكان هذا الاختيار موضع ترحيب جميع الأطراف السياسية، بمن فيها تلك التي قمعت وأبيدت قياداتها في انقلاب فبراير، وأعني الشيوعيين العراقيين لما للكمالي من شبكة علاقات طيبة، تشير لها مواهبه الإبداعية النابعة من فنون تتصل بخطاب إنساني جمالي. ومع أن الكمالي عضو في أعلى قيادة حزبية ومؤلف لنشيد البلاد الوطني، إلا أنه لم يسلم من بطش صدام حسين الذي عمل على تصفيته بعد تسلقه وإشغاله الهرم الأعلى في الحزب والحكومة.
وزارة الثقافة العراقية هذه خضعت لنظام محاصصة طائفية مقيتة بعد سقوط نظام صدام أبريل/ نيسان 2003 وظلت أسيرة هذا النظام الذي يتنافى ويتقاطع تماما مع الثقافة بمفهومها الجوهري الجمالي، ما عرضها  لشتى أنواع الإهانة والإذلال..فلو استثنينا أول وزير للثقافة بعد 2003 وهو القيادي الشيوعي والإعلامي مفيد الجزائري، لصدمنا بتلك الاختيارات المنافية لمفهوم الثقافة جملة وتفصيلا، رغم بعض المواقف المعلنة والرافضة لهذه السياسة، ولربما نتذكر صيحات الناقد العراقي فاضل ثامر رئيس اتحاد أدباء العراق السابق، حيث بح صوت الرجل وهو ما انفك مطالبا بإخراج هذه الوزارة من مبدأ المحاصصة، الذي أوجدته سياسة الاحتلال منذ تشكيل أول مجلس حكم للعراق بإدارة الأمريكي بول بريمر 2003، لكن دون جدوى، بل جوبهت تلك الصيحات بردود أفعال تكاد تكون ساخرة منها.الوزارة هذه ولفقر موازنتها أطلقت عليها بعض الكتل الموغلة بالفساد ونهب المال العام (وزارة التفاهة). ومن يتتبع صفات من شغلوها يجد سخرية قدر كتبت للثقافة العراقية.
لست بمعرض تجريح، ولا تشهير بشخوص من شغلوا هذه الوزارة، بقدر ما هي مكاشفة لإيضاح قدر العراق الثقافي في ظل حكومات الفساد والطائفية والقبليات والأمية والتخلف، وإلا ماذا يعني أن يشغل تاجر معمل أعلاف منصب وزير ثقافة؟ في عام 2014 اختيرت العاصمة بغداد لتكون عاصمة الثقافة العربية، ولكن من الذي شغلها؟ أسندت الحكومة مسؤولية وزارة الثقافة لأحد الجنرالات لإشغالها بالوكالة، إضافة لإشغاله منصب وزير الدفاع! هل اختفى مثقفو العراق؟ هل يعقل أن الكتلة التي رشحته خلت من وجود مثقفين إلا هذا الجنرال؟ وما هي أوجه التشابه أو التقارب بين البسطال العسكري والكتاب؟ جرى ذلك وسط صمت المثقفين أنفسهم، بل راح عدد غير قليل منهم ليتقربوا من سيادة الوزير الجنرال، على أمل الحصول على مغانم مشروع عاصمة الثقافة، الذي أحدثت عمليات النهب المعلنة عاصفة إعلامية تناقلها العديد من الفضائيات، مشاريع وهمية لا وجود لها، نشاطات غير مرئية، أفلام وأغان معادة عفا عليها الزمن باستثناء تجديد الأغلفة التي يطلق عليها (كفرات) حسب تسمية أصحاب دور التسجيل، كل ذلك جرى من صرف مالي بالمليارات وليس بالملايين، وبقي ملف فساد العاصمة الثقافية غير قابل للكشف والتحقيق، فهو يهدد بإقالة وتسقيط ولربما تصفية من يقترب لغلافه.
عالم آثار ومثقف معول عليه هو عبد الأمير الحمداني عولت عليه الأوساط الثقافية حين اختير لإشغال هذه الوزارة وكان خير المؤهلين لها، لكن من الذي جاء به؟
الحمداني مرشح (عصائب أهل الحق) وهو فصيل شيعي مسلح له قاعدته الشعبية، ومع جل احترامي له ولجميع الفصائل مسلحة، أم غير مسلحة لكنها ليست بمؤسسات ثقافية أو إعلامية، ويعني أن الثقافة حرمت تماما من حق اختيار مرشحها لإشغال هذه الوزارة التي  لم تحسب لها حكومات المحاصصة أيما حساب يليق بثقافة البلد الذي أنجب الجواهري ومظفر النواب ومحمد مكية وعلي الشوك وجلال الحنفي وهادي العلوي وجواد سليم ومائدة نزهت ولميعة عباس عمارة و..و، إلخ من قامات إبداعية  تقيم في ذاكرة الأجيال العراقية التي نهبت معظم أعمارها الحروب والحصارات.
حين تنادي اليوم بإشغال هذه الوزارة لمن هو بمواصفات شفيق الكمالي، ستنهال عليك رماح الاتهامات بحنينك لنظام صدام، الذي تهاوى منذ عشرين عاما، ولكن من الذي يطلق عليك هذه الرماح؟ إنه قطيع راكس بثقافته الطائفية، قطيع لن يتحرر عقله بعد من مخلفات الجهل المزمن.هاتوا لنا وزيرا مثقفا منبثقا من الثقافة الحرة، لا ثقافة طائفة ولا حزب ولا قبيلة.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نضال شناوة:

    إن أول وزير ثقافة بعد انقلاب عام 1968هو صلاح عمر العلي وليس شفيق الكمالي وقد بقي العلي وزيرا الثقافة حتى عام 1970

اشترك في قائمتنا البريدية