ثورات الربيع العربي وبدء قطف «إسرائيل» ثمار الهجوم المعاكس عليها

منذ تأسيسها قبل 72 عاما، لم تشعر «إسرائيل» بخطر حقيقي يتهدد وجودها مثلما شعرت به عند اندلاع ثورات شعوب المنطقة، التي أصطلح على تسميتها بثورات الربيع العربي. على نحو واضح أدرك قادة الدولة العبرية، أن ثورات شعوب المنطقة، إذا ما تُركت بحالها دون التحرك السريع لوقفها، ومن ثمة القضاء عليها، ستؤدي حتما إلى قلب المعطيات والترتيبات الجيوسياسية، التي وضعها المستعمر الأوروبي، في عموم المنطقة، التي شكلت تربة صالحة لولادة ونمو الكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين، وهو ما سيضع بالتالي وجود الدولة العبرية في مهب الريح، لاسيما وأن خيارات الشعوب للحكم البديلة عن واقع الأنظمة القائمة، لن تكون بحال في مصلحة بقاء هذا الكيان الغريب، فضلا عن التعاون معه واعتباره مكونا إثنيا وسياسيا طبيعيا من مكونات المنطقة.
وهكذا كان على بنيامين نتنياهو الذي تسلم دفة الحكم قبل عام ونصف العام تقريبا من اندلاع ثورات الربيع العربي، التفرغ مع طاقم حكمه لمواجهة هذه الثورات، استيعاباً والتفافاً وحرفا للمسار، وصولاً إلى تفريغها من هدفها الأساس الذي قامت لأجله، وكل ذلك بالتنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة الضامن الاستراتيجي لأمن ووجود وتفوق الدولة العبرية.
وبنظرة شاملة وفاحصة تغطي السنوات الممتدة من نهاية عام 2011 تاريخ بدء أول ثورة من ثورات الربيع العربي من تونس وإلى غاية الآن، وما تخلل هذه السنوات، وما زال من أحداث جسام، يمكن القول إن ما شهدته هذه الفترة الزمنية لم يكن ثورات الشعوب فحسب، وإنما كان أيضا هجوما معاكسا لهذه الثورات، وهو ما اصطلح على تسميته «بالثورات المضادة» التي أغرقت المنطقة ككل وما تزال في بحر من الدماء، وأشاعت فيها الدمار والخوف، واستخدمت فيها وسائل وأدوات، الفتنة الطائفية والمناطقية، لإضعاف الشعوب الثائرة وإدخالها في مسالك إخرى تستهلك كل طاقاتها وتقضي على رغبة التغيير لديها. حتى الآن يبدو أن الهجوم المعاكس على ثورات الربيع العربي أو الثورات المضادة، قد نجح بالفعل في إيقاف الموجة الأولى من ثورات الشعوب، ومنعها من تحقيق هدفها الأساس المتمثل في التخلص من أنظمة الاستبداد، وهو ما يفسر على نحو كبير كيف أن شخصا مثل بنيامين نتنياهو بقي كل هذه السنوات العشر الماضية رئيسا لوزراء «إسرائيل» من دون انقطاع، باعتباره الشخص الذي أشرف مع طاقمه ومن خلف ستار على مواجهة ثورات شعوب المنطقة، بالتنسيق مع الدول النافذة في العالم، وصولا إلى الوضع الحالي، الذي تعتقد فيه الدولة العبرية أن خطر الثورات قد زال عنها، أو على أقل تقدير تم إبعاده وتأجيل إمكانية حدوثه وتكراره لسنوات طويلة مقبلة. المواجهة الإسرائيلية المدعومة أمريكيا ودوليا لثورات الربيع العربي وإعادة الإمساك بأوضاع المنطقة، استدعى إسرائيليا الإسراع في إكمال السيناريو المتفق بشأنه مع الأنظمة العربية، والقاضي بالوصول إلى مرحلة تطبيع العلاقات الثنائية بين الجانبين وإخراج «إسرائيل» رسميا من عزلتها الإقليمية، عبر اختصار كل المراحل التي كان ينبغي قطعها قبل الوصول إلى مرحلة التطبيع العلني، والانتقال عوضا عن ذلك إلى مرحلة التطبيع وفق الرؤية الإسرائيلية القائمة على مبدأ «السلام مقابل السلام» كبديل عن مبدأ «الأرض مقابل السلام» الذي رفعه النظام الرسمي العربي، كشعار وشرط للاعتراف بـ»إسرائيل» وتطبيع العلاقات العربية معها. على نحو واضح يمكن ترجمة مبدأ أو شعار «السلام مقابل السلام» الذي تقوم عليه موجة التطبيع الحالية، على أنه اعتراف عربي بـ»إسرائيل» من دون مقابل حقيقي تدفعه، بل مع مكاسب وغنائم لا تصدق حصلت وستحصل عليها. فالتطبيع بشروطه الإسرائيلية يعني عمليا موافقة ضمنية عربية على النية الإسرائيلية المعلنة، في التهام ما تبقى من فلسطين، وتحديدا الضفة الغربية التي احتلت في عام 76 بما فيها القدس الشرقية، التي كان الحديث العربي والدولي طوال السنوات الثلاثين الماضية، يتمحور حول وجوب إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة فيها، كأساس لتسوية سياسية شاملة للقضية الفلسطينية.

أدرك الإسرائيليون، أن ثورات الربيع العربي إذا لم يتم القضاء عليها، ستقلب الترتيبات الجيوسياسية، التي وضعها المستعمر الأوروبي للمنطقة

خطورة عملية التطبيع الراهنة لا تقتصر على الوضع الفلسطيني ذاته، بل تنسحب أيضا على عملية صياغة العلاقات بين «إسرائيل» والدول العربية المطبعة معها، حيث لا تكتفي الدولة العبرية باعتراف الدول العربية بها، من دون مقابل، بل تسعى إلى استخدام موارد وإمكانات هذه الدول في خدمتها أمنيا واقتصاديا وسياسيا. فالدول العربية ذات الإمكانات والموارد المالية والاقتصادية المحدودة، ستقدم بموجب اتفاقات التطبيع تعاونا أمنيا وثيقا مع «إسرائيل» بما في ذلك تبادل المعلومات والقيام بعمليات أمنية مشتركة، أو على الأقل التنسيق بشأنها وتستهدف «الإرهاب» الذي يعني في هذه الحالة كل من يحاول مقاومة «إسرائيل» أو إلحاق الضرر بها وبمصالحها، بمعنى آخر مطلوب من هذه الدول تجيير كل إمكاناتها العملاتية والأمنية في خدمة أمن «إسرائيل» وحماية وجودها. أما الدول العربية المطبعة، وذات الموارد والإمكانات المالية الكبيرة كالإمارات العربية المتحدة، فإضافة إلى التعاون والتنسيق الأمني والاستخباراتي، يهدف التطبيع القائم معها بشروطه الإسرائيلية المحضة، إلى وضع مواردها المالية أيضا في خدمة الكيان الإسرائيلي عبر المساهمة بطريقة، أو بأخرى في تمويل مؤسساته ومصالحه داخل «إسرائيل» تحت ستار التوقيع على اتفاقات ثنائية في مجالات الاستثمار والتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي، وحتى الثقافي والرياضي، بل إن الأمر يتجاوز ذلك إلى حملها على تمويل أنشطة ومخططات إسرائيلية عبر العالم، ومن ذلك بعض الحروب وعمليات شراء السلاح، وجلب مرتزقة كما يحدث في ليبيا، وأيضا تمويل وسائل إعلام وجماعات على صلة بـ»إسرائيل» كمنظمات اليمين الأوروبي المتطرف بنسخته الجديدة المتصهينة، الذي يستهدف الإسلام والمسلمين حصرا. والمفارقة أن التعامل الإسرائيلي مع الدول المطبعة حديثا، التي ستلتحق قريبا بقطار التطبيع، وإن بدا وكأنه حميمي الطابع، إلا أنه في واقع الأمر لن يغير من طبيعة النظرة الإسرائيلية الى هذه الدول وشعوبها كثيرا، والقائمة على حقيقة أنها دول معادية في الأساس، وينبغي بالتالي مواصلة وضعها تحت الرقابة الدائمة، والتأهب لأي تطورات مفاجئة قد تحصل فيها، لاسيما وأن مرحلة أو محاولة إخضاع الشعوب وتغيير قناعاتها تتطلب وقتا وجهدا كبيرين من دون وجود ضمانات بتحقيق هذا الهدف.
ورغم تمكن «إسرائيل» من الوصول إلى هذه المرحلة باستثمار نتائج هجومها المضاد على ثورات الربيع العربي، يبقى التوجس والخوف والحذر يحكم تصرفاتها ونظرتها إلى المستقبل مع ترسخ القناعة لدى صناع القرار فيها، وفي الدول الكبرى، من أن ما شهدته المنطقة العربية عبر السنوات العشر الماضية من ثورات شعبية عفوية وغير مسبوقة أو متوقعة، من شبه المؤكد أنه سيتكرر في موجة أو نسخة ثانية، ما دامت الأوضاع التي ثارت عليها شعوب المنطقة ما تزال قائمة، بل إزدادت سوءاً وترديا مع دخول التطبيع الرسمي العربي مع «إسرائيل» وبشروطه الإسرائيلية، مرحلة التنفيذ.
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي البحار:

    تحليل ممتاز

  2. يقول محمد:

    اجمل واصدق تحليل قرئته حتى الان بخصوص الربيع العربي

  3. يقول إبن اكسال:

    ثورات الربيع ……” العربي “…… كذبة قائمة و تتمدد …..إرضائا …..” للجهلة ” …..و خوفا من صدمة مشاعرهم الرقيقة ….ثم يتسائلون لمذا هم في الحضيض ….شعوبا و حكاما و إعلاميون ….

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    كان المفترض ان يبدا الربيع العربي في فلسطين لان خطورته ستكون مباشرة على اسرائيل ولكن الاحداث ثبتت عكس ذلك قكلنا يعلم ان كل المصالحات مع اسرائيل وقعت بعد معارك مهمة فمصر وقعت بعد الحرب والاردن والسلطة الفلسطينية بعد حرب الكويت وتدمير العراق والان بعد تدمير ليبيا وسوريا والربيع العربي حدث التطبيع مع الدول الاخيرة وسيكون هناك احداث مستقبلية ليست بالضرورة حرب اسرائيلية ايرانية وقد تكون تركية اوربية وامريكية وسيكون هناك مناخ جديد لمعاهدات جدبدة مع اسرائيل مع البقية الباقية ممن لديهم بعض الخجل حاليا وعلى الفلسطينيين استغلال اي فرصة حاليا مهما كانت التنازلات لاقامة دولتهم والا سيفقدون الامل نهائيا او كل ما سيحصلون عليه دولة غزة

اشترك في قائمتنا البريدية