ثنائيات التنوير المعكوسة في الجزائر: واقع الحراك وإكراهات تبادل الأدوار

منذ فترة طويلة، وإلى وقت قريب جدا، كان مفهوم الدولة المدنية يطرح في الكثير من الكتابات التنويرية للعديد من المثقفين الجزائريين، في المقابل المضاد لمفهوم الدولة الدينية. ولا يغيب عن أي قارئ متعود على الوصول إلى مخزون ما بين السطور، أن الأمر كان مبيّتًا في العديد من الحالات، وأن المقصود الحقيقي منه هو الإبدال المتعمد لبراديغم الدولة العسكرية ببراديغم الدولة الدينية، لخدمة تصور أيديولوجي يريد الاقتناع والإقناع بأن ما يسمى بالدولة الدينية هو الخطر الوحيد الحقيقي الذي بإمكانه أن يعطل مشروع الدولة المدنية التي تسعى إلى تحقيق مجتمع علماني متفتح على قيم الحرية والإنسانية والاختلاف، لأن واقع المجتمعات العربية حاضرا في العراق وسوريا واليمن وليبيا، وهي تمر بما مرت به الجزائر في التسعينيات، يقدم الأمثلة التبريرية، الداعمة لرؤية استحالة تحقيق أي بعد حداثيّ ممكن في هذه المجتمعات، من دون الاستقواء بالمؤسسات العسكرية، لتقويض ما تقترحه الدّينَنَة من مشاريع غير قادرة على تحقيق دولة دينية، ولكنها قادرة على جلب حشود الجماهير إلى قناعاتها الأيديولوجية، عن طريق ممارسة الدعاية الدينية المدعومة بالمال الريعي، المتفجر من آبار الممالك البترولية المتحالفة مع الغرب الإمبريالي.
لقد ترسخ مفهوم الدولة المدنية كحلم قابل للتحقيق في العديد من سرديات الفكر التنويري، بشرط الاستقواء على ما يناقضه من براديغم لا يتماشى معه أصلا وهو الدولة الدينية، وذلك بعنصرين مهمين هما:
– العمل التنويري المتواصل عن طريق إحداث اختراقات عمودية في الأنساق النظرية المغلقة لبنيات التعليم والتربية والثقافة السائدة، لأجل إعادة تشكيل كلّ ما يمكن أن يقف عائقا في وجه تغيير العقليات البالية، التي تهيمن على البرامج التربوية والتعليمية والثقافية، وتوجيهه توجيها يخدم فكرة تحقيق الدولة المدنية،
– مهادنة المؤسسات العسكرية – القوة الفعلية- والتقرب منها لاستعمالها لصالحها، في حالة ظهور أي تصادم على أرض الواقع، يكون فيه مشروع الدولة المدنية مهددا مرة أخـــــرى من طــــرف قوى ظلامية، تعيد النخب التي تطمح إلى العيش بسلام وحرية وأمن، إلى تجارب مظلمة في تاريخ الدولة الوطنية المستقلة، وكانت نتيجتها العودة بالمجتمعات العربية إلى وضعيات ما قبل كولونيالية في العديد من المجالات الحيوية.

واقع ما سكتت عنه التصورات التنويرية في الجزائر من ممارسات مرتبطة بالحريات العامة للمواطن الجزائري، واعتماد الكيل بمكيالين في تخريج المفهومات الإنسانوية وتعييرها بالمعيار الأيديولوجي للدفاع بالمبادئ الإنسانية عن المبادئ الإنسانية.

غير أن واقع ما سكتت عنه التصورات التنويرية في الجزائر من ممارسات مرتبطة بالحريات العامة للمواطن الجزائري، واعتماد الكيل بمكيالين في تخريج المفهومات الإنسانوية وتعييرها بالمعيار الأيديولوجي للدفاع بالمبادئ الإنسانية عن المبادئ الإنسانية وحرية التعبير والعدالة الاجتماعية، كثيرا ما طرح مأزق الأفق المغلق، لتصورِ مشروعِ مجتمعٍ متحيّزٍ يكاد يكون منفصلا عن واقع المجتمع الحقيقي، وهو يمارس التنوير بإملاءات فوقية، فيواجه القوى المحافظة بقناعاته المساواتية ويتستر على تناقضاته النظرية، بانغماسه الليبرالي في إكراميات الممارسات الريعية المبنية على المحاباة، الذي تدعمه مشاريع تشكيل طبقة وسطى تتوفر على الحد الأدنى من المناعة الفكرية والثقافية، ضد كل محاولة لإعادة المجتمع الجزائري إلى ديننة قادرة في كل لحظة على الخروج إلى مسرح السياسة، الذي من المفروض أن يكون حكرا على التوجهات العلمانية وهي ترفع شعار التنوير مشروعا لترجيح ما مال من تقهقر لبنية الوعي الجمعي في كفة التوجهات الدينية.
لقد كان أهم ما يشغل هذه التصورات اندراجها البعيد والعميق في معركة (الديننة والدينونة) وابتعادها الكبير، بل انفصالها في كثير من الحالات، عن واقع المجتمع الجزائري، بما هو أفراد مواطنون يسعون إلى عيش كريم، ويحاولون تحقيق طموحاتهم في أبسط الحقوق التي لم تُوزّع عليهم بعدالة كافية، على الرغم من المجهودات الظاهرة لبدايات الدولة الوطنية في معركتها مع التحديث والتنمية.
كما بدت العديد من هذه الكتابات، وهي تقدم الأنموذج الإقصائي للمجتمع وواقعه، نظرا لابتعادها عنه، من خلال تحولها، مع الوقت، سواء بإرادتها أو بدون إرادتها، إلى قوى ثقافية وأيديولوجية داعمة للتمركزات الأوليغارشية، التي اغتنت بمال الريع في غفلة من الصراع الأيديولوجي الدائر بينها وبين التيارات المحافظة، التي كانت تسعى إلى فهم ما حدث لها من تقهقر على المستوى الاجتماعي، جراء ما تعرضت له من صدمات، ما حصر جهدها التنويري في المجالات التي تخدم الطموحات الأوليغارشية الساعية إلى تشكيل وعاء استهلاكيّ لطبقة وسطى غير منتجة تستقي قدرتها المعيشية من التوزيع المنحاز وغير المتكافئ للريع، خاصة في القطاعات التي تمسّ تحسين ما تبذله من مجهود ليبيرالي في عيون العالم، وتقديم صورة مجتمع يتطور في سياق تاريخي واجتماعي مدروس، ترافقه تحسينات على مستوى البرامج التعليمية والمشاريع التنموية الموزعة بعناية على المناطق الأمامية للمجتمع، لتشكل صورة ظاهرة تغطي التشوهات الباطنة وتخفي فارق المكابدة داخل المجتمع، وفي عمق المدن المقصية والقرى المعزولة والمداشر المنقطعة عن المشروع التنموي، الذي يصبّ في جيوب الأوليغارشيا الجديدة، لإنتاج نمط تفكير ومعيشة هما أشبه بعملة واحدة لا يرى فيها كل وجه الوجه الآخر ولا يسمع رنينه.
لقد كان ترسيخ فكرة المحميات الأيديولوجية مولِّدا لتحقيق واقع المحميات الأوليغارشية (موريتي- نادي الصنوبر) في مقابل واقع لم تكن الخطابات التنويرية لتنتبه إليه أو تريد ذكره، وهو واقع عشوائيات الهامش، التي أنتجت محميات الصفيح المفتوحة على كل الاحتمالات، والتي نتج عنها التفريط في المنجز الصحي الذي حققته الدولة الوطنية في بدايات تعاملها الصادق مع التنمية، وهو التفريط الذي أعاد أمراضا اختفت نهائيا من جزائر الألفية الثالثة (الكوليرا والبوحمرون والسل..) كدليل حيّ على فارق الواقع الذي لم تنتبه إليه الخطابات التنويرية، التي كانت تحتفي احتفاء كبيرا بصورة وزيرة التربية الوطنية التي لا تجهل لغتها مع مسؤول عسكري سام في حفل تخرج من جهة، وتحاول تفسير ظهور هذه الأمراض تفسيرا أيديولوجيا يرسخ فكرة التدين، كسبب مباشر للتخلف، بدل الاعتماد على تفسير تنويري حقيقي كان يجب أن يبحث علميا عن الأسباب الصحية والاجتماعية التي أدت إلى عودة هذه الأمراض، ويسعى إلى تقديم الحلول الطبية لها.
لقد اكتشف العديد من الكتابات التنويرية فجأة، أن ربط الوعي التنويري بالقوة العسكرية الداعمة له، بإمكانه أن ينقلب في أي لحظة عندما تتسارع حركة التاريخ وتعيد البراديغمات المتضادة إلى وضعها الطبيعي، وأنه كان من الواجب وضع الدولة المدنية في مقابل الدولة العسكرية، لأن التركيز على الدولة الدينية يقتضي وضعها في مقابل الدولة اللائكية وليس العكس. ولعل هذا ما يفسر تخوفات العديد من المثقفين التنويريين من إمكانية تشكّل ملامح دولة عسكرية، مع ما يجري من أحداث في قمة السلطة السياسية، في حين أنهم كثيرا ما سكتوا عنها لفترات طويلة وهي تدعم رؤيتهم التي تقف ضد أي محاولة لديننة الدولة، بعيدا عن واقع مجتمع يعاني مما تناسته مشاريع الديننة والدينونة وتناسى التنوير بكل توجهاته، الحديث عنه في خطاباته الفكرية والسياسية والأدبية.

٭ كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صديق:

    بعد الحصاد المر لسنوات الدماء والدموع لا يجب لهذا الحراك السقوط تانية في فخ الاختيار بين الكوليرا …و الطاعون… لانهما ببساطة آفتان من القرن الماضي …؟ قليلا من الأيديولوجيا وكتيرا من الحس الأخلاقي بمصير هذا الجيل الحالم بغد أفضل .

اشترك في قائمتنا البريدية