«إني رأيتكما معا». بهذا العنوان المثير والمغري يستقبلني العمل الجديد لأحمد بوزفور (إصدار 2020). عنوان لا تخطئ العين أن ترى من خلاله أثر الفن، أو تأثير الفن فيه، خاصة وهو مقتبس من قصيدة/كلمات أغنية «لا تكذبي» لكمال الشناوي وتلحين عبد الوهاب. ويحق لي أن أتجاوز أثر الفن وتأثيره، لأنه أمر متفق عليه بين كل من هو عليم بالأغنية والأصوات التي صدحت بها… سأتجاوزه إلى الدلالة، هل مضمون العنوان دال على دلالة الأغنية نفسها؟ وطبعا هي الجمع بين الخيانة والكذب كما هو في سياق الأغنية، وهذا لا شك فيه.. لكن، هل سيقنعني هذا الدال بعدما قرأت النصوص؟ أعتقد أنه سيكون مقنعا لوقت وجيز، أي في المرحلة التي تقتني فيها الكتاب إلى غاية أن تنتهي من قراءته، علما أنه سيكون انطباعا أوليا لا غير، انطباعات نكوّنها قبل القراءة بناء على حمولتنا الثقافية. إذن العنوان بعيد (وهذا افتراض قارئ) عن ذلك الانطباع. فما دليلي إذن؟
نجد أن العمل مقسم إلى بابين، باب بعنوان «الحب» ثم باب عنوانه «الموت». الباب الأول يضم ثمانية نصوص قصصية. والباب الثاني إحدى عشرة قصة أغلبها مكثف.. غير أن هذا التقسيم الذي إن سلمنا بأنه تقسيم موضوعاتي، سنكتشف بعد ذلك أنه لا يمنع أن هناك تداخلا بين الثيمتين في النصوص، خاصة في القصة الأولى «تاريخ الحب»، حيث استعار القاص قصة توبة ابن الحمير عاشق ليلى الأخيلية – والقصة مشهورة في تاريخ الأدب العربي بنهايتها الموسومة بالموت- أيضا القصة الثانية من الباب الأول دائما، تتبنى الموت كلبنة لبنائها، غير أن هذا الموت يحضر باعتباره مصيرا لكل محب فنيت روحه في محبوبه، هكذا وبالتعبير الصوفي (الحب فناء). ولكن في الباب الثاني، يأتي مفهوم الموت بمعنى القتل، وبمعنى العبور فكل ما يؤدي إلى الموت فهو عبور يقول السارد: «هذه الحياة اسمها (الذهاب). نحن لا نعيش.. نحن فقط نذهب». ويأتي بمعنى الانقضاء مثل الصمت الذي مثله السارد بناقة تأكل السارد: «تأكل رجلي وبطني.. رأسي.. يدي اليسرى.. ها هي تأكل الآن يدي اليمنى.. يدي التي أكتب بهـ…». ويحضر الموت أيضا بمعنى الفناء كما تدل عليه عبارة القبور: «الناس قبور والأرض إرضة والتاريخ شواهد».
بناء على ما ذكرت بشكل موجز وسريع أعود لأقول، إن عنوان «إني رأيتكما معا» يخص رؤية الحب والموت، رؤيتهما معا. قد تكون تلك رؤية القاص، أو رؤية الشخصيات التي ينوب عنها ضمير الأنا في التعبير (إني)، أو هي رؤية القارئ حين ينتهي من تفاعله مع النصوص، فيعلنها: إني رأيتكما.. فنسأل: أين؟ فيقول: في نصوص أحمد بوزفور.. إنها رؤية لكلمتين متلازمتين، تتداخل دلالتهما في نصوص المجموعة لتضعا تصورات مفترضة يبنيها القارئ انطلاقا من الخيال الخصب الذي يمنحه بوزفور لقصصه الحية ذات الامتداد في فضاء من التخييل والأحلام والتصورات، التي يدعمها الصوت والصورة السردية، وبدعم من الصمت الذي يحتفي به الكاتب بشكل لافت للقارئ، كما في قصة «صمت العزاب»، فذلك لأن الصمت عتبة عوالم الإنصات للداخل الإنساني، هذا الداخل المضطرب، الذي ليس من طبيعته السكون مهما ظهر القالب الخارجي ساكنا.. والإنصات أيضا للساكن والمتحرك في الوجود الخارجي كترنح الشجرة التي يحكي عنها سارد قصة «الشجرة تترنح»: «في الترنح نوع من التداعي». والصمت إنصات، كما عند شخصية قصة «الغابة»، والإنصات معادل لنظرة نحو الأفق بعيدا، لعلها نظرة استشراف: «كان ينظر بعيدا.. إلى الأفق.. ثم قام فجأة وذهب بدون أن ينبس بكلمة».
إنها رؤية للحب والموت، وللحب الذي هو الفناء بتعبير الصوفية. وإنها رؤية للموت في تشكيل من الخيال المفرط، وأبعاد حلُمية خاصة تصوغ العوالم بعيدا عن المعقول، لرؤية الحياة كبداية طفل مبتسم مرح، وإبصار أفق النهاية كنهاية شيخ في قصة «أفق».. إنها رؤى وليست رؤية/رؤيا، رؤى تجمع بين ثنائيات ضدية… ويبقى العمل يثير الأسئلة ويحرض على فك شيفراته…
كاتب مغربي